الانتحار قفزا على جدار الردع.. حكاية بائسة عن تسييل الخرائط أو اللعب فى فريق العدو

لا القصر الرئاسى مُحصّن ولا الأنفاق، ومراتعُ الميليشيا الحوثية البعيدة فى اليمن أقربُ إليه من أسراه فى غزّة. إن كان نتنياهو مَدينًا لأحد؛ فإنه يحيى السنوار من دون شَكٍّ. سَيَّل له الخرائط وفتّح الحدود على بعضها، وملأ خزَّان مشروعه الهمجىّ المُتوحّش بالوقود حتى الفوّهة.
تبدأ المأساة من «الطوفان» ولن تنتهى عنده، وما عاد بالإمكان الرجوع من مُنتصف الطريق، ولا المواصلة إلى منتهاها. الجميع محبوسون فى مُعادلةٍ صاخبة؛ لكنَّ ذئب الليكود العجوز أحسن حالاً من الآخرين، ويملك ما لا يتوافر لهم من خيارات.
أخفق فى السابع من أكتوبر، وما يزال دوّارًا فى دوامَّة من الخطايا والإخفاقات؛ إنما إنْ قِيسَ وضعُه على حال الخصوم جميعًا سيخرجُ رابحًا.
يُعطِّل المُساءلة فى الداخل، ويشطب على خيار التحقيق فى هجمة الغلاف. يُطيلُ العدوان على القطاع فيُعزِّزُ صورتَه الباطشة، ويُراكم مزيدًا من تأثيرات الإرعاب وكَىِّ الوعى.
يحتلُّ خمسَ نقاط فى جنوب لبنان، ويقضمُ جغرافيا سوريا بنَهمٍ لا ينطفئ، ويُصوّب على وكلاء إيران استعدادًا لجولة مُباشرة معها. وحتى مع السخرية وتسفيه ما قاله فى فاتحة الحرب؛ فالواقع أنه يُعيد رسمَ المنطقة جيوسياسيًّا كما أراد، أو بشّر بحماوةٍ وحماسيّة عاليتين، ولم يأخذه السامعون وقتَها على محمل الجدّ.
يقفُ مُتشدِّدًا على سبع جبهاتٍ كما يقول، وكلُّها تطلبُ منه الحدَّ الأدنى، بينما يرى أن الزمن تجاوز التسويات الرتيبة، وأنه ليس فى حاجةٍ لتقديم تنازُلات، أو الارتضاء بما دون الغنيمة الكاملة.
الأسرى مُهمِّون؛ لكنهم ليسوا الأهمَّ على الإطلاق. لا حماس ولا فتح والسلطة. كان بشَّار عدوًّا؛ إنما لا يصلحُ الجولانى صديقًا. وعبد الملك الحوثى فى مخبئه مُجرَّد هدفٍ مُؤقّت؛ أمَّا القذيفة الكبرى فتتحضَّر لرأس الأخطبوط.
لم يعُد التهام الأذرُع كافيًا أو مُشبعًا، ولا ابتلاع الجغرافيا مُقنعًا بالالتفات عن تكسيح الديموغرافيا وإعادة تهذيبها. وهذا فى الداخل كما فى الخارج؛ فاليمين انفجر من قُمقمه ولن يعود إليه ثانية، وإسرائيل النازيَّة التى تعرفونها تغيَّرت تمامًا، فلا تنتظروا منها بعد خبرة ثمانية عقود، أن تكون مثل هتلر الذى تحصَّل على عقدٍ وبضع سنوات بالكاد.
استُدرِج «بيبى» إلى كلِّ ما كان يخشاه؛ فإذا به يكتشف أنَّ المُمانَعة نمرٌ من ورق، والخشية غير مُبرَّرةٍ على الإطلاق. إن سألتَه قبل السابع من أكتوبر عن الصدام مع حماس لم يكُن ليُرحِّب به، وربما قدّم العطايا لإزاحته عن طاولة الاحتمالات.
وإذ يعرفُ أنهم غادروا لبنان مُضطرّين قبل عقدين كاملين؛ فلا باعثَ لديه على العودة ولم تتبدّل الأحوال، أو تنضج الظروف.
كان الأسدُ حفرةً على الطريق؛ لكنه ظلَّ قادرًا على التعايش مع وجوده، والقفز من فوق هامته القزمة. حتى اغتيال حسن نصر الله خريفَ العام الماضى، كان أشدَّ الرافضين له، وراوغَ جنرالاته وأعضاء حكومته طويلاً قبل التوقيع على الإذن بجزّ رقبته.
بل إنَّ الولايات المُتَّحدة عَدّته على الجنون والنَّزَق، حتى أنَّ وزير الخارجية السابق فى إدارة بايدن، أنتونى بلينكن، انفعل على مَنْ كان يُبلغه بالقرار، مُستهجنًا ما فيه من استخفافٍ وإزعاج، وجاره فى كُرسىِّ الدفاع، لويد أوستن، قال لنظيره يوآف جالانت إنهم يُغامرون بإشعال المنطقة، حسب الكواليس المنشورة مُؤخّرًا فى الصحافة الأمريكية.
وعلى العكس من كلِّ التصورات، يتموضَعُ اليوم فوق جثامين أعدائه جميعًا. يضعُ قدمًا فى سوريا والأخرى جنوبىَّ الليطانى، ويرتاح بظهره العريض الثقيل على كامل القطاع، ويدُه تعبثُ فى مخابئ الحوثيِّين، بينما تتكوّر قبضةُ الثانيةِ استعدادًا لتسديد اللكمة القاتلة، فى طهران أو غيرها.
العقيدةُ الصهيونية الراسخة لعقودٍ مديدة، والمُستندة لتنظيرات زئيف جابوتنسكى عن «الجدار الحديدى»، كانت تُفضِّل الضربات الخاطفة على الاشتباكات الطويلة. تُعاقب وتُؤلم وتُثبِّتُ حالةَ الرَّدع.
ومن سلبيات تلك الصيغة أنَّ أثرَها يتآكل بمرور الوقت، وكما تسمحُ للغريم بالاستعداد وتعزيز القوَّة تحت سقف الرتابة؛ فإنها تُعمِّى صاحبَها عن معرفة حدود إمكاناته الحقيقية، والثقة فيها، أو الاطمئنان لقُدرتها على خوض سباقات النَّفَس الطويل.
والرَّدع يسقُط فورَ الاضطرار لتفعيله عَمليًّا، ويُولِّدُ بدائلَه من رحم التجربة بالحسابات الميدانية المُجرَّدة. إنه مصلحةٌ للمُقاوم، فى توازنه الهشِّ وصلابته المُتخلخلة، كما للمُحتلِّ والمُعتدى أيضًا؛ لأنه لا يُذيب فاعليَّة الضعيف تمامًا، ويردعُه وقتَ اللزوم عن الانتحارات المجّانية.
خطيئةُ «الطوفان» أنه قفزَ على الجدار، من دون معرفةِ ما ورائه، ولا امتلاك مهارات الهبوط الناعم.
وبالمنطقِ ذاتِه؛ كان حزب الله رومانسيًّا ساذجًا فى دخوله «حرب الإسناد والمُشاغلة». لقد عاش منذ انقضاء مُغامرة العام 2006 على سرديَّة النصر، ولم يُنازعه فيها أحدٌ، أو يردّ عليه الصهاينةُ أنفسهم.
سمح له فائضُ القوَّة أن يفرض إرادته على لبنان الرسمىِّ، وأن يتفلّت من القرار الأُمَمىِّ رقم 1701 بشأن نزع السلاح، ومُقتضيات سابِقَيْه 1559 و1680 الناصّة على حلِّ الميليشيات وطَرد المُقاتلين الأجانب وضبط الحدود.
وتلك الوضعيَّةُ المُلتبِسة أمَّنَتْ لدويلته أن تكون فوق الدولة، ومنحَتْها قواعد اشتباكٍ ضِمنيَّة ظلَّت صالحة للاستهلاك؛ لأنها لم تُختَبَر.
وسواء بادر إلى مُؤازرة غزَّة أو أُملِيَتْ عليه؛ فقد تخلّى طائعًا عن مزايا التلطّى وراء الضباب، واندفع بهيكله الضخم، المنسوج من قشٍّ وأصماغٍ وورقٍ مُقوَّى، فى قلب النار.
لا شاغلَ ولا أسندَ؛ وارتدَّ الاستخفافُ عليه بالرزايا والنوائب. كان ينزفُ دَمًا ورجالاً بينما يستهلِكُ خطابَ الفاعلية، تُدَكُّ الضاحيّةُ الجنوبية لبيروت على رأسه فيُلوِّح لهم بحيفا قولاً لا فِعلاً، وحتى دَفْن أمينه العام السابق فى الطابق الرابع عشر تحت الأرض، كان مُستَلَبًا لأوهام الرَّدع وتوازُن الرعب، ويتحدَّث عن الاشتباك المحسوب؛ كأنه فى دراما مصنوعة، ومعروفة المسار والمآلات.
وعلى طريق القدس ذاتها، كان الحوثيِّون آتين من خَلفٍ بعيد. هدّدوا الملاحةَ فى بحر العرب وعند المضيق، وأضرّوا اقتصاد المنطقة والعالم؛ لكنهم ما خنقوا إسرائيل ولا قوَّضوا قُدرَتها على إقامة حفلات الشواء فى غزّة.
صواريخُهم المُتسكِّعة باتجاه فلسطين التاريخية عصافيرُ مُشتعلةٌ، تموت قبل أن تصل لأعشاشها. حتى الأخير الذى سقط على مقربةٍ من الصالة الرئيسية لمطار «بن جوريون» وأصاب عدَّة أفراد؛ كان تجديدًا للذريعة بأكثر مِمَّا يُؤلِم أو يستحثُّ مخاوفَهم ودموعَهم.
وبعدما انكسرت حماس والحزب، وسُيِّجَتْ الميليشيا العراقية بإرادة الدولة أو بنصائح الحرس الثورى، ما عاد باقيًا من أذرُع إيران إلَّا الحوثيون بعقولهم الفارغة، ومخازنهم المُتخمة بالبارود.
صحيح أنَّ بايدن ابتدأ المواجهة؛ لكنَّ ترامب ليس كسابقه، ولا يدخُلُ حلبةً إلَّا على شرط النصر الكامل أو المُقايضة الرابحة. قد يُحرزه بالقاذفة الاستراتيجية B2 أو بشطارة مبعوثه ستيف ويتكوف، ومُفاوضاته المُتأرجحة بين مسقط وروما؛ لكنه سيُحرزه فى كل الأحوال.
إمَّا صفقة يسقُط نَصلُها على أصابع الميليشيات الرديفة بامتداد الإقليم، أو صِدامًا يطحنُهم فى جُملة ما سيَطحن.
لا يتحرَّك الصهاينةُ بالمُصادفة إطلاقًا. لديهم سيناريوهاتٌ استباقيَّة لكلِّ الظروف والاحتمالات؛ ربما يُؤخَذون على غفلةٍ من «السنوار» ورجاله، لكنهم يستعيدون توازُنَهم سريعًا، ويستخرجون من الأدراج ما يُناسِبُ التركيبة الجديدة.
وليس من الدعاية أن يقول ساستُهم إنهم ساهموا فى إسقاط الأسد؛ لأنهم كانوا يعرفون بالضرورة أن تكثيفَ الضغط على الميليشيا اللبنانية سيضطرُّها لسَحب مُقاتليها من أرياف الشام الشمالية، وأنَّ إطاحة أمينها العام سيمنعُها من إمداد الحليف السورىِّ بالعتاد والرجال على الميقات المطلوب.
ليس شرطًا أن تُنَسّق مع أنقرة أو عصابات إدلب، ولا أن تُصدِرَ أوامر مُباشرةً لـ«الجولانى» بالتقدُّم، ولرجال ماهر الأسد وسهيل الحسن بالارتداد والتلاشى. كلُّها لعبة ميكانو، تباديل وتوافيق، وما يختلُّ فى ناحيةٍ يُعَوَّض من غيرها، وما يُضرَبُ هنا يُسمَعُ صداه هناك، وعلى قانون نيوتين الفيزيائى الشهير «لكلِّ فِعلٍ ردُّ فعل».
هكذا؛ يُمكن القول إنَّ نتنياهو أراد «الطوفان» من صميم فؤاده، ولو ظلَّ يتوجّس منه ويتهيّبه بالحسابات العقلية الباردة. وليس عابرًا أنه صاحبُ الولاية فى «صفقة شاليط» قبل أربع عشرة سنة، وأخرج السنوار من محبسه بيديه، ورحّب بانقلاب حماس على السلطة، ورعى انفرادها بالقطاع وتمكين سُلطتها ماديًّا ومعنويًّا، وعسكريا أيضًا.
كأنه كان يرسمُ مسارًا جانبيًّا لاستجلاب الحلول من خارج الصناديق المُعتادة. يصنع السيناريو البديل، ويدّخر الورقة الرابحة لحين احتياجها. ولو أنه أراد جبهةً جنوبيّةً مُدجّنة؛ لكان أوّل الساعين لخَنق الحركة الإخوانية، أو على الأقلَ أبدى تشدُّدًا فى حصارها.
والعكس تمامًا؛ إذ كان وسيطًا مُباشرًا مع قطر لتدبير تمويلها السخىِّ للفصيل المُقاوم شهريًّا عبر مطاراتها ومعابرها، ووسَّط واشنطن نفسَها لنَقل الحماسيِّين من دمشق إلى الدوحة، بعدما احتدم شقاقُهم مع راعيهم البعثىِّ فى مُستهلِّ الحرب الأهليّة السورية.
صعَّد العجوزُ على أكتاف الأُصوليّة الإسلامية، وادَّخرها لوقتٍ تضيقُ عليه الخيارات وتغيمُ السُّبل. قبل «الطوفان» كان فى دوّامةٍ داخليّة مع المُعارضة والشارع، وصلت أمواجَها إلى الجيش قبل أن تصله موجات السنوار.
أراد أن يتعجّل ابتلاع الدولة فى معدة اليمين عبر مشروعه للإصلاح القضائى، وهاج ما تبقّى من رواسب المَدنيّة والديمقراطية المُدّعاة. كان «الطوفان» على هذا المعنى موجةَ إنقاذٍ وانتشال، رفعته فوق ماء البيئة الصهيونية الخانق الثقيل، وأوصلته إلى جبل صهيون من جديد، جالسًا على العرش ومُعتمِرًا تاج المملكة اليهودية.
وبهذا؛ تيسّر له أن يصنعَ الوِفاق كما تسبَّب فى الشِّقاق، وأن يُعيد بناء الإجماع تحت راية الخطر الوجودى، والدفاع عن القصر فى قلب الغابة/ عن إسرائيل وسط محيطٍ من الأعداء والهمج.
لم يقتنع بتسمية عدوانه على غزّة بـ«السيوف الحديدية». أعاد منحَه اسمًا أبوكاليبسيًّا/ حرب القيامة. طوّح قنابلَه فى كلِّ اتجاه، وأذكى فى نفوس الإسرائيليين شعورًا بالفخر والاقتدار.
بعضُهم يُغالبون حماستهم النازيّة لاعتبارات إنسانية؛ لكنها تتوقّف عند استرداد الأسرى قبل التهام الفرائس المحكوم عليها بالفناء مُجدّدًا.
وبعد تسعة عشر شهرًا، يبدو أنه لم يقتنع بما راكمه من طللٍ وأشلاء، ولم يشبع، كما لم يسحر عقولَ الغاضبين منهم مثلما كان يتمنّى.
والحلُّ أن يذهب إلى جولةٍ جديدة، وأن يُواصل الحوار تحت النار، والقتال فى الغُرَف المُغلقة والساحات المفتوحة سواءً بسواء.
الأعداء يتساقطون واحدًا بعد آخر، بسلاحه أو من تلقاء أنفسهم، والأبرياء لم يعودوا على رادار الضمير العالمى بالحماوةِ نفسِها، وساعات واشنطن تنضبط على عقارب تل أبيب، وإلى مواكب النصر يمضى الركبُ ولا يحيد.
اتّفق مع رجاله مُؤخّرًا على التصعيد، وافتتاح معركةٍ إضافية مع القطاع الخَرِب؛ كأنها حربٌ من نقطة الصفر. استدعَى عشرات آلاف الاحتياطيين، وسيتولَّى رئيسُ أركانه إيال زامير توزيع القطع على الرُّقعة: الجُدد إلى لبنان وسوريا والضفّة؛ بعدما كُسِّحَت أو حُسِمَت أمورُها تقريبًا، والنظاميِّون المُتمرِّسون من هناك إلى غزّة.
يمنحُ خطَّته اسم «عربات جدعون»، فى إشارةٍ لأحد الأبطال التوراتيِّين فى واحدة من تراجيديات اليهود مع الأغيار. ليس نبيًّا ولا مَلِكًا؛ لكنه استطاع ببضع مئاتٍ أن يتصدّى للمديانيين ويهزمهم.
نتنياهو يُصوِّر نفسَه اليومَ مُعادلاً لجدعون؛ بعدما فاتَه أن يكون داود أو سليمان. وما من حاجةٍ لتوضيح أنَّ الغزّيين سُكّنوا قهرًا فى الأدوار الميديانيَّة المطلوبة، والاختصام بينهما فى الوجود أو العَدَم.
مُلخّص التصوّر أنْ يُعاد احتلالُ القطاع كما كان قبل «فكِّ الارتباط» على يد اليمينى الدموى أرييل شارون فى 2005. وزير المال بتسلئيل سموتريتش صار يستخدمُ المُفردةَ من دون حرجٍ، ويدعو مُواطنيه جميعًا إلى التصالُح معها.
ومثلما كان أوّل السائرين باتجاه صدمة الرأى العام، وإخطاره بأنَّ الأسرى ليسوا أهمَّ من علامة النصر وموثوقيّة إفناء حماس، يشقُّ مسارًا جديدًا نحو «اليوم التالى» على وَصْفة الحِلف الليكودىِّ التوراتى.
فى دخوله السابق شجّع نتنياهو على أن يقولَ ما ظلَّ يُضمِرُه شهورًا، مُفصِحًا لأهالى المخطوفين عن أنَّ ذَويهم فى آخر الاهتمامات، وعلى الدرب المُمتدِّ سيصلُ القائد السائر خلف تابعيه وأمامهم فى وقتٍ واحد إلى التصريح بنواياه فى اقتطاع غزّة. سبقَ أن اقتطعتها حماس، ولا فارق بين أن تكون بعيدةً من فلسطين أو لصيقةً بإسرائيل؛ فكلاهما من ذات المعنى والأثر.
يُناكِفُ الحزبيِّون مع الرئيس جوزيف عون وحكومته؛ لكنهم صاروا خارج مجال الفاعلية أو القدرة على تهديد المُحتلِّ. الأرض التى تفاخروا بإعادتها أسلَموها للصهاينة ثانيةً، والسلاح محلُّ خلافٍ كما لم يكُن من قبل، والخيار بين التسليم للدولة أو الصدام معها.
أخذت إيرانُ العواصمَ من أهلها لتهديها مجّانًا للعدوِّ؛ أو لتزرعها فى نار الفُرقة والانقسام والتطييف زرعًا غشيمًا، ولا تُنتَظَرُ منه خُضرةٌ أو ثمار.
باعدت بين سوريا والعرب؛ فقرَّبتها للتطرُّف والعثمانية الجديدة، وللشيطان الأصغر الذى عاشت تُتاجِرُ بهجائه، وتجلسُ اليومَ على حِجر راعيه وداعمه/ الشيطان الأكبر. لا أملَ لديها فى إعادة وَصل الهلال الشيعى المُنقطع، ولا رغبةَ فى الخروج بالهزائم التى تسبّبت فيها، والتوقُّف عن تحميلها للآخرين.
شمالاً، قد لا تكون الأمورُ مثاليَّةً على الخطِّ الواصل بين أنقرة وتل أبيب. عاش نتنياهو يتمنّى إزاحةَ إيران عن الشام، لكنه يخشى اليومَ أن يكون قد استبدل بقاعدتها الشيعية المُمانِعة، مرجعيَّةً ذات طموحاتٍ إمبراطوريّة شبيهة، بفارق أنها تُمرّرها من قناة الأُصوليَّة السُّنية.
لعلّه صُدِم بحديث ترامب عن علاقته الوطيدة بأردوغان، لكنه يعرفُ أنَّ الرسالة نفسَها حُمِلَت للجانب الآخر؛ ولو فى القنوات الخلفية. انعقدت جولةُ حوار بينهما فى أذربيجان، ثم مُنِعَت طائرة نتنياهو من العبور إليها عبر الأجواء التركية.
التوتُّر قائمٌ، والتهدئة مُمكِنة، والتسويةُ المُحتَمَلة أن يُجيَّر البدنُ السورىُّ لصالح الأناضول، ويبقى نصف الجسم الأسفل تحت عباءة الاحتلال، أو ضمن مجاله الحيوى. الأكراد ورقة صالحةٌ للتوظيف أو التشغيب، والساحلُ لن يكون تفّاحةً سهلةَ القطاف.
مشروعُ فيدراليَّةٍ بالنار لو لم تتحقَّق بالثّلج والبَرَد والدستور، والبلدُ الواحد إمَّا أن يصير دويلاتٍ، أو يظلَّ طافيًا بأجزائه المقطّعة عن بعضِها على سطح الطوفان وموجاته الارتدادية.
صارت المنطقةُ غير ما كانت تمامًا؛ وما زلنا على وعدٍ بالمزيد. لم يكن نتنياهو حالمًا ولا مُبالِغًا، ولا كانت المُمانَعةُ واعيةً أو تتحرّك وفق رؤىً عاقلةٍ ومُخطّطات مُنضبطة. أغراها طولُ السيولة بالمُغامرة، وتوهّمت أنها قادرةٌ على السباحة، من كثرة ما عاينت الإقليم خاملاً خامدًا، ومساربه الجانبية مفتوحة على اللعب والتخبيط ذهابًا وإيابًا.
تُرِك المُمانعون ليكبروا حتى تعجزَ هياكلُهم عن استيعاب أبدانهم؛ فتخور أو تتفجّر بقوّة الطَّرد وأثر الانفلات غير المحسوب. جَنَوا على أنفسهم قَطعًا؛ لكنهم أورَثوا الشرق العربىَّ الكئيب ما لن يُغادره فى مُقبل السنوات، وما سيحتاج عقودًا لأجل التعافى من تأثيراته الثقيلة، بينما يتحرّك الزمنُ العبرىُّ على طبيعته، أو بوتيرةٍ أسرع من الطبيعىِّ، وتتّسع الفوارق التى كانت واسعةً أصلاً.
يرسمُ نتنياهو الخُطَط فى «كابينت الحرب»، وليس للمُمانِعين إلَّا أن يقرأوا الفاتحة على قبور هنيّة والعارورى وفؤاد شكر وحسن نصر الله وهاشم صفى الدين، وطوابير من الحزبيين والحماسيين والحوثيين والحشديين والحرس الثورى.
جنازاتٌ تتوالَى فى أعقاب جنازاتٍ، وهزائمُ فادحةٌ تُدفَع أثمانها الكاملة، ويخدَعُ المُتسبِّبون فيها ذواتَهم بمَنحها عنوانَ النصر؛ لأجل أن ترتاح ضمائرُهم، وتتجدّد طاقتُهم لمزيدٍ من المُغامرات والمُقامرات، ولأجل التهرُّب من التزاماتِ الاعتراف والاعتذار والمُراجعة، ومن حقيقة أنهم يُهينون المَوتى بالبَصق على قبورهم، وباعتبارهم «خسائر تكتيكيّة» أو قرابين مجانية على مذبح الأيديولوجيا والأحلاف.
بُنِيَتْ إسرائيلُ على أكتاف العالم الظالم؛ لكنها تتوسَّعُ من يَومِها بسواعد الخصوم الأغبياء، وعلى أشلاء الضحايا. لا أحدَ خدمَ نتنياهو أكثر من أعدائه، ولا هديّة حُمِلَت إليه أثمن من الطوفان. هنيئًا للوحش بخصومه، ولمُغرَمى الشعارات ببطولاتهم الوهميّة، وهشيم تيَّاراتهم وتنظيماتهم، وبأفكارهم الخرقاء وأزمنتهم الدوّارة فى حلقاتٍ مُفرّغة.
Trending Plus