لواء التجويع فى جيش الاحتلال.. حتما سيرحل نتنياهو ويبقى عاره فى وجه إسرائيل للأبد

فاض الوضعُ فى غزّة على كلِّ الأوصاف المُمكنة. لم يعُد قابلاً للشرح بالكلام المُعتاد ولا البلاغة القديمة، وقد تخطَّى التجويعُ سقفَ النار، وصار سلاحًا أشرسَ من كلِّ سلاح آخر.
تُسفر الصهيونيّةُ عن وجهها شديد القُبح، وتتحلَّل عمدًا من الشعارات العارية وسفسطة الرمزية الأخلاقية.
الدولة الديمقراطية انقلبت كيانًا شموليًّا يقودُه ائتلاف الليكود إلى الهاوية، والنائب الحضارى عن الغرب المُتقدِّم، فى رحاب الشرق البائس، استحالَ إلى حالةٍ من النازية المُفرطة، يتمثَّلُ فيها الضحيّةُ هيئةَ جلّاديه، ويُعيد توقيع جرائمهم على ضحايا آخرين، فى مُتواليةٍ مُتّصلة من القهر والتنافُس على الانحطاط حتى القاع وما دونه.
إسرائيل دولةٌ مُلفّقة، ومُجرِمة بالأصل والتكوين، وإذ كانت تُبرِّر خطايا عقودها السالفة، أو تتعالى عليها، بمقتضى الظرف، ووجوديّة الخطر فى زمن الطوق العربىِّ الخانق، فقد اختارت بإرادتها الحُرّة راهنًا أن تكون وحشًا هائجًا فى فسحةٍ من الخيارات، وتُعبِّر عن ذاتها الحقيقيَّة اليومَ، بأكثر من كلِّ ارتكاباتها السابقة، وما من مُسوّغٍ يدعمها، أو ستارٍ تتخفَّى فيه من واقعِها الآثم.
لعبةُ الأمعاء الخاوية ليست طارئةً عليها. مارستَها كثيرًا على طول فترات الصراع، وفى حصاراتٍ عِدَّة داخل فلسطين وخارجها.
والجولةُ الراهنة كان الجوع حاضرًا فيها منذ البداية، بعدما أطلقت عدوانها الشرسَ ردًّا على «طوفان السنوار»، وسيّجَتْ القطاعَ بالحديد والنار لنحو أسبوعين كاملين، قبل أن تُضطرَّ للرضوخ لاحقًا مع صلابة الموقف المصرى، وبالتزامن مع قمّة القاهرة للسلام خريف العام 2023.
سمحَتْ بلا رغبةٍ منها بإنفاذ المساعدات الإنسانية، لكنها كانت تتحيَّن الفُرَص لقَطع الطريق عليها بين وقتٍ وآخر. وليس بعيدًا ما قاله وزيرُ حربها السابق، يوآف جالانت، فى صدر اندفاعته الهمجيَّة تجاه الغزِّيين، من أنهم يرونهم «حيواناتٍ بشريَّةً» ويتعاملون معهم على هذا الأساس، ومن ثمّ فلا حائلَ عن منع الإمدادات الإغاثية، وتجفيف الوقود والكهرباء، والدَّفع بالجغرافيا لأن تكون مجالاً خَرِبًا وغير قابلٍ للحياة، وطاردًا للديموغرافيا لاحقا إلى القبور أو المنافى.
ما كان هدف الحرب أن يثأر اليمينُ المُتطرِّف من هجمة الغلاف، ولا أن يستعيد الردعَ مع حماس وبقيَّة الفصائل الرديفة، جنوبًا أو شمالاً وعلى اتساع محور المُمانعة.
تمنّاها نتنياهو صِدامًا شاملاً يُعيد ترسيم المنطقة جوسياسيًّا، وأراد منذ البداية أن يُطيل الصراع إلى مداه الأقصى، ويُحوِّل غزَّة لعِبرةٍ ماثلة للجميع اليومَ ومُستقبلاً، لأجل ألَّا تتكرَّر المُغامرة من جانب المُقاومة المسلحة، وألَّا يطمع السياسيِّون فيما فوق العَيش المشروط، والإدارة الذاتيَّة المُطوَّقة باحتلالٍ غاشم كما فى الضفة الغربية، أو بجمود صلدٍ مثلما عاش القطاعُ عقدَين كاملين.
وذلك، على أن يكون له الحقُّ فى «جَزِّ العُشب» وتقليم الأظفار على فواصل زمنيّة مُتقطِّعة، وتمرير المنافع والمغريات كيفما يتراءى له، وبما يُديم مُعادلةَ الانقسامِ أمام الغريم المُشتَرَك، واستئساد طرفٍ على آخر داخل العائلة الواحدة.
ومن دون عناء، فإنَّ بالإمكان حَصرُ الأيام التى تدفَّقت فيها المساعدات على القطاع. زهاء ستمائة يوم تقريبًا منذ الطوفان، تُختَزَلُ إنسانيًّا فى هامشٍ افتتاحىّ مُبكِّر، ثمّ أُسبوع الهُدنة الأُولى، ونحو ستة أسابيع من الثانية، وبينهما مُتفرِّقات تُعَدُّ على الأصابع.
التدفُّقات فى الأحوال العادية كانت تتراوح بين 400 و500 شاحنة يوميًّا، بما يعنى 250 ألفًا فى المتوسط خلال شهور الصراع الماضية، بينما ما وصل إليها فعليًّا لا يتخطّى 40 ألفًا، أى أقلّ من سُدس الاحتياجات الطبيعية.
ولكى تكون الصورةُ قريبةً للأذهان، فكأنك تفرضُ على كلِّ صغير وكبير من الغزِّيين أن يأكل وجبة واحدة كل يومين، ومع تفاوت الإيقاع واختلال التوزيع، فالواقع أنَّ كثيرين منهم أمضوا نهاراتٍ وليالىَ عديدةً زحفًا على بطونٍ خمصاء.
وفى حين تتراكم مُساهماتُ مصر وكثيرٍ من دول العالم على الجانب السيناوىّ من معبر رفح، فالمسؤولية مُعلَّقة بكاملها على عاتق الدولة العبرية. والعِلَّة هنا لا تتأسَّسُ على كونها تضربُ حصارًا على القطاع وتخنقه فحسب، إنما لأنها سلطةُ الاحتلال القائمة، وعليها التزاماتُ بمُوجَب القانون الدولى، والأعراف الإنسانية، واستقامة الخلق والضمير أوّلاً وآخرًا، وبهذا، فإنها ترتكبُ الجريمةَ مرَّتين، وبإمعانٍ لا يصحُّ معه اعتماد التفاسير السهلة، ولا الاستلاب لحساب الدعايات الرخيصة: المُحتلُّ يمتنع عن الاضطلاع بأدواره الواجبة، ويمنعُ الآخرين عن سدِّ الثغرة وإصلاح ما يتعمَّد إفسادَه بقراره السياسى وآلته الحربية الباطشة.
وإن تعطَّلت آليَّةُ المُساءلة وفقَ الأُطر الحاكمة للنظام الدولى القائم على القواعد، لتوازُناتٍ مُختلَّةٍ أو اعتلالات مقصودةٍ فى بنائه وتركيز فاعليَّته فى أطرافٍ بعَينها، فإنَّ الوقائع ثابتةٌ بالدليل والمُشاهَدَة، والجريمة مُتَّصلة بمُرتكبِها، وليس أقلَّ من تعويضٍ العجز النظامىِّ عن الردع والتصويب، بالإدانة الأخلاقية وتوثيق الانتهاكات، وعدم التهاون فى وَصْم المسؤولين عنها بكلِّ السُّبل المُتاحة والمُستعصية أيضًا.
لا تشعرُ إسرائيل بأنها تأتى عملاً شائنًا وخارج القانون والأخلاق. يأخذ سياسيِّوها القرارات ويُطبّقها العسكريون بحماسةٍ مُفرطةٍ، ويُجاهر قادتُها فى اجتماعاتهم وعلى الملأ باحتقار القواعد الإنسانية وإطارها العام.
فى اجتماع «كابينت الحرب» الأخير رفض الوزيران من جناح الصهيونية الدينية: بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، أىَّ حديث عن تمرير المواد المطلوبة لإنقاذ المدنيِّين العُزَّل من الموت جوعًا.
قالت المستشارةُ القضائية جالى بهاراف ميارا إنَّ فى هذا السلوك صِدامًا مع القوانين الدولية، واعترض رئيسُ الأركان على التجويع أو الاضطلاع بمهمَّة توفير الإمدادات المطلوبة فى نَفَسٍ واحد.
وفى الأخير، اكتفى نتنياهو بالتسجيل فى محضر الاجتماع أنَّ «أىَّ وزيرٍ لا يَنوى مُخالفة القانون الدولى»، لإبراء الذمّة وتحصين عصابته من المُساءلة القضائية محليًّا ودوليًّا، بينما المخالفة واقعةٌ بالفعل، ولا تزال للأسف.
كانت الهُدنةُ الماضية فسحةً محدودة من الأمل. أُنجِزَت على عجلٍ فى الثلث الثانى من يناير، ودخلت حيَّزَ النفاذ قبل ساعاتٍ من مراسم تنصيب ترامب.
اضطُرَّ نتنياهو لإبرامها على سبيل الهديّة للرئيس العائد بأكاليل الغار ومواكب النصر الحاشدة، وأُخضِعَت حماس فيها بتهديدات سيِّد البيت الأبيض بالجحيم المُنتظر. وبنودُها كانت تنصُّ على معادلةٍ حسابية مُتعدِّدة الجولات لتبادُل الرهائن، مُقابل إدخال ستمائة شاحنةِ مُساعداتٍ يوميًّا، ثمَّ فى وقتٍ مُتقدَّم يُسمَحُ بالبيوت المُتنقِّلة ومعدَّات إعادة الإعمار، على أن تنتقل بُمفاوضاتٍ تالية من مرحلتها الأُولى إلى المرحلتين الباقيتين.
ومنذ البداية، كان ذئبُ الليكود يُراهن على امتصاص الحماسة الأمريكية، والاستحصال على عددٍ من الرهائن، ثمَّ العودة للقتال كأنَّ شيئًا لم يَكُن. وهكذا استبقَ إفسادَ المسار التفاوضىِّ بقَطع المُساعدات فى اليوم الثانى من مارس، ليُجدِّد العدوانَ بعدها بأسبوعين تقريبًا.
والفارقُ الزمنىُّ هُنا ليس شكليًّا على الإطلاق. فالطعام والدواء وبقيَّةُ اللوازم الحيويَّة ليست مُستَثناةً من عُدَّة الجيش، وتنظرُ إليها تلُّ أبيب كنظرتها لمخزونها من الصواريخ والقنابل الغشيمة الخارقة للتحصينات.
تعرفُ أنَّ ثبات الغزِّيين العاديين أثمنُ ما يملكه القطاع، وأكثرُ ما يستعصى عليها تطويعه. سلاح حماس ليس فاصلاً فى المُعادلة، وقد اهتزَّ ولم يصمُد أمامَها عندما كان بكامل عافيته، والآن صار فى أضعف حالاته، وأقلّ كثيرًا من احتياجات الرَّدع أو الحماية.
الحربُ ظاهريًّا على الحركة، وفى جوهرها على الخزَّان البشرى الكثيف. وإذا كانت كتائبُ القسَّام بعد كلِّ الإنهاك الفائت ما تزال تحتفظ بقذائف وهياكل صاروخية بائسة فى مخازنها، فالأوقع أنها تُؤَمِّنُ غذاء مُقاتليها ومعاشهم، ولن يخنقها الحصارُ القاسى، ولو صَعَّبَ عليها تعويضَ الفاقد وترقية الأرصدة.
وباعتبار أنَّ حقيقةً بسيطة كهذه لا تغيبُ عن أذهان القادة والمُخطِّطين الاستراتيجيين لدى الاحتلال، فإنهم يتقصَّدون المدنيِّين حصرًا بحرب التجويع، ولو ادّعوا العكس.
يتراءى للصهاينة أنَّ الحماسيين استغلّوا مساحات التقاط الأنفاس لإنعاش إمكاناتهم اللوجستية، وتوليد الموارد المالية لسداد الرواتب والنفقات الضرورية لعناصر الحركة. والأمر إن كان صحيحًا من أحد جوانبه، فإنه لم يكُن مُعتمَدًا عن احتياجٍ مُلحٍّ أو وصولٍ إلى حدِّ الكفاف. بمعنى أنَّ ثمة احتياطيًّا موفورًا فى الأنفاق والمخازن الحصينة، وكلما أُتيحت فرصة تضيف إليه.
وقَطع السبل عليها إنما يُوقف مسار التراكم، ويقتطع ممَّا تحت أيديها بالفعل، لكن الوصول إلى تصفير الأرقام قد يستغرق شهورا، وخلالها سيموت آلاف المدنيين جوعًا، ولن يتغير شىء فى المعادلة الحالية بين الفصائل والاحتلال.
والحال، أنه لا شىء يُبرّر الوحشية الإسرائيلية الراهنة، وقتلهم النساء والأطفال جوعا وعطشا. وإن كان القطاع قد شهد خروقا وتجاوزات فى السابق، وسجل بعض الغزِّيين ملاحظات على آلية توزيع المساعدات بعمومية وتجرُّد، أو على احتكار حصّة منها لصالح أطراف بعينها، وتمرير حصة للأسواق بأسعار مبالغ فيها، حتى أن لحوم الأضاحى التى تُوزّعها السعودية على فقراء العالم مجانًا بعد انقضاء موسم الحج، كانت تُباع بأضعاف ثمنها الطبيعى فى غزة قبل الحرب، فهذا أيضا مما لا يغسل سمعة الاحتلال، ولا يُمرّر عقاب المدنيين عن أفعال لم يقترفوها.
وما استعادتها هنا إلا لوَضع اليد على المثالب، والنظر الجاد فى تجنيب المسألة الإنسانية بعيدا عن الاستغلال والاستغلال المضاد. يحقُّ لمقاتلى القسام أن يأكلوا كغيرهم، وهم بشر ولهم حقوق فى كل الأحوال، إنما لا يحق لهم التميُّز بقوة السلاح على الآخرين، ولا أن يستخدموا الإعانات الخارجية للمنكوبين وسيلة لتمويل الأجور والمرافق النظامية للحركة وجناحها المسلح.
الحادث اليوم يُعيد للأذهان صورا ومشاهد شديدة الوحشية من أحط التجارب البشرية. والأقرب ما كان فى حصار ليننجراد، الذى امتد قرابة 900 يوم وأوقع آلاف القتلى. ومع فارق المساحة والأعداد، وطبيعة الصراع فى حرب عالمية تشتبك فيها دول عظمى وجيوش نظامية، فإن ما يعانيه الغزِّيون ربما يفوق معاناة الروس سابقا، وحتى مع المساواة بينهما فإنها إشارة إلى أن نتنياهو لا يختلف عن هتلر، وحكومته لا تختلف عن الرايخ الثالث، وجيشه الذى يزعم لنفسه الأخلاقية والتحضر على قدم المساواة مع الهمجية النازية.
وإن كان اليهود يحتكرون سيرة المعاناة الأكبر فى العصر الحديث، ثم يختزلونها فى الدولة العبرية وريثا وحيدا عن الضحايا، فعليهم الالتفات إلى أنهم يُطابقون عدوّهم القديم اليوم فى القول والفعل، ويسيرون على دربه بالنقطة والفاصلة. النازية حال إبادة عرقية ودينية، وليست تفسيرًا لمُنازعة ضيّقة بين فريسة وصياد بعينهما، وما قِيل فى هتلر ينطبق على نتنياهو دون حاجة حتى للتحوير أو إعادة التكييف والصياغة.
أما آخر ما استقر عليه النازيون الجدد، فأنهم سيُطلقون عملية لتوزيع المساعدات من خلال الجيش أو تحت حمايته. الفكرة تتبلور فى تجهيز مراكز لوجستية فى المناطق الآمنة، ويُقصَد بها ما يقع تحت السيطرة الإسرائيلية.
يرفض رئيس الأركان إيال زامير أن يضطلع بالمهمة لأنها ستصرفه عن أولويات الجبهة وخطة توسيع الحرب، والبديل المطروح أن يُدار الأمر من خلال شركات أمريكية، وبوتيرة أسبوعية تضمن ضخَّ الاحتياجات بأقل قدر ضرورى لإبقاء الناس على قيد الحياة، مع احتمال أن يكون ذلك بصفة شخصية، وبما يضمن تجفيف إمدادات حماس أو اصطياد عناصرها حالما يطلون برؤوسهم من الأنفاق.
والعقبة هنا ليست فى الآلية أو المواعيد والكميات، بل فى تسييد المسلك نفسه وتطبيعه عمليا، بما يجعل الإغاثة عملا حربيا ضمن مكونات الجيش الصهيونى وتسليحه، وبالتبعية ستكون أداة للمناورة والابتزاز، وتخرج عن طبيعتها الإنسانية المجردة، والواجبة دوما دون شروط أو قيود، وبمعزل عن أية اعتبارات سياسية أو عسكرية.
والتزامن بين ما فات، واستدعاء آلاف من جنود الاحتياط لتثبيتهم على الجبهات المفتوحة مع سوريا ولبنان والضفة الغربية، مقابل تحريك الألوية المتمركزة فيها باتجاه توسيع السيطرة على غزة، بمثابة دليل مضاعف على أن المسألة الإنسانية تساق بين خطط الحرب، لا فى مكانها وزمانها الطبيعيين، وتستكمل بها إسرائيل خطتها الدموية فى القطاع، بدلا من أن تعوض جرائمها الميدانية أو تستوفى التزاماتها القانونية والأخلاقية.
وإذا أضفنا لهذا حربها على وكالة أونروا بالدعاية والإجراءات والتشريعات المقيدة، وقصفها للمراكز الإغاثية والمنشآت المدارة من خلال فعاليات أممية ودولية، فالخلاصة أنها تعزل القطاع وسكانه عن العالم مَددًا أو دفاعًا، وتتخذه رهينة أو منصة لاستعراض القوة، وكلما طالت مهلة المهمة المستحيلة لإفناء حماس، يفنى المدنيون، ويكفر الباقون منهم بالثابت الوطنى، وقد يبحثون عن أى مسرب للفكاك من المحرقة وأفران الفوهرر بنيامين نتنياهو وائتلاف الرايخ الثالث الجديد، فى نسخته الليكودية التوراتية.
وواجب العالم ليس أن يضغط لإطعام الجوعى، بل أن يضمن انتظام العملية وفق المسارات الطبيعية، وبعيدا من التوظيف الحربى أو التفاوضى. عليه أن يروض الجنون الصهيونى، وأن يفك عقدة الانحياز الغربى الفج.
كما على حماس أن تستقيل من أدوارها الشمولية أيضا، وألا تضع نفسها فوق البشر والحجر، اكتفاء بالأنفاق عن العمران وبالتنظيم عن جملة السكان. حتى الاعتذار لم بعد مطلوبا، بل الإقرار الصامت والتصويب المتعجل.
لم يعد مقنعا اتهام الجوعى باللصوصية والعمالة، ولا أن يُفرض على الناس الموت جوعا بديلا وحيدا للتخوين. قُتل أبرياء بحثا عن الطعام، وبعضهم برصاص عناصر الحركة للأسف، ودفع آخرون آخر ما يحتكمون عليه لشراء وجبة معلبة أو كيس طحين. وسواء أفلحت الضغوط فى تحرير الإغاثة من قبضة الاحتلال، أو فرضت الظروف الاضطرارية أن تدار من خلاله، فواجب الحركة أن تبقى بعيدا عن المشهد قدر الإمكان، وأن تترك الناس ليتحصلوا على ما يقيم أودهم بدون استغلال أو تشغيب.
حتى الآن ما فعلت الفصائل شيئا إلا استجلاب العدوان، واستحلاب وحشيته لآخرها، وإن كانت تتأبّى على التفريط فيما تملكه سلاحا ووجودا، فليس من حقها أن تشارك العدو فى حرمان الناس مما لا يملكونه، ويتطلعون إليه عن حاجة لا رفاهية، وللفرد فى قدسية روحه، لا للجماعة فى أنانية مصالحها وإملاءات قادتها ومموليها فى لعبة الأيديولوجيا والتحالفات.
غزة أسوأ مما كانت حتى مساء السادس من أكتوبر. وما كان لا سبيل لاستعادته، وهو فى حكم المستحيل الآن. المنكوبون يطلبون الحد الأدنى، وهو الأعظم فى حقيقته، لأنه ينتصر للحياة على الموت، وللقضية فى معناها الشامل على اختزالاتها الفصائلية البائسة. الاحتلال صاحب الجريمة الكبرى، وحش العصر وكل عصر، وقل ما شئت أن تقول وما تستطيع، لكنه لم يكن غريبا علينا ولا أتانا من فوق الرؤوس وتلال الخبرات الموجعة.
إن كان السنوار ورجاله يعرفون فقد غامروا بالناس، وإن كانوا يجهلون فعليهم التوبة بدلا من التمادى. الوحوش لا ترتدع بقراءة القوانين عليها، وإذا افتتحت مطاردتها بخمسين ألف فريسة فلن يمنعها مانع من استكمالها بأضعافهم.
لا أقصد التسليم والإذعان، وإن كان متحققا بالقهر أصلا، إنما القصد أن نستفيد بما فات لنستدرك خطايانا فيما هو آت. وأن نبقى على الأقل فوق حد الحياة، حتى لا يسلب الموت آخر ما فى الصدور من أمل، أو تتحسن الأوضاع لاحقا ولا تجد من يحتفل ويرفع راية أو جدارا فى القطاع.
Trending Plus