من تاريخ الخوارج "3"

ما زلنا مع الحديث عن تاريخ الخوارج، فأرجو من القارئ العزيز أن يراجع المقالين السابقين.
رغم القضاء على ما يُعرَف بـ "حركة الرِدة"، بقى شعور البعض بالاستياء من تصدر قبيلة قريش المشهد بمثابة النار تحت الرماد، نبى قرشى، وثلاثة خلفاء "أبوبكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان" قرشيون، وعدد لا بأس به من القرشيين كل منهم مرشح محتمل للخلافة مستقبلا، فكيف السبيل لتجاوز كل هؤلاء لمن يطمح إلى ذروة السنام؟
كانت الإجابة هى: حركة القراء
و"القراء" هم أناس من قبائل وعشائر متنوعة، تفرغوا للتعبد وقراءة القرآن الكريم، وتدارسه، حتى اشتهروا بين قبائلهم بالورع والتفقه فى الدين، كان يمكن لتلك الحركة أن تمثل إضافة للحياة العلمية فى الدولة الإسلامية الناشئة، لولا اتجاه أفرادها لتحويلها لوسيلة للمتاجرة بالدين.
نقرأ فى القصص الدينى أن خطيئة الشيطان كانت قوله: «أنا خير منه»، حسنا، كانت هذه الخطيئة مفتاح فتنة حركة القراء، فقد توهموا أنهم قد صاروا خير من باقى المسلمين بما فيهم الصحابة أنفسهم! وهو الوهم الذى غذى اجتراءهم بعد ذلك على ارتكاب أبشع الجرائم فى حق الإسلام وأهله.
فمن منطلق اغترارهم بأنفسهم، وتزاوج هذا الاغترار بما فى أنفسهم من حقد على مكانة كبار الصحابة، تمخض ذلك عن رؤية ضيقة أحادية الزاوية للحق، حتى صار معتقدهم هو: نحن الإسلام والإسلام نحن، وما سوى ذلك هو الباطل بل والكُفر!
لهذا لا استغرب تطرفهم فى التعامل مع القضايا الخلافية المتعلقة بسياسة الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنه.
فالقسم الثانى من خلافة عثمان بن عفان قد شهد خلافا بينه وكبار الصحابة-مثل على بن أبى طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله وعمار بن ياسر وأبوذر الغفارى وعمرو بن العاص وغيرهم، فضلا عن سخط قطاع كبير من أهل مصر والعراق على سياسات ولاة الخليفة ومطالبتهم بتغيير هؤلاء الولاة.
رغم حدة تلك الخلافات إلا أنها قد بقيت فى نطاق الاختلاف السلمى، وكان أقصى ما ينتج عنها هو الجهر بالاعتراض وتوجيه النقد الحاد لسياسات الخليفة عثمان، أو وقوع بعض المشاحنات العابرة التى لا تخلوا منها الخلافات والمناظرات السياسية، أو- فى أقصى حد -اتهام الخليفة بالخروج عن نهج كلا من أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب، والقول بعدم صلاحيته لمنصبه.
لكن أن يكون كلا من استباحة الدم أو الاتهام بالكفر مطروحان على ساحة الخلاف، هذا شيء آخر لم يكن ليخطر ببال أى من أطراف الخلاف.
لكن القراء كان لهم رأى آخر، فقد رأوا فى حدة الخلاف فرصة لإشعال فتنة تكون بمثابة «السُلّم» لارتقائهم موقع الصدارة، فراحوا يتصلون بالساخطين على سياسات الخليفة عثمان - خاصة أولئك الذين يتعاملون بحساسية وغيرة مع موقع قريش من المشهد - ويحرضونهم على تجاوز ذلك الخط بين المعارضة الشديدة من ناحية، والثورة من ناحية أخرى، واستغلوا معارضة بعض كبار الصحابة لعثمان بن عفان ليزرعوا فى أذهان الناس أنهم - الصحابة -لم يعارضوه لخلاف فى وجهات النظر، بل لاتهام منهم له فى دينه!
وبناء على تلك الفكرة المسمومة، فإن الثورة ضد الخليفة هى نصرة لهذا الدين، وأما النقاش والأخذ والرد فهى وسائل «مائعة» للتعامل مع الموقف.
نجح تدبير القراء الذى لاقى هوى عند من رأوا فى الحالة القائمة فرصة لضرب سطوة قريش، فحشدوا جموعهم من البصرة والكوفة والفسطاط، وداهموا عاصمة الخلافة المدينة المنورة بما يمكن وصفه بـ«مظاهرة مسلحة» تفرض على الخليفة خيارا من اثنين: إما الرضوخ لمطالب الثائرين، أو اعتزال الخلافة.
كان الوضع شديد الدقة والحساسية، خاصة مع وجود شخص شديد الرعونة والصلف هو مروان بن الحكم، ابن عمومة عثمان بن عفان، فى جانب الخليفة، وتدخله من وقت لآخر بارتكاب ما يزيد الموقف حدة واشتعالا، هنا تصدر على بن أبى طالب المشهد واقفا بين الثائرين من ناحية، والخليفة من ناحية أخرى، ولاعبا دور الوسيط بين الطرفين للوصول لاتفاق يطفئ نار الفتنة، وبالفعل، توصل الجانبان لاتفاق مبدئى بتلبية الخليفة أهم المطالب، وبدا أن الفتنة قد أجهضت، واستعد أهل كل بلد من جموع الثوار للرجوع إلى ديارهم.
ولكن ما الذى جعل القراء يتقبلون الاتفاق ولا يحاولون إفساده؟ أليس فى ذلك ضرب لمخططهم؟
لهذا أكثر من سبب، فمن ناحية لم يكن منهجهم العدوانى قد «تطور» بعد إلى درجة وصم كل من يعارضهم بالخروج عن الدين، وهو منهج سيصلون له لاحقا، ولم يكن من الذكاء أن يتذرعوا بدعمهم معارضة كبار الصحابة للخليفة، ثم يعادون سريعا هؤلاء الصحابة.
ومن ناحية ثانية، فإنهم كانوا يرون فى انسحابهم هذا انسحابا تكتيكيا، وأن تجربتهم لفرض مطالبهم بالقوة، وفق تفكيرهم، قد أثمرت، وأنها تمهيد وبداية لجولات تالية.
من ناحية أخرى، فقد عولوا على أن استمرار وجود شخصية مثل مروان بن الحكم فى معية الخليفة، لا بد أنه سيؤدى لخلق أزمات جديدة بحكم أسلوب مروان الصدامى، ومدى تأثيره على قرارات الخليفة أو على الأقل تأثيره على طريقة تنفيذها.
ولم يخيب مروان توقعات القراء، فعند استعدادهم لمغادرة المدينة، وجدوا عبدا للخليفة على جمل، متوجها لمصر برسالة عليها ختم الخلافة، فرابتهم سرعة حركته واستوقفوه واستخرجوا منه رسالة فضوها ليجدوا فيها أمرا من الخليفة لواليه على مصر، عبدالله بن أبى سرح، بالتنكيل بالمتمردين إذا رجعوا إلى الفسطاط.
لماذا أحمل مروان مسؤولية إرسال هذه الرسالة؟ من ناحية لأنه كان مسؤولا عن مراسلات الخليفة، ما يجعله قادرا على إرسالها دون علم الخليفة نفسه، ومن ناحية أخرى لأنها لا تشذ عن النمط المألوف لمروان فى تحديه المندفع لقرارات التهدئة من الخليفة، فكلما كان الخليفة عثمان يظهر اللين والتفهم، كان مروان يجهر بالردود العدوانية التى تفسد مفعول حلم عثمان فى مواجهة الثائرين.
سرعان ما انتشر خبر الرسالة بين الحشود التى يتزعمها القراء، فاستغل هؤلاء تلك الفرصة وقرروا الوثوب لمستوى أكثر عنفا، فداهموا المدينة مجددا وهم يعلنون بجرأة: يا عثمان.. اعتزل الخلافة أو نقتلك!
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم من هذه السلسلة.
Trending Plus