تحديات الأمن السيبراني وتعزيز الاقتصاد الرقمي

يواجه العالم تحديات كبيرة في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة وتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وما أصبحت تمثله من تهديد حقيقي للدول والمؤسسات والأفراد، وتشكل خطراً على حماية البيانات بمختلف صورها، لذلك أدركت الدول الكبرى أهمية الأمن السيبراني وتأثيره على حماية الأمن القومي لأي دولة وتأثيره الإيجابي أو السلبي على اقتصاديات الدول، بل أصبح أحد أنواع الحروب، لذلك تعد حماية البيانات من أكبر التحديات التي تواجهها المجتمعات والأفراد والشركات اليوم، مع تطور تقنيات القرصنة وأساليب الهجمات الإلكترونية، وسعت الدول إلى وضع استراتيجيات شاملة للأمن السيبراني.
والدولة المصرية أصبحت تتنبه إلى خطورة ذلك، حيث تولى اهتماما كبيرا بالأمن السيبرانى، من خلال اعتماد أطر واستراتيجيات وسياسات تأمين البنى التحتية للاتصالات، ووضع خطط وبرامج لتنمية صناعة الأمن السيبرانى، وإعداد الكوادر اللازمة لمواجهة التحديات والمخاطر السيبرانية، والتنسيق إقليمياً ودولياً مع المؤسسات الدولية؛ لتعزيز التعاون في هذا المجال.
إن قضية الأمن السيبراني أصبحت من الملفات بالغة الأهمية والحساسية، ليس فقط لكونه يتعلق بالأمن القومي وسلامة مؤسسات الدولة الرقمية، بل لارتباطه الوثيق بمستقبل الاقتصاد الوطني، فالأمن السيبراني هو مجموعة من الممارسات والتقنيات التي تهدف إلى حماية الأنظمة والشبكات والبيانات من الهجمات الرقمية التي عادة ما تهدف إلى الوصول إلى المعلومات الحساسة، مثل المعلومات الشخصية أو البيانات المالية، أو إتلاف البيانات وتعطيل العمليات التجارية، وفي ظل عالم يتزايد فيه الاعتماد على التكنولوجيا، يصبح الأمن السيبراني أمرًا حيويًا للأفراد والشركات على حد سواء.
مجلس الشيوخ فتح ملف الأمن السيبراني وقدم دراسة هامة بشأن تعزيزه ودعم الاقتصاد الرقمي، وذلك في جلسته أمس الأول الأحد، واستمعت إلى ما ذكره المهندس عمرو طلعت، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أمام المجلس، بأن المجلس الأعلى للأمن السيبرانى وضع الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبرانى 2023 – 2027، والتى تشمل برامج تنفيذية وهى: بناء إطار تشريعى متكامل، وتغيير الثقافة المجتمعية حول الأمن السيبرانى، وتعزيز الشراكة الوطنية، وبناء دفاعات سيبرانية، وتشجيع البحث العلمى وتعزيز الابتكار والنمو والتعاون الدولي؛ وكشف عن توقيع مصر العديد من الاتفاقيات على المستويين الإقليمى والدولى فى مجال الأمن السيبرانى لتبادل الخبرات وبناء القدرات والتدريب وتبادل المعلومات التى تخص التهديدات السيبرانية والمشاركة فى صياغة الاتفاقيات الدولية متعددة الأطراف مثل الاتفاقيةِ الدولية للحد من الجرائم الإلكترونية.
والحقيقة جهد طيب تبذله وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في هذا الملف بتوجيهات من القيادة السياسية، حيث تستهدف دعم التحول الرقمي، وإنشاء المراكز الإقليمية للأمن السيبراني، وإطلاق برامج تدريبية متقدمة لبناء الكفاءات، وهذه الجهود تحتاج إلى تكثيفها ودعمها والبناء عليها، ووضع خطط لتعزيز الاقتصاد الرقمي وتمكين الشركات الناشئة في مجال الأمن السيبراني وتيسير إجراءات تراخيصها، بالإضافة إلى ضرورة توفير حاضنات أعمال متخصصة في تكنولوجيا الأمن السيبراني، مع تقديم حوافز ضريبية وتشريعية لتلك الشركات الناشئة، بهدف تحفيز الابتكار وجذب الاستثمارات.
ومن المؤكد أن الانتقال إلى الاقتصاد الرقمي لم يعد خياراً، بل أصبح ضرورة حتمية تفرضها متغيرات العصر، فمع هذا التحول تتزايد التهديدات السيبرانية، مما يحتم علينا بناء منظومة متكاملة تضمن تأمين البيانات والبنية التحتية للمعلومات، في جميع القطاعات، ويأتي دور الشركات الناشئة في الأمن السيبراني كرافعة حيوية لاكتشاف حلول مبتكرة، تواكب هذه التحديات المتغيرة، وأرى أن هناك ضرورة لإنشاء صندوق وطني لدعم الابتكار في الأمن السيبراني، يتيح تمويلاً مباشراً وغير تقليديا للشركات الناشئة، خاصة في مراحلها الأولى، ويعمل بشفافية كاملة بالتنسيق مع وزارة الاتصالات والبنك المركزي،
ويعد وجود استراتيجية وطنية شاملة بشأن الأمن السيبراني أمر حيوي وحتمي، والأهم أن تكون الاستراتيجية مقرونة ببرنامج زمني وتنفيذها على أرض الواقع، وأن يتم فتح قنوات شراكة واضحة بين الحكومة والشركات العاملة في هذا المجال، سواء من خلال تعهيد خدمات أمنية رقمية إليها أو من خلال دمجها في المشروعات القومية الكبرى، بما يضمن تبادل الخبرات وبناء الثقة، كما يجب تعديل السياسات التعليمية في كليات الحاسبات والمعلومات والهندسة لتضمين مقررات متخصصة في الأمن السيبراني العملي، وإقامة مسابقات وطنية تتيح الفرصة لاكتشاف المواهب وتوجيهها نحو ريادة الأعمال في هذا المجال.
ومن الضروري أيضا الإسراع في إصدار التشريعات المنظمة للأمن السيبراني، بحيث يتم وضع إطار تشريعي ملزم للقطاعات الحكومية والخاصة، يتضمن معايير موحدة للسلامة الرقمية، ومسؤوليات واضحة تجاه حماية البيانات الشخصية والمؤسسية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الإقليمي والدولي في مجال الأمن السيبراني، والاستفادة من التجارب الناجحة في الدول المتقدمة، وخلق بيئة تشريعية مرنة تواكب التطور التكنولوجي السريع، دون الإخلال بالثوابت الوطنية، وإطلاق برنامج قومي للمشتريات الحكومية الموجهة، يلزم الجهات الحكومية بتخصيص نسبة من تعاقداتها التقنية للشركات الصغيرة والناشئة، بما يضمن دمجها فعليا في منظومة العمل الحكومي.
وكذلك ضرورة تعزيز البنية التحتية للاتصال الرقمي في المناطق التكنولوجية الجديدة، مثل مدينة المعرفة في العاصمة الإدارية وقرى حياة كريمة لتشجيع بيئة ريادة الأعمال السيبرانية في مختلف المحافظات، وإعداد قاعدة بيانات وطنية موحدة تضم كافة الشركات العاملة في مجال الأمن السيبراني، مع تحديد تخصصاتها ومجالات خبرتها، وتسهيل ربطها بالمشروعات القومية والمؤسسات المستفيدة، والعمل على تفعيل سياسات مرنة في إدارة المخاطر ووضع خطط استباقية، فالأمن السيبراني لا يجب أن ينظر إليه كحائط صد فقط، بل كفرصة اقتصادية هائلة، قادرة على فتح آفاق جديدة للشباب، وتوفير الآلاف من فرص العمل، وتحقيق الاكتفاء المحلي في مجال يشهد نمواً عالمياً غير مسبوق.
وبات من الضروري العمل على صياغة استراتيجية وطنية متكاملة لدعم الشركات الناشئة في الأمن السيبراني، تستهدف خلق حوافز لجذب الاستثمار في هذا المجال وتيسير الإجراءات للشركات الناشئة لتشجيع الشباب على إقامتها والتوسع في هذا المجال، وعلينا الاهتمام بتبني ورعاية العقول البارعة في مجال الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي من الشباب والنشء وتنمية مهاراتهم وتدريبهم وتأهيلهم.
إن الأمن السيبراني له شقين، أحدهما يتعلق بالأشخاص والعقول، والآخر بالإمكانات، الشق الأول يتناول كيفية اختيار العقول من المجتمع المصري وتدريبها، وهو أمر في غاية الأهمية، ويتطلب توفير حاضنات لاكتشاف هذه العقول، لأنها لا ترتبط بمرحلة دراسية معينة، فقد تكون موجودة في مرحلة الثانوية العامة أو الإعدادية، وليس بالضرورة في الجامعات، ولعل هناك أمثلة كثيرة لهجمات سيبرانية قام بها أطفال في سن 14 و15 سنة، ما يؤكد ضرورة الاهتمام بهذه الفئة العمرية، وأن ندرك أن اختيار العقول وتدريبها على أعلى مستوى أصبح ضرورة، لأنهم سيمثلون حصن مصر المنيع أمام أي هجمات سيبرانية.
وهناك حاجة ماسة لتسويق الكفاءات من خبراء التكنولوجيا واستثمار اهتمام الأطفال والشباب بالتقنيات الرقمية عن طريق تدريبهم وتأهيلهم بشكل مناسب، وأهمية استثمار هذه الكفاءات في الأبناء ليكونوا عنصر مستقبل للاقتصاد الرقمي.
كذلك هناك مسئولية مشتركة بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام بضرورة توعية المجتمع بأهمية الأمن السيبراني وخطورة الهجمات الإلكترونية وتوعيتهم بآليات حماية بياناتهم، والتوعية بمثل هذه التقنيات الاحتيالية لحماية الأفراد من الوقوع ضحية لها، فالرسائل الاحتيالية التي يتعرض لها المواطنون بدأت تنكشف للجميع، ولكن التحدي الأكبر يكمن الآن في التقنيات الجديدة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، هذه التقنيات تمكن من تركيب الصور والفيديوهات بشكل يساعد على ابتزاز الأفراد، مما يبرز الحاجة الملحة للتوعية المجتمعية حول هذه المخاطر.
فلا يوجد شخص بمنأى عن الهجمات السيبرانية التي تستهدف الحصول على البيانات الشخصية للأفراد، مثل الصور والحسابات البنكية، بغرض سرقتهم وابتزازهم، لذلك تبرز أهمية اتباع قواعد الحماية المعلوماتية التي تجعل البيانات الشخصية أكثر صعوبة في الاختراق، خاصة أن الجرائم السيبرانية تتزايد بشكل مستمر.
فالاستثمار في البحث والابتكار والتطوير وتدريب الكوادر البشرية على أحدث تقنيات الحماية السيبرانية هو السبيل الأمثل لحماية المواطنين والبنية التحتية الحيوية من هذه الهجمات الخطيرة، فالأمن السيبرانى هو مسؤولية جماعية، لا تقتصر على جهةٍ بعينها، بل تشمل أفراد ومؤسسات المجتمع بأسره، تستلزم تضافر جميع الجهود لبناء مصر الرقمية والوصول إلى مجتمع رقمى أكثر أمنا واستدامة.
وكنت قد تقدمت باقترح في مجلس الشيوخ لإنشاء مناطق تكنولوجية حرة في محافظات مصر - يمكن أن يكون للشركات الناشئة في مجال الأمن السيبراني جزء منها، فهى ستحل مشكلة بطالة وتصدر تكنولوجيا وتضمن أمن مصر المعلوماتي، وأرى ضرورة الإسراع في تطبيق المقترح والتوسع في إنشاء مناطق حرة تكنولوجية في جميع المحافظات.
فالهجمات الإلكترونية لم تعد تقتصر على استهداف الحواسب والبيانات فحسب، بل تجاوزت ذلك وأصبحت تستهدف الثقة، والسيادة، واستقرار المجتمعات؛ ووفقا لتقارير دولية فإن المؤسسات حول العالم تتعرض لهجمات برمجيات الفدية بمعدل متوسط يصل إلى هجمة كل 11 ثانية، وأن أكثر من 300 مليون فرد تعرضوا لهجمات سيبرانية فى عام 2023، فيما قُدرت التكلفة العالمية للجرائم السيبرانية بنحو 9.5 تريليون دولار فى عام 2024، وتنمو بنسبة 15% سنوياً، وهناك تطورا نوعيا فى طبيعة التهديدات السيبرانية حول العالم شمل هجمات تستهدف سلاسل الإمداد الرقمية، وأخرى تُدار من قبل جهات دولية فاعلة، تستغل الثغرات فى شبكات الاتصالات أو حتى فى البرمجيات المستخدمة على نطاقٍ واسع؛ بالإضافة إلى الهجمات الالكترونية التى استهدفت مؤسسات مالية، ومستشفيات، ومحطات طاقة، وأنظمة مراقبة الحركة الجوية.
لذلك الأمن السيبراني أصبح مسؤولية مجتمعية شاملة، تستوجب نشر الثقافة السيبرانية؛ مما يتطلب تعزيز الجهود للتوعية بأهمية الأمن السيبرانى وسبل التعامل مع التهديدات السيبرانية للمواطنين وللعاملين بالجهاز الإدارى للدولة، إلى جانب تنفيذ برامج تدريبية متخصصة للطلاب والخريجين فى هذا المجال الحيوى، إلى جانب وضع الأطر التشريعيةِ والحوكمية التى تحدد معايير لحماية الأفراد والمؤسسات من الهجمات السيبرانية وآثارها.
Trending Plus