جمال عبد الناصر يكتب: حكايات الشتا.. عندما يُصبح الوجع الإنساني فنًا

جمال عبد الناصر يكتب: حكايات الشتا.. عندما يُصبح الوجع الإنساني فنًا
جمال عبد الناصر يكتب: حكايات الشتا.. عندما يُصبح الوجع الإنساني فنًا

على خشبة مسرح الغد، تتجلى مسرحية "حكايات الشتا" للكاتب إبراهيم الحسيني والمخرج محمد عشري، كعمل مسرحي متكامل يُقدم تجربة إنسانية عميقة، تستند إلى قوة الحكي والذكريات، وتغوص في ثنايا الذات المعذبة بالوحدة والحنين، ويُثبت هذا العرض أن المسرح لا يزال قادرًا على احتضان الوجع الإنساني بكل مراحله وصراعاته، وأنه فن الذاكرة والصدق الإبداعي الأصيل.

النص: شعرية العامية وعمق الذات

صاغ الكاتب إبراهيم الحسيني نص "حكايات الشتا" بأسلوب عامي راقٍ، ينجح في التعبير عن لحظات انسحاق الذات في وجه العزلة. تتجسد الشخصية المحورية، "حياة"، في شقة واسعة مفعمة بالذكريات، لتروي للمتلقي أطيافًا من حياتها المتشابكة، بل شخصياتها المتعددة، عبر مونولوجات تلامس الوجدان وتختلط فيها الحقيقة بالوهم. استطاع النص أن يخلق توازنًا دقيقًا بين العمق الفلسفي للموضوع وجماليات اللغة الحية البسيطة، دون أن يسقط في فخ الابتذال.

يتميز الحسيني بأسلوبه الرشيق، وتدفقه السردي المحكم، وإيقاعه الدرامي الدقيق، وهو معروف بقدرته على استبطان أعماق الشخصيات. لقد نجح في صياغة حكاية ذات طابع إنساني وشاعري، تستدعي الذكريات لا باعتبارها استرجاعًا عاطفيًا فحسب، بل بوصفها حوارًا داخليًا بين الحاضر والماضي، بين الرغبة والخذلان، بين ما عشناه وما لم نجرؤ على أن نعيشه. في "حكايات الشتا"، تتجلى حرفية إبراهيم الحسيني في بناء شخصيات مركبة، تتحرك في فضاء نفسي مكثف، وتتماوج بين الحلم والواقع دون فواصل صلبة. كما تُحسب له قدرته على كتابة الحوار بلغة تتراوح بين العفوية اليومية والشعرية الرمزية، دون افتعال أو تصنّع، مما يجعل النص حيًّا نابضًا، وقادرًا على الارتقاء فوق الأحداث الظاهرة إلى عمق التجربة الإنسانية.

مسرحية حكايات الشتا
مسرحية حكايات الشتا

الإخراج: ترجمة بصرية للذاكرة

استطاع المخرج محمد عشري أن يترجم هذه الحكاية المتداخلة إلى عرض بصري وسينوغرافي دقيق، مزج فيه بين المشاهد الواقعية والمجازية بحرفية عالية. رسم عشري إيقاعًا هادئًا يشبه تساقط المطر على نوافذ الذاكرة، واعتمد على حركة ممثلين دقيقة، وإضاءة متقنة تفصل بين العالم الواقعي وأطياف الماضي. كان لاختياره في توظيف الموسيقى والرقص التعبيري بُعدًا إضافيًا للعمل، حيث تحولت خشبة المسرح إلى مسرح داخلي لذاكرة "حياة" بكل شجنها وتصدعها، مما عزز من انغماس الجمهور في عالم الشخصية النفسي.

الأداء التمثيلي: كوكبة من الإبداع

يُعد الأداء التمثيلي في "حكايات الشتا" من أبرز عناصر تميز العرض، حيث قدمت كوكبة من الفنانين مستويات في الأداء:

الفنانة الدكتورة

هبة سامي

في دور "حياة": قدمت أداءً عبقريًا لشخصية مركبة تنتمي إلى عالمين: الواقع والخيال. اتسم أداؤها بالاحترافية والصدق العاطفي، خاصة في انتقالاتها السلسة بين مرحلتين عمريتين دون اصطناع. استطاعت أن تحفر في الذاكرة مشاهد مؤثرة ببساطة أدواتها، وبنبرات صوتها المتلونة حسب "مود" المشهد، ونظراتها الحزينة التي تختزل كل مشاعر الفقد والعزلة. قدمت أداءً استثنائيًا يُدرّس، جمعت فيه بين الحضور الجسدي والسيطرة النفسية على الانفعالات، وجسدت ثنائيات زمنية ونفسية بليونة فنية لافتة. كانت تتنقّل بانسيابية بين مراحل عمرية متباينة، مستخدمة أدواتها باحتراف: نبرة الصوت، وتعبير الوجه، وإيقاع الحركة، بل حتى صمتها كان ناطقًا بالحزن والعزلة. أداؤها "عالميًّا" بكل المقاييس، خاصة في المشاهد التي واجهت فيها أطياف ماضيها أو وقفت عند حدود الانهيار، إذ بدت وكأنها تسكن الشخصية لا تمثلها، وهو ما منح العرض عمقه العاطفي وأضاء مركز ثقله الدرامي.

الدكتورة الفنانة هبة سامي في عرض حكايات الشتا
الدكتورة الفنانة هبة سامي في عرض حكايات الشتا


الفنانة عبير الطوخي

في دور "هيام": قدمت شخصية طيف العاشقة الصامتة بإقناع بالغ، واستطاعت أن تعبر عن مشاعر مركبة من الشوق والكتمان والانكسار. كانت حركتها الجسدية وتعبيرات وجهها مرآة لانفعالات دقيقة تعبر عن ألم العشق من طرف واحد. كان لها حضور مسرحي لافت، وأدّت الدور بصوت يحمل ظلال الحنين والانكسار، وجسدٍ يتحرك في القاعة كأنها فكرة تمشي، لا مجرد شخصية. اتسم أداؤها بالنعومة حينًا، والحدة الموجعة أحيانًا، بما يجعل حضورها يختزل التوتر النفسي والدرامي للعمل ككل.

عرض حكايات الشتا بطولة هبة سامي وعبير الطوخي
عرض حكايات الشتا بطولة هبة سامي وعبير الطوخي


الفنانة مايا عصام

في دور الخطيبة: نجحت في تقديم التحول النفسي من فتاة مترددة إلى إنسانة تنصهر في دراما الشخصية العجوز وتمنحها دفء الألفة. جسدت فتاة عصرية تحاول احتواء تغيّرات سيف الغامضة، لكنها في الوقت نفسه تحمل شكوكها وهواجسها. برز وعيها الجسدي على الخشبة، إذ استخدمت المساحة بمرونة تُعبّر عن شخصية تبحث عن توازن داخل حقل مليء بالذكريات والأسئلة.


الفنان مصطفى سليمان

في دور "سيف": قدم أداءً متوازنًا للشخصية النفعية الساخرة التي تتحول تدريجيًا إلى مرآة لقسوة الواقع. استطاع أن يخلق شخصية شديدة التردد والانجذاب في آن واحد، بين واقعه العاطفي مع خطيبته، وبين انجذابه الغامض لصاحبة الشقة وذاكرتها المتلبسة بالمكان. أدى هذا التدرّج ببراعة، متنقلاً بين الحيرة والانبهار والضيق، دون افتعال.

مسرحية حكايات الشتا
مسرحية حكايات الشتا


الفنان تامر بدران

في دور "هاشم": قدم شخصية الزوج الراحل بحس درامي مفعم بالشجن والرهافة. لم يكن حضوره جسديًا دائمًا، بل طيفًا يطل من ذاكرة البطلة "حياة" في لحظات استدعاء الألم والفقد. أدى الدور برزانة داخلية، وبانضباط حركي دقيق، واستطاع خلق تواصل صامت مع الجمهور، وكأن "هاشم" لا يزال يسكن المساحة بين الماضي والحاضر، بين الموت والحياة.


الفنانة فرح داوود

(الرقص التعبيري): لفتت الأنظار بأدائها التعبيري المميز، حيث لم تعتمد على الكلمة كوسيط تواصل، بل استخدمت الجسد كأداة بليغة لنقل المشاعر والانفعالات الكامنة في النص. من خلال الرقصات التي أدّتها بحس بصري مرهف وتناغم جسدي بالغ الدقة، لعبت فرح دورًا محوريًا في تشكيل المناخ الشعري والبصري للعرض، مؤكدة أن الرقص في المسرح لا يُستخدم للزينة بل كعنصر درامي فاعل في سرد الحكاية وتكثيف الشعور.

الديكور والإنتاج: أبطال موازية

كان الديكور المصمم لشقة "حياة" بطلاً موازيًا في العرض، حيث حملت كل قطعة أثاث فيه تاريخًا وعاطفة. كان تنسيق الألوان والإضاءة المتغيرة بين كل مشهد دقيقًا ومدروسًا، بما يعكس مزاج الشخصية وانتقالاتها النفسية. قدمت الإضاءة المستخدمة لتحديد الفضاءات الزمنية والداخلية للشخصيات بعدًا سرديًا بصريًا، خاصة في مشاهد حضور الأطياف(هاشم، هيام).

لا يمكن أن يمر هذا العمل دون الإشادة بالدور الإنتاجي المهم للفنان سامح مجاهد، مدير مسرح الغد، الذي أتاح لهذه التجربة أن ترى النور وأن تتجسد بهذا الشكل الفني الرفيع. جاء العرض ليؤكد على أهمية دعم نصوص محلية تحمل بداخلها أفكارًا فلسفية معاصرة، وأن مسرح الغد لا يزال منصة لإعادة اكتشاف الذات المصرية في ملامحها الشعرية والإنسانية.

"ونس" مسرحي يحفر في الروح

"حكايات الشتا" عمل يستحق الاحتفاء والتقدير، لأنه لا يقدم فقط عرضًا مسرحيًا، بل يعيد صياغة مفهوم "الونس" في المسرح المعاصر، ويطرح سؤالًا جوهريًا عن قيمة الإنسان في ظل التحولات الاجتماعية الحادة. هذه المسرحية تحفر في روح المشاهد، وتفتح أمامه أبوابًا للتأمل في المعنى الحقيقي للذاكرة، الحب، والخيال، تاركةً أثرًا عميقًا يدوم طويلاً بعد إسدال الستار.

الفنانة عبير الطوخي والفنانة هبة سامي
الفنانة عبير الطوخي والفنانة هبة سامي

Trending Plus

اليوم السابع Trending

هزة أرضية يشعر بها سكان الجيزة

هزة أرضية يشعر بها سكان الجيزة الإثنين، 02 يونيو 2025 01:07 ص

الأكثر قراءة

عمر مرموش يتصدر أغلى اللاعبين الأفارقة ومحمد صلاح يتواجد بالقائمة

"بني آدمين".. ساندي تتعاون مع أحمد حسن راؤول في أغنية مختلفة

وزارة الصحة تكشف عن 5 محاور لخطة تأمين احتفالات عيد الأضحى

الأهلي يتدرب على فترتين اليوم استعداداً لكأس العالم للأندية

أحدث تفاصيل في قضية راسل براند من تهمة الاغتصاب والاعتداء.. تعرف عليها


جهاز الزمالك يكثف استعداداته لمواجهة بيراميدز ويدرس موقعة صن داونز

موعد مباراة الأهلي وباتشوكا استعداداً لكأس العالم للأندية والقنوات الناقلة

حياة كريمة ترسم البهجة على وجوه أهالى الوحدة المحلية لقرية دلاص ببنى سويف.. استمرار أعمال التشطيبات في المركز الطبى بقريتى طنسا الملق وطحا.. البدء فى رصف مدخل قرية طحا بوش.. وتوصيل شبكات الصرف الصحى.. صور

موعد أول مباراة للأهلي فى كأس العالم للأندية أمام إنتر ميامى الأمريكى

زوج مهدد بالحبس بسبب متجمد مصروفات المرافق بعد ملاحقته على يد زوجته


كيف يتم التقدم وتسكين التلاميذ بفصول رياض الأطفال للعام 2026

زلزال بقوة2.31 يضرب الجيزة.. والهلال الأحمر المصري يطالب باتخاذ إجراءات الوقاية

هزة أرضية تضرب الضفة الغربية بسبب قصف الاحتلال العنيف على قطاع غزة

استعدادا لاستقبال موسم الحج.. إطلاق خدمة الاستشارات الطبية الافتراضية للحجاج على مدار الـ24 ساعة.. 81 ألف خدمة صحية لضيوف الرحمن.. تكثيف الرقابة على الأسواق فى مكة.. و1.3 مليون حاج إلى السعودية لأداء المناسك

رئيس البعثة الطبية للحج: تقديم أفضل الخدمات الصحية والاجتماعية للحجاج المصريين.. وزارة الصحة: تواجد ميدانى للفِرق الطبية بعرفات ومنى.. وتخصيص 7 مستشفيات ميدانية و46 عيادة متنقلة لتقديم أفضل رعاية صحية

ظهور نادر لابنة عادل إمام تتحدث فيه عن أكثر أكلة يحبها الزعيم وعلاقتها به

عودة الفتى الذهبي.. الأهلي يعلن التعاقد مع تريزيجيه قبل مونديال الأندية

ليلى أحمد زاهر تتغزل في زوجها هشام جمال: أنت حب العمر

طقس شديد الحرارة يوم عرفة.. وتحذيرات مشددة من التعرض للشمس حتى الرابعة عصرًا

مصرع مزارع سقط داخل دراسة حصاد الفاصوليا فى قرية البتانون بالمنوفية

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى