عيد العمال.. قراءة تربوية في بناء الإنسان والمعنى

أ.د/ مها عبد القادر
أ.د/ مها عبد القادر
أ.د/ مها عبد القادر

يحتفل العالم كل عام في الأول من مايو بعيد العمال، بوصفه لحظة تأمل إنساني وقيمي تعيد الاعتبار إلى جوهر العمل في حياة الإنسان، باعتباره قيمة وجودية وأخلاقية تجسد عمق التفاعل بين الفرد والمجتمع، وتمنح الحياة معناها النابع من الجهد والمشاركة والإنجاز، فهو مناسبة يقف فيها الضمير الإنساني وقفه جماعية لتسليط الضوء على البعد الأخلاقي في ثقافة العمل، واستحضار مكانة الإنسان المنتج بوصفه حجر الزاوية في كل نهضة حضارية، وركنًا أساسيًا في مشروع البناء المجتمعي المستدام، وفي ظل ما يشهده العالم من تحولات اقتصادية وثقافية، تزداد الحاجة إلى إعادة تأصيل هذه القيمة وفق رؤية إنسانية متكاملة، تعيد تصحيح النظر إلى العمل، وتعلي من شأن العامل كذات فاعلة، مبدعة، ومسؤولة، تمثل محورًا رئيسًا للتنمية والرقي، وضمانة لتوازن المجتمع وتقدمه.


ويعد العمل في جوهره فعل إنساني عميق نابع من حس المسؤولية، يعبر عن قيام الإنسان وسعيه في مهمة الإعمار التي تشكل جوهر وجوده على الأرض، فلقد خلقه الله تعالي واستخلفه في الأرض ليكون فاعلًا في بيئته، حارسًا لتوازنها، ساعيًا في تطويرها، مشاركًا في صناعة التاريخ من خلال إبداعه ومثابرته، ومحققًا عبر عمله التكامل بين الفكرة والواقع، فالمجتمع الذي يعلي من شأن العامل، ويمنحه المكانة التي يستحقها، إنما يعلي من شأن ذاته، ويؤسس لنموذج تنموي يقوم على العدالة والتقدير، ويخطو بخطى راسخة نحو بناء نهضته الحضارية على أسس قوية من الإنصاف والاعتراف بقيمة الإنسان كفاعل رئيس في حركة الحياة.


وعندما ينظر إلى العمل بوصفه محركًا رئيسًا للتنمية والرقي، فإن تحقيقه لأثره المنشود لا يتحقق إلا ضمن إطار قيمي ومجتمعي متكامل، يوفر للعامل بيئة حاضنة وآمنة، تعلي من شأن الجهد، وتكرس مبادئ العدالة، وتصون كرامة الإنسان في كل مراحل عطائه، فالعامل حين يشعر بأن عمله مقدر، وأن مساهمته معترف بها، لا يكتفي بأداء المهام الموكلة إليه، بل يتحول إلى طاقة مبدعة، تبادر وتبتكر، وتدفع بعجلة الإنتاج نحو آفاق أكثر رحابة تسهم في بناء مجتمع منتج، نابض بالحيوية، متماسك في قيمه.


ويبرز دور التربية في تشكيل الوعي بقيمة العمل وترسيخه في الوجدان، فهي تسعى إلى بناء إنسان متكامل، راسخ في قيمه، يقدر الجهد، ويحترم العمل، ويؤمن بالإنجاز، فالتربية السليمة تنمي الحس الأخلاقي، وتغرس في المتعلم قناعة عميقة بأن كل مهنة، مهما بدت بسيطة أو هامشية في نظر البعض، تنطوي على رسالة نبيلة، وتسهم في تكامل نسيج المجتمع، ولا يُستغنى عنها في دورة الحياة، ويتحول العمل عبر هذا التصور؛ ليصبح وسيلة لاكتشاف الذات، وتحقيق المعنى، ومجالًا لممارسة المسؤولية وخدمة الآخرين.


يستدعي الاحتفاء بعيد العمال أن نربي أبناءنا على احترام وتقدير كل مهنة شريفة، وعلى إدراك أن القيمة الحقيقية للعمل تقاس بمدى إسهامه في خدمة الإنسان والمجتمع، ومن هنا تبرز أهمية تفكيك النظرة الطبقية أو الاستعلائية التي تلصق ببعض المهن، والتي تتسلل أحيانًا إلى اللاوعي الجماعي، فتضعف من احترام الجهد اليدوي أو العمل البسيط، فالعدالة الاجتماعية لا تكتمل دون العدالة الرمزية، التي تبدأ من طريقة نظرتنا إلى من يقومون بالعمل، ومن اللغة التي نتحدث بها عنهم، ومن الصور النمطية التي نكرسها أو نصححها.


ويعد بلوغ مرتبة الإتقان من أهم مرتكزات الرؤية القيمية للعمل، إذ يمثل الإتقان ذروة الالتزام الأخلاقي والمهني، ولا يتحقق إلا من خلال سعي دائم لتطوير الذات، وصقل المهارات، وتوسيع آفاق المعرفة، فالإتقان يعني أن ينجز الإنسان عمله بأقصى ما يملك من وعي وقدرة، بعقل يقظ وضمير حي مسؤول ومن هذا المنطلق ينبغي أن تبنى ثقافة العمل داخل المؤسسات على قيم التميز، والإبداع، والتحسين المستمر، بحيث يتحول الأداء المهني إلى مساحة للتجدد بعيدًا عن النمطية والتكرار.


غير أن تحقيق الإتقان لا يكون إلا في ظل بيئة تعليمية وتدريبية حاضنة، تُكسب الفرد المعارف النظرية والمهارات العملية، وتمكّنه من امتلاك أدوات التفكير السليم، واتخاذ القرار الرشيد، والتواصل الفعال، والعمل الجماعي، بما يفتح أمامه آفاقًا واسعة للإبداع والتفرد، وهنا يتجلى الدور الجوهري للتعليم الجيد والتكوين المهني الراقي، الذي يعيد وصل ما انقطع بين العلم والعمل، ويزاوج بين الفكر والممارسة، ويوجه طاقات الشباب نحو بناء مسارات مهنية راسخة، تقوم على الكفاءة والقيم، وتسهم في تأسيس نهضة إنتاجية شاملة، ترتقي بالفرد والمجتمع معًا.


وتكتسب المؤسسات التعليمية والتربوية دورًا محوريًا في تكوين الوعي القيمي والمهني، عبر مناهج تعليمية تنمي ثقافة الإتقان، وترسخ القيم الأخلاقية في وجدان المتعلمين، وتمنحهم الفرص للمشاركة الفعلية في مشاريع إنتاجية وتدريبية تحاكي الواقع، وتغرس فيهم روح المسؤولية والالتزام والمبادرة

فالمؤسسة التربوية التي تربط بين النظرية والتطبيق، والتعليم القائم على المشروعات، تفتح أمام المتعلم أفقًا رحبًا لفهم العمل وتقديره، وتصبح السياسات التربوية الرشيدة، المدعومة برؤية قيادية متجددة، ضرورة حتمية لتحقيق هذا التوجه، فحين تلتزم الدولة بالاستثمار في تطوير رأس المال البشري، وتوفير فرص التعليم الجيد، والدورات المتخصصة، والدعم المهني المستمر، فإنها تؤسس لمجتمع منتج ومبدع، قادر على مواجهة التحديات، وصنع تنمية مستدامة تستند إلى الكفاءة والقيم.
ويقتضي الإتقان أن يتبنى كل فرد رؤية واضحة لأهدافه المهنية والإنسانية، وأن يدرِك أن التميز لا يولد صدفة، بل هو ثمرة جهد واعٍ وتخطيط مستمر واستثمار ذكي للوقت والطاقة. ويتجسد ذلك في حرص الإنسان على تنمية ذاته بشكل دائم، عبر التعلم الذاتي، والانخراط في الدورات التدريبية، والمشاركة الفاعلة في ورش العمل والمشاريع التطويرية التي تنقل المهارات من حيز النظرية إلى واقع التطبيق، وتكسب الفرد مرونة وقدرة على التكيف.


وإذا كان الإتقان يرتبط بالأداء الفردي، فإنه لا ينفصل عن الأداء الجمعي في إطار التنمية المجتمعية الشاملة؛ فكل جهد صادق يبذل في موضعه ويؤدى بإخلاص وإتقان في مجاله، يسهم في ترسيخ ثقافة مجتمعية ويعلي من شأن الجودة والتميز، ويؤدي لبناء منظومة قيمية تثمن العمل وتكرم العامل، ومع تراكم هذه الجهود المتناغمة، تتشكل قاعدة صلبة للتنمية المستدامة، ويرتقي المجتمع بمؤسساته وأفراده نحو آفاق أرحب من التقدم، والسيادة، والازدهار، وبهذا المعنى العميق، يعد عيد العمال مناسبة رمزية تذكرنا بأن الإنسان هو صانع التنمية الحقيقي، وأن العمل المتقن هو السبيل الأصيل لنهضة الأمم، واستقلالها، وتحريرها من التبعية والعوز وتضمن مستقبلها.


ونؤكد أنه يجب أن تتغير الصورة الذهنية لعيد العمال في وعينا، من كونه مجرد عطلة رمزية إلى كونه مناسبة تربوية ملهمة تستنهض الضمير، وتعيد الاعتبار لقيمة العمل بوصفها رسالة نبيلة، ومسؤولية أخلاقية، وبوابة حقيقية نحو جودة الحياة، إنها دعوة لتنشئة الأجيال على احترام العامل المنتج، بوصفه ركيزة أساسية في بناء المجتمع ومصدرًا حقيقيًا للقيمة وشريكًا فاعلًا في حركة النماء والبناء.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

منتخب 2009 يواجه أيرلندا اليوم فى ختام دورة بولندا الودية

تحديد مصير إبراهيم فايق فى قضية نشر تسريب غرفة الفار.. بعد قليل

ريال مدريد ضيفا على إشبيلية فى الدوري الإسباني

الطقس اليوم.. استمرار الموجة شديدة الحرارة جنوبا وانخفاض تدريجى بهذه المناطق

موعد مباراة الزمالك وبتروجت فى الدورى المصرى والقناة الناقلة


اصطدام سفينة بجسر بروكلين فى نيويورك وإصابة 19 شخصا.. فيديو

سعد الصغير يعود لساحات القضاء من جديد.. اعرف التفاصيل

نظر محاكمة 12 متهما بقضية "رشوة وزارة الرى".. اليوم

عبد الرحيم دغموم يراوغ المصري فى التجديد بعد اهتمام الزمالك

نور الشربينى بعد التتويج ببطولة العالم للاسكواش: خضت موسما صعبا وهانيا رائعة


قمة تاريخية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى غدا .. لندن تسعى لإعادة ضبط علاقتها مع بروكسل بعد "بريكست".. توقعات باتفاق حول التعاون الأمنى والدفاعى بين الطرفين.. وحقوق الصيد وتنقل الشباب أبرز التحديات

موعد مباراة الأهلي القادمة أمام فاركو فى دوري nile والقناة الناقلة

"قوى النواب" تناقش مشروع قانون العلاوة وزيادة الأجور للعاملين بالدولة اليوم

موعد مباراة مصر ونيجيريا اليوم لتحديد المركز الثالث بأمم أفريقيا للشباب

هيفاء وهبي تُنهي تسجيل ألبومها الجديد وتستعد لإطلاقه قريبًا

اعترافات لصين بالقاهرة: نسرق المواطنين بأسلوب "انتحال الصفة"

هدايا منحت الأهلى قمة الدورى.. فاركو بدأها والبنك أكملها

أهم المعلومات عن الأتوبيس الترددى بعد التشغيل التجريبى.. إنفوجراف

يبدأ من 5 جنيهات.. تعرف على أسعار تذكرة ركوب الأتوبيس الترددى

جوارديولا يعلق على إهداء هالاند ركلة الجزاء لمرموش في نهائي كأس إنجلترا

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى