خالد دومة يكتب: العبث المقدس (7)

كانت حجرتي عالماً واسعاً كبيراً، كنت أعيش في زحام شديد بين كتبي، كنت حين أقرأ، أجوب الأرض من شرقها إلى غربها، من الجنوب إلى الشمال، وأنا لم أغادر مكاني، أعيش في أزمنة مختلفة، وعصور متعددة، أسافر في الماضي والحاضر والمستقبل، شاهدت الملوك والأمراء، وأحداث الدول الكبرى قديماً وحديثاً، عشت أعماراً كثيرة وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة بعد، لم يكن هناك شيء صعب بالنسبة لي، ومن حجرتي الصغيرة، امتطيت خيالي، وحملت جواز سفري، وجُبت العالم الحاضر من مكتبي الصغير، لم أخشى ركوب الطائرات، أو السفن، رحلت جواً وبحراً وبراً، سافرت إلى أوربا، وزرت معالمها، وتنقلت بين لندن وباريس وبرلين، واستمتعت برؤية برج إيفيل، والثلوج في الشتاء تتساقط كالبللور فوق رأسي، رغم قبعتي التي أرتديها، وأنا أعدوا في شوارعها النظيفة الواسعة، وما أروع الصيف دفئا وجمالا، رقصت باليونانية، وأكلت مكرونة إيطالية، وذهبت إلى أسيا، وزرت الصين، ورأيت تمثال بوذا، وسور الصين العظيم، وكم كانت وجوههم متشابهة، وأجسامهم صغيرة، وضحكتهم ساحرة، وابل من البشر لا ينقطع، في كل مكان، ومررت في رحلتي بالهند، وداعبت القرود في شوارعها، وأطعمتها، ولم أخف منها، ورقصت مع ألاف في شوارعها، ذهبت إلى أدغال أفريقيا، ومشيت في أحراشها المخيفة، وغاباتها الممتدة، وعانيت من حرارة شمسها القائظة، وركبت الفيل، وسابقت النمور والغزلان، وعانقت الحياة في كل وجه، وفي كل كائن يدب على الأرض، قرأت عن الإنسان، وتاريخ البشر، منذ لامست قدميه تراب الأرض، وتجولت في أعماقه النفسية وخواطره وأفكاره، وتألمت من صوت الرصاص والبنادق في الحروب، تخترق الصدور، وتتطاير الأجساد أشلاءً في الهواء، أفزعتني رؤية الدماء فوق تراب الأرض، وعلى جذوع الشجر المحترقة، والورود الجافة اليابسة، التي طمست معالم الحياة في كل شيء، أفزعني عدد القتلى في حروبها الدامية، وتساءلت لماذا؟ وبكيت كثيراً من فرط هذا الجبروت الآدمي، وتعجبت من هذه الأيدي العبقرية التي تصنع المعجزات وتهدم بأخرى، دخلت السجون، ورأيت كيف يُوأد الجمال والنقاء، ويبغي الطغيان ويُقمع الإنسان، تعذبت كما تعذبوا، ونلت قسطاً من الهوان، كما نالوا، وتطلعت إلى الحرية والنور، ووحدة العالم، ونبذ الحروب، وصمت مع غاندي، ورافقت جيفار في نضاله ضد الطغيان، وهتفت بأعلى صوتي في كل الثورات الشريفة، تحيا الحرية، تعلمت معنى الإنسانية، وركبت البحر، وعلى سفينة تايتنك كدت أغرق.
ورغم شعوري بأني عشت مئات السنين، كنت أود أن أجعلها الآف، بل ملايين السنين، عشقت هذا العالم، وتمنيت لو أمتد إلى أخر لحظة من عمري، ما من يوم يمر فيه، إلا وشعوري بالحياة يزداد ويتضخم، وحبي لها يتسع ويتعمق، ويتصل بكل نبضة من نبضات قلبي؛ فيمدها بالوقود والحرارة؛ لتشتعل وتضيء جوانب نفسي، وأرجاء روحي.
Trending Plus