على مسرح الطليعة.. "كارمن" تدفع ثمن حرية الفوضى

لأول مرة منذ منتصف التسعينات تقريبا أقرر الذهاب الى مسرح الطليعة لمشاهدة عرض مسرحى . كانت المرة الأخيرة مع الصديقين عماد الدين حسين وأكرم القصاص لحضور أحد العروض المبهمة ( على الأقل بالنسبة لي) من عروض مهرجان المسرح التجريبي. سنوات العمل والسفر وأشياء آخرى حالت دون الحضور من جديد لمتابعة العروض المسرحية التى تقدمها فرقة مرح الطليعة وربما أهم تلك الأشياء هى حالة الفوضى والعشوائية العارمة التى حولت كل شارع وركن ومكان فى ميدان العتبة الى موطن للباعة الجائلين والزحام الذى لا يوصف حتى ساعة متآخرة من الليل والتى يجعل من يفكر فى الذهاب إلى الطليعة أو المسرح القومى أو مسرح العرائس يفكر ألف مرة. فالباعة الجائلون الذين يبيعون كل شىء وأى شىء احتلوا حتى مداخل المسارح.
مساء الإثنين الماضى قررت الذهاب بدعوة كريمة من الصديق العزيز المخرج المسرحى الكبير والمبدع ناصر عبد المنعم لمشاهدة عرض من اخراجه وهو العرض العالمى "كارمن" بصحبة الصديقين الإعلامى المعروف طه الحديرى والأستاذ سامى عزيز المؤلف والممثل المسرحى. وهما بالمناسبة زملاء دراسة لناصر ورفقاء مشوار المسرح الجامعى فى بداية الثمانينات بجامعة القاهرة.
قبل العرض جلسنا نتذكر ونستعرض تاريخ مسرح الطليعة والمسرح الجامعى الذى كانت فرق الكليات بجامعات القاهرة وعين شمس تعرض بعض أعمالها على خشبته ومنها عرض "الملك لير" لكلية آداب القاهرة بطولة ناصر وطه فى عام 81 تقريبا. وعاتبت ناصر (عتاب الأصدقاء المحبين) على غيابه كثيرا فى تقديم عروض من اخراجه على مسارح الدولة. فهذا أول عرض له بعد حوالى 5 أو 4 سنوات منذ أخر أعماله "أحدب نوتردام" لفيكتور هوجو وقبله " الطوق والأسورة " ليحيى الطاهر عبد الله، و"أيام الإنسان السبعة" لعبد الحكيم قاسم، و"العودة إلى المنفى" لأبو المعاطى أبو النجا و"ناس النهر" لحجاج أدول.
قدم ناصر عبد المنعم للمسرح المصرى مجموعة من الأعمال المهمة أيضا التى ساهمت فى تطوير الشكل المسرحى مثل رجل القلعة وكوكب ميكى، وقدم الرواية النوبية من خلال «حكايات ناس النهر» و«نوبة دوت كوم»، وتولى إدارة المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية.
يعود ناصر إلى مسرح الطليعة بعرض ضمن خطة البيت الفنى للمسرح برئاسة الفنان هشام عطوة والتابع لقطاع المسرح برئاسة المخرج المسرحى الكبير خالد جلال، وهو عرض "كارمن"، من إنتاج فرقة مسرح الطليعة بقاعة زكى طليمات.
اختيار صعب ويمثل تحديا كبيرا للمخرج وللممثلين ومؤلف النص ومهندسى الديكور والاضاءة ومصممى الملابس، فعرض "كارمن" حظى باهتمام السينمائيين والمسرحيين حول العالم، وعالجه عشرات الأفلام والمسرحيات بلغات عدة.وتناوله كثير من المخرجين فى مصر منذ أن كتب الرواية الكاتب الفرنسى بروسبير ميريميه عام 1846، قبل أن تتحول الى أوبرا مسرحية للمؤلف جورج وعرضها كارمن من أربعة فصول لأول مرة فى مارس 1875م فى المسرح الوطنى للأوبرا المسرحية» فى باريس. والمفارقة أن الأوبرا لم تلق النجاح المنتظر والمتوقع من الجمهور رغم عرضها حوالى 37 ليلة فى 3 شهور .
تعتبر أوبرا كارمن أشهر أعمال جورج بيزيه والمبنيه على رواية تحمل نفس الاسم كتبت فى عام 1846م ألفها الكاتب الفرنسى بروسبير مريميه، ألف بيزيه دور البطولة ل ميزو سوبرانو وذلك فى صيف 1873م ولكن لم يتم الأنتهاء منها قبل عام 1874م، عرضت كارمن لأول مرة فى 3 مارس 1875م بأوبرا Comique بباريس، ولم تلق فى البداية استقبالا جيدا رغم أنها عرضت 37 مرة خلال الثلاث شهور اللاحقة أى بمعدل ثلاث مرات بالأسبوع، ولم يكتب لبيزيه أن يرى النجاح العظيم لكارمن فقد توفى نتيجة قصور القلب عن عمر 36 فى يونيو عام 1875م. والسبب فى نجاح الأوبرا بعد وفاة بيزيه هو حضور مؤلفين موسيقيين كبار أمثال برامز وتشايكوفسكى والاشادة بها واعتبارها أفضل أوبرا تم انتاجها منذ الحرب الفرنسية الروسية عام 1812. وأصبحت " كارمن" أو "كارمينيستا" واحدة من أشهر الأعمال الأوبرالية بعد وفاة مؤلفها وبعد اشادة كبار الموسيقيين العالميين بها. وعرضت عشرات المرات وبرؤى مسرحية متنوعة فى كافة مسارح العالم وتناولها مؤلفون فى أعمال درامية عديدة . وقدمها الفنان محمد صبحى مع سيمون فى مسرحية كوميدية مصرية لأول مرة على مسرح سينما راديو فى 14 يوليو فى عام 1999.
و"كارمن" هى راقصة غجرية تؤمن بحرية جسدها لكنها كما قالت عنها العرافة " مانويلا " لعشيقها وحبيبها الأخير الضابط دون خوسيه " روح شريفة فى جسد عاهر". تتنقل بين العشاق كالنحلة بين وردة وأخرى. لا تعرف قيدًا ولا تعترف بحاجز بسيف الاغراء والاغواء. يقبض عليها الشرطى (خوسيه) عندما ضربت زميلة لها بالسكين وشوهت وجهها.. لكن كارمن تغريه بأن يتركها تهرب.. مقابل ليلة هوى تقضيها معه فى حانة (باستيا)، ويوافق الظابط المغروم المسكين الذى سقط فى شرك هواها ولا يكتفى بليلة حب واحدة.. بل إنه يطرد من جهاز الشرطة الذى ينتمى إليه ويحيا مع عشيقته حياة الخارجين عن القانون.. والمهربين، والهاربين من وجه العدالة. يزداد حب خوسيه لكارمن فقد شغفته حبا وهياما وتضيق كارمن بقيد هذا الحب وتطالبه بالتحرر منه لأنه يمنعها من مزاولة حريتها الكاملة. لذلك تحاول قطع علاقتها بخوسيه، وإقامة علاقة أخرى مع مصارع ثيران شاب أثار إعجابها. ولكنها هذه المرة تدفع حياتها ثمنًا لتحررها.
فى عرض " كارمن" بالطليعة ربما نكون أمام عرض مختلفة وبرؤية مسرحية مغايرة . يلتزم ناصر عبد المنعم بالقصة الأصلية وباللغة العربية الفصحى لنص رائع وكتابة مسرحية للمؤلف الشاب الواعد محمد على إبراهيم. ربما فى رأيى كانت هذه هى أول وأكبر التحديات فى العرض فتوظيف اللغة العربية كلغة للحوار المسرحي(دون الخروج منه للعامية طوال فترة العرض) طوال ساعة وربع وهو أحد عناصر النجاح فى العرض ومع مجموعة كبيرة من هواة المسرح دون أن يلفت انتباهنا وسمعنا أخطاء نحوية كبيرة وهو ما احتاج الى جهد وتدريب ولفترة ليست بالقصيرة لأبطال العرض.
الأمر الثانى هو توظيف وتضفير الرقصات الأسبانية الكلاسيكية القديمة والشهيرة فى العرض لاصباغ الطابع والطقسالاجتماعى لأجواء الحياة فى أسبانيا فى تلك الفترة التى تعود الى الثامن عشر مع هجرة الغجر من رومانيا الى اسبانيا. وهو ما أضاف المتعة الى العرض مع استعراضات الفنانة سالى أحمد. ويذكرنا استعانة ناصر بالرقصات الاسبانية الكلاسيكية بالمخرج السينمائى الاسبانى الشهير كارلوس ساورا الذى استعان بالأصول الدرامية والموسيقية الأسبانية مثل رقصة الفلامنكو فى فيلم " كارمن" عام 1983. وأضاف اليها الفنان حازم الكفراوى باعداده الموسيقى مقطوعات أيضا من المؤلف الموسيقى الروسى تشايكوفسكى مؤلف المقطوعات الشهيرة بحيرة البجع، وكسارة البندق، والجميلة النائمة. وهو ذكاء من المخرج، فالموسيقى تساعده فى دعم الصورة البصرية الإيقاعية للعرض وقدرته على محاكاة الواقع الزمنى للعرض.
الديكور للفنان" أحمد شرابي" مصمم الديكور رغم بساطته أيضا كان له دور كبير ومدهش فى أن يعيش جمهور العرض الأجواء التاريخية للحياة الاسبانية وخاصة حانة " باستيا" مع الاضاءة التى أتاحت حالة الفوضى والانفلات لحياة الغجر والتوتر والتناقض لدى "كارمن".
فالبعد الثالث أو عمق المسرح استغله ناصر عبد المنعم بصورة عبقرية باستخدام تقنية أو خاصية الـ"ثرى دي" ليستغل خشبة المسرح بكافة مستوياتها، ففى العمق الشفيف وكأنها الصدى البصرى لما يدور فى وسط المسرح حيث تلتقى كارمن بعشاقها من راغبى المتعة أو ظهور مانويلا " قارئة الورق أو التاروت" ثم يعود الى المستوى الثانى للمسرح وهو ما يدور فى حانة "باستيا " ومشاهد مصارع الثيران ومشاهد صراع كارمن مع عاملات مصنع التبغ.
نأتى الى قمة التوهج المسرحى لناصر عبد المنعم والتناغم مع أبطال العرض والتزام الجميع بالرؤية المسرحية له. لم يلجأ ناصر الى فكرة الفصول التقليدية وانما الى فكرة الفصل الواحد الممتد بتعدد أحداثه دون أن يشعر المتفرج بالملل. فقد لجأ ناصر الى توظيف لغة السينما على خشبة المسرح بجاذبية غاية فى الروعة وبفكرة التقطيع السينمائى بتوظيف الديكور والاضاءة دون الاخلال بالنص. مستخدما السرد الروائى للانتقال بين الأزمنة والأماكن المختلفة عبر " الفلاش باك" متأثرا بعشقة لمسرحة الأعمال الروائية وحبه للسينما أيضا واللغة السينمائية فى المسرح وبالتناغم مع الموسيقى الكلاسيكية القديمة للاوبرا الأصلية. ولم نشعر أننا أمام عرض مسرحى من فصل واحد ممتد لأكثر من ساعة وربع.
فالعرض يبدأ بلوحة قصيرة لحانة باستيا ثم يقفز الى الحاضر بلغة سينمائية لمشهد مونودرامى لقتل خوسيه لعشيقته كارمن ومحاكته وسجنه لتبدأ الحكاية بالعودة بالزمن للماضى مرة أخرى لنتعرف على قصة كارمن مع خوسيه وقصة العشق بينهما بعد حوار بينه وبين عشيقها الأخير مصارع الثيران.
التقطيع والنقلات المثيرة بين الزمان والمكان يجعلك تلهث خلف المشاهد الدرامية المتصاعدة للعرض الذى ينتهى فى ذروته برقصة الموت بين خوسيه وكارمن فى صورة جمالية بديعة بالتكامل بين الاضاءة والموسيقى المتدفقة
أما فريق التمثيل أو ابطال العرض فتقدم الممثلة الشابة ريم أحمد( هدى ابنة محمد صبحى فى مسلسل ونيس) شخصية كارمن بكل حرفية ومهارة واتقان وساهمت دراستها فى معهد البالية على أداء الرقصات والاستعراضات بدقة وابداع مع الحفاظ على الأداء التمثيلى وباللغة العربية أيضا. الأداء المتميز والمتوهج لريم يظهر فى التحولات بين سمات الشخصية المتناقضة لكارمن ( الأنثى والشريفة والعاهرة والفوضوية والمتوحشة الشرسة) . الدور أكثر من رائع واختيار مناسب للغاية تستحق عليه ريم أحمد جائزة وربما يكون بداية سعيدة للانطلاق فى عالم المسرح والسينما.
فى دور الضابط خوسيه، يؤدى الفنان ميدو عبدالقادر أداءا راقيا للضابط الضائع بين واجبه الوظيفى وعشقه وضعفه أمام عشيقته اللعوب ثم جنونه وتحوله الى مجرم مطلوب للعدالة. وجاءت الرقصات التى أداها مع ريم لتؤكد حرفيته وقدراته التمثيلية الكبيرة. ثم يأتى دور عبد الرحمن جميل- ابن مسرح كفر الشيخ- فى دور الزوج المجرم لكارمن، والفنان محمد حسيب فى دور باستيا صاحب الحانة الذى أضاف بعض اللمسات الكوميدية فى العرض بأدائه الجميل. ومحمد عرجاوى فى دور مصارع الثيران، و أحمد علاء فى شخصية اليخاندرو المقامر فى الحانة، ومحمد البدالى دور القائد زورنيجا، ولعبت الفنانة آية خميس دور مانويلا قارئة الورق أو التاروت بتميز لفت اليها اهتمام المشاهدين، وأدت دور ميكائيلا فتاة مصنع التبغ الغيورة نهال فهمى بأداء واثق ولافت
فى الأخير فقد قدم ناصر عبد المنعم رؤية ومعالجة جديدة ونسخة مختلفة لكارمن ليطرح من خلال العرض تساؤلات مهمة حول ثمن الحرية والفوضى والخيط الفاصل بين الحرية والفوضى التى تؤدى الى انهيار المجتمع ونظامه السياسى والأمنى
العرض يستحق المشاهدة بعناصره المتنوعة من اخراج وتمثيل وديكور واضاءة وملابس واستعراضات ورقصات وموسيقى
Trending Plus