"اليوم السابع" داخل مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة.. هنا يُصنع أغلى إحرام في العالم من الذهب والحرير الخالص.. التكلفة 25 مليون ريال.. تستغرق 10 أشهر.. ونوثق قطعة نادرة أرسلتها مصر للبيت الحرام.. صور

بهدوء مهيب ووقار يليق بجلال المقام، تُنسج واحدة من أقدس وأجمل التحف الفنية على وجه الأرض، لتزين الكعبة المشرفة، وتكسو جدران البيت العتيق بثوب أسود فاخر، خُطّت عليه آيات من القرآن الكريم بتطريز فاخر من الذهب والفضة، إنها كسوة الكعبة، التي تتولى المملكة العربية السعودية صناعتها داخل مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، بتكلفة سنوية تبلغ 25 مليون ريال سعودي، يتكفّل بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز من ماله الخاص.
خلال جولة ميدانية أجرها "اليوم السابع" داخل المجمع، بدا المكان وكأنه خلية نحل لا تهدأ، حيث يتنقل الصناع بين الأقسام المختلفة في تناغم تام، يعملون بدقة وصبر وإيمان بأهمية ما يصنعونه.
في أحد الأركان، وقفنا أمام ماكينات التطريز، حيث تُغزل الخيوط الذهبية بعناية فوق نسيج الحرير الأسود، فيما تتردد آيات الله في القاعة وكأنها تحيط بالمكان بركة وسكينة.
يحمل كل تفصيل في هذا المجمع قصة، من بينها قصة الشيخ عبد الرحيم أمين، أول من كتب بخط واضح على كسوة الكعبة، والذي أوصى بأن يُذكر اسمه سنويًا، تخليدًا لجهوده في هذه الصناعة المقدسة.
وفي ركن آخر، تُعرض قطعة أثرية نادرة من كسوة الكعبة كانت قد أُرسلت قديمًا من مصر إلى المملكة، في إشارة إلى عمق الروابط التاريخية بين القاهرة ومكة في خدمة بيت الله الحرام.
ويضم المجمع أكثر من 220 موظفًا، بينهم 165 من أمهر الصناع في العالم، يعملون بتناغم بين الحرفية والدقة والتقوى. وتستغرق عملية صناعة الكسوة عشرة أشهر، لتجهز لاستخدامها مرة واحدة فقط في العام، مع الاحتفاظ بها لمدة عام كامل قبل استبدالها.
ويتم استيراد الحرير الطبيعي الخالص من إيطاليا، بينما تأتي خيوط الذهب والفضة المطلية بماء الذهب من ألمانيا، وهي من أرقى وأجود الخامات العالمية، ما يرفع تكلفة الإنتاج، ولكنه يضمن ثوبًا يليق بقدسية الكعبة.
يبلغ وزن الكسوة الكاملة نحو 850 كيلو جرامًا، وتتكون من 47 قطعة من القماش، بعرض 98 سم وارتفاع 14 مترًا، وتطرز بـ 120 كيلو من الذهب، و100 كيلو من الفضة، و760 كيلو من الحرير.
ويحتوي قسم "تطريز المذهبات" بالمجمع على عدد من الصناع المختصين في تصميم وتطريز 54 قطعة مذهبة تُوزع على جوانب الكعبة الأربعة، وتثبت بطريقة دقيقة تضمن ثباتها على مدار العام، رغم تقلبات الطقس والحشود.
تبدأ مراحل التصنيع بمرحلة الصباغة، التي تجهز فيها خيوط الحرير الطبيعي لتكون مقاومة للاحتكاك وعوامل الطقس، تليها مرحلة النسيج الآلي التي تُحاك فيها العبارات والآيات القرآنية.
ويقوم قسم المختبر بإجراء اختبارات دقيقة للتأكد من جودة الخيوط ومطابقتها للمواصفات العالمية. ومن هناك، تنتقل الكسوة إلى مراحل الطباعة والتطريز والخياطة، ثم إلى وحدة العناية النهائية.
تتوج هذه المراحل في حفل رسمي سنوي، تُسلّم فيه الكسوة الجديدة إلى كبير سدنة بيت الله الحرام، والذي بدوره يُسلمها إلى الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، قبل أن تُركّب الكسوة على الكعبة المشرفة فجر التاسع من ذي الحجة، قبيل الوقوف بعرفة.
ويُعد تركيب ستارة باب الكعبة هو الجزء الأصعب من عملية التغيير، إذ يتطلب دقة بالغة ومهارة فنية عالية، وعند الانتهاء منها تُرفع أطراف ثوب الكعبة عن الأرض بمقدار ثلاثة أمتار، في ما يُعرف بـ "إحرام الكعبة"، وهي عادة متبعة لحماية الثوب من التلف ولإبراز قدسية المشهد.
من المشاهد المبهجة، قطعة في مدخل مكان التصنيع مأخوذه من الكسوة التي كانت ترسلها مصر للكعبة، في واحدة من أعظم صور الارتباط الروحي والتاريخي بين مصر ومكة المكرمة، حيث كانت القاهرة لعقود طويلة مصدرًا ثابتًا ومحوريًا في صناعة وإرسال كسوة الكعبة المشرفة، تلك الراية السوداء المطرزة بالذهب، التي تغلف جدران البيت العتيق وتلامس قلوب المسلمين في كل بقاع الأرض.
بدأت مصر إرسال الكسوة إلى مكة منذ عهد الخليفة العباسي المأمون في القرن التاسع الميلادي، لكنها بلغت أوج عظمتها وتنظيمها في العصر المملوكي والعثماني، حيث خصصت الدولة مصنعًا حكوميًا لصناعة الكسوة في حي أحد أحياء القاهرة، عمل فيه أمهر الحرفيين الذين تفننوا في تطريز الآيات الكريمة بخيوط من الذهب والفضة على نسيج الحرير الطبيعي.
وكانت الكسوة تُنقل في موكب مهيب يُعرف باسم "المحمل المصري"، يتقدمه المحمل المزخرف ويحمل على ظهر جمل أبيض مزين، وسط احتفالات شعبية ومراسم رسمية مهيبة تشارك فيها جموع المصريين.
كان خروج المحمل حدثًا سنويًا عظيمًا ينتظره الناس في القاهرة والأقاليم، تبدأ رحلته من القلعة أو من حي الحسين ليعبر شوارع مصر متجهًا إلى الأراضي الحجازية، حاملاً معه كسوة الكعبة وأغطية مقام إبراهيم والستائر الداخلية للبيت الحرام.
لم تكن مصر ترسل الكسوة فقط، بل كانت تتحمل مسؤولية صناعتها كاملة من خامات فاخرة، وتقدمها هدية سنوية إلى الحرمين الشريفين، كعلامة على دورها المحوري في خدمة الإسلام والعالم الإسلامي.
توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد عام 1962 عندما تولت المملكة العربية السعودية مسؤولية صناعتها داخل أراضيها، لكنها بقيت ذكرى عميقة في وجدان المصريين، تجسد علاقة من الحب والتاريخ المشترك والاحترام المتبادل بين أرض الكنانة وبيت الله الحرام.
ورغم أن كسوة الكعبة باتت تُنسج اليوم في مجمع الملك عبدالعزيز بمكة، فإن صفحات التاريخ لا تنسى أن الحرير كان يُصبغ في القاهرة، وأن الذهب كان يُطرز بأيدٍ مصرية عرفت كيف تمزج الحرفة بالإيمان.
رحلة كسوة الكعبة ليست مجرد صناعة نسيج فاخر، بل قصة من الإيمان والتاريخ والهوية، ترويها أنامل ذهبية تنسج لكل مسلم حول العالم رمزًا من أعظم رموز التوحيد. إنها ليست ثوبًا فحسب، بل تجسيد حي لمكانة الكعبة في قلوب المسلمين، وشهادة صامتة على تفاني المملكة في خدمة الحرمين الشريفين.
في مكة، حيث تتنفس الأرواح طمأنينة، تقف الكعبة المشرفة متوجة بثوبها الأسود المزدان بخيوط من ذهب وفضة، ثوب لا يشبهه نسيج، وجمال لا يضاهيه نقش، هي الكسوة التي لا تغلف حجارة فحسب، بل تلف قلوب المسلمين حول العالم بلحظة دهشة، كلما وقعت أعينهم على تفاصيلها الساحرة.
على الحرير الفاخر، تمتد آيات كريمة كأنها أنزلت لتُطرّز، لا لتُتلى، ويبدو التطريز كأنه نقش من نور، لا خيط من معدن. جمال الكسوة لا يقف عند روعة الشكل، بل يتجاوزها إلى جلال المعنى، إذ يُرى البيت الحرام في أبهى حُلله وكأنه يعتمر إحرامه الدائم، فلا شمس تحرق، ولا زمن يُهين.
في كل خيط حكاية، وفي كل زاوية خشوع، حتى ليتحول النظر إليها إلى عبادة، والاقتراب منها إلى طمأنينة لا تُوصف. إنها الكسوة التي لا تُبهر العين فحسب، بل تُوقظ القلب.
ادوات الخياطة
ادوات مستخدمة فى صناعة الكسوة
الزميل محمود عبد الراضى داخل المصنع
اليوم السابع داخل مصنع كسوة الكعبة
حياكة كسوة الكعبة
كسوة الكعبة
Trending Plus