خالد دومة يكتب: العبث المقدس (6)

كانت أمي هي الزوجة الثانية لأبي، تزوجها بعد أن ماتت زوجته الأولى، وكانت مريضة لسنوات مرضاً معضل، لا أمل في شفاءه، وأشفق أبي في أن يخذلها في أخريات أيامها، ولم يشأ أبي أن يتزوج عليها، وهي على قيد الحياة، رغم أنها ألحت عليه في أن يتزوج، ولكنه رفض، فلما ماتت، تزوج أمي والتي توفي عنها زوجها شاباً، في حادث سيارة، وهو ذاهب إلى عمله، وترملت أمي ولم تتجاوز العشرين بعد، وقد أنجبت منه ولداً، يعيش مع جدته لأبيه الآن، قد كان زوجها الأول وحيداً على ثلاث فتيات، كل هن متزوجات، وكان هو أصغرهم، فألحت جدته على أمي أن تتركه يعيش معها يؤنس وحدتها، ويلهيها عن فجيعتها بموت أبيه، وقد قصم ظهرها موت وحيدها في سن الفتوة والشباب، وكانت تدخره لملمات الزمن ووحشته، فتتعكز عليه في كبرها، ولم يمهلها الموت، حتى طعنها في وليدها الشاب، وعاشت بعده أيام وليالي تملأ قلبها الحسرة، وفارقتها البسمة، وغشيها الحزن والضنى، ورغم حزن أمي الشديد على موت زوجها، إلا إنه كان لا شيء أمام حزن أمه، فأشفقت عليها أمي، وكانت تحبها كثيراً، فلم ترى منها شيء مسيء، وكانت تعاملها كبناتها، فلم بلغ أخي لأمي الثالثة، وقرر أهل أمي زواجها، بعد أن تقدم لها أبي، تركته لجدته، مطمئنة عليه عندها، وكانت دائمة الزيارة لهما، ولم يمانع أبي في ذلك بعد زواجها منه، بل كان يرى ذلك فرض عليها نحو صغيرها اليتيم. كان فارق السن بين أبي وأمي أكثر من عشرين عاما، ولم يكن لأمي لتعترض، فما يراه جدي وأخوالي، إنما هو لمصلحتها، يجب أن تمتثل لهم وتطيع، هكذا علمونا، فليس لها شأن أو رأي في أشياء كهذه أو في غيرها، تزوجي تتزوج، وعندما تزوج أبي أمي، عاملها معامله طيبة، وسعد بها كثيراً، وعندما ولدت أمي بعد عام أخي عامر، أحتفى بها أبي وفرح كأنه سيكون أباً للمرة الأولى في حياته، وهو الذي لديه من البنين والبنات والأحفاد الكثير، وبعد عامين جئت إلى الدنيا، وكنت أصغر أبناء أبي، وأحتفى بي أبي كما أحتفى بأخي من قبل، وأهتم بنا اهتماماً عظيماً، واسماني أمل، كأنما عندما رآني جددت له الأمل في حياته التي كادت أن تنطفأ، وشُغف بي، ومنذ ولدت وهو يحملني بين ذراعيه، بعد عودته من العمل وحتى الصباح، يلاعبني ويداعبني، حتى عند النوم، كان لا ينام إلا وأنا بين ذراعيه يحتضنني، وإذا بكيت يقضي الليل بطوله مؤرق، ويظل بي حتى أنام، هكذا قالت لي أمي، وعندما بلغت الرابعة، أخذ في تعليمي وتحفيظي القرآن، وكنت سريعة الفهم والحفظ، وكانت سعادته بي غامرة، صرت وأبي صديقين، لا نفترق إلا قليلا، كانت ساعات العمل هي ما يفصلني عنه، تعلمت على يديه كل شيء، فقد كانت لديه خزانة كتب صغيرة، وكان يقرأ لي منها أشياء، ثم يجعلني أقرأ منها صفحات بمفردي، مع الأيام عشقت القراءة والعلم والمطالعة، وصوت أبي، فقد كان له أسلوب رائع في تعليمي القراءة والكتابة، وكان لصوته دفء عجيب، ونبرات ساحرة، تتغلغل في خلايا الدم؛ لتقفز في العقل والقلب مباشرة، وعندما كان يقرأ في كتب التارخ والسيرة، كأنك ترى الأحداث ماثلة أمامك، بشخوصها وحركاتها وسكناتها، وله صوت قوي عميق في قراءة الشعر والمدائح النبوية، تهتز لقرائته المشاعر والأحاسيس، لم ينل أبي قسطاً وفيراً من التعليم الإلزامي في المدرسة، حصل على الشهادة الإبتدائية واكتفى، فلم تكن هناك مدارس أخرى، لمن أراد أن يكمل تعليمه، إلا خارج القرية، ولكنه تعلم في كتاب القرية الكثير، كنت في الثامنة، عندما خرج أبي على المعاش، تفرغ لي وأخي، وأعطانا وقته كله، فلم يكن أبي ممن يستهويهم الجلوس في الطرقات، وعلى المصاطب، وأمام أبواب المساجد، ككثيرين من رجال بدتنا، فلا عمل لهم سوى الجلوس في الطرقات والأحاديث الفارغة، عن الناس وأعمالهم، كان يذهب إلى المسجد القريب من البيت يصلي الفرض ثم يعود سريعاً، وكأنما أراد أبي أن يعوضنا بحنانه الجارف، فإن أيامه أوشكت على الإنتهاء، كانت سعادته بنا غامرة، ونحن نكبر بين يديه يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، أعطاني أبي حريتي في أن أقول، وقد لمح ذكاء لا يخشى عليه، وكفيل بمواجهة الحياة، كنت فتاة متفوقة في دراستي، لبقة جميلة محبوبة،عرف مني همة ونشاط لا حدود لها، تطلعت إلى الحياة، وذهبت بي الأحلام كل مذهب حتى رأيت نفسي أعلو في خيالي ألامس السماء بجبهتي، كنت كفيلة لو تركوني بتحقيق كل ما أريد، وما أرغب وأني جديرة، أجتهدت في دراستي وسهرت الليالي، حملت نفسي فوق طاقتي، العمل الدؤوب المتواصل، ولم اكتفي بذلك، فقد وسعت من ثقافتي واطلاعي والتهمت الكتب التهاماً، حتى صرت وأنا في السادسة عشر، ولي في كل قضية رأي، وكنت أرى علامات الإعجاب الشديد والإنبهار، تبدو على وجوههم، نعم كانت كثير من أرائي لا تعجبهم ولا يؤمنون بها، ولم يقلل هذا من نظرة الإعجاب والدهشة، التي كانت تظهر عليهم، وهم أعجز ما يكونون على رد الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق، كانوا صغار العقول، أفقهم ضيق، نظرتهم للحياة لا تتعدى عيونهم الكليلة، ومنطقهم السطحي الساذج.
Trending Plus