رؤية معاصرة لتجديد الخطاب الديني… ضرورة العصر وآفاق التفعيل

في زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات، وتتزايد التحديات الفكرية والاجتماعية، لم يعد الحديث عن تجديد الخطاب الديني رفاهية ثقافية أو ترفًا فكريًّا، بل أصبح ضرورة وجودية، ومطلبًا شرعيًّا ووطنيًّا، لحماية الدين من الجمود، وصيانة المجتمع من الانغلاق أو التطرف، وبناء وعي ديني يعيد للإسلام صورته المشرقة كدينٍ للحياة والرحمة والكرامة الإنسانية.
ولعل من أبرز من أدرك خطورة هذا الملف وضرورة النهوض به، هو الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي دعا في أكثر من مناسبة إلى تجديد الخطاب الديني، معتبرًا أنه ليس فقط ضرورة فكرية، بل قضية أمن قومي، تتعلق بسلامة الوعي، واستقرار المجتمع، وبناء أجيال أكثر وعيًا وانتماءً. لقد أكّد الرئيس مرارًا أن الدين باقٍ، لكن الخطاب الذي يقدَّم به هذا الدين هو الذي يحتاج إلى مراجعة وتجديد.
أولًا: تجديد الخطاب الديني… ضرورة شرعية وتاريخية ووطنية
التجديد ليس فكرة طارئة، ولا موضة فكرية، بل هو سنة نبوية ثابتة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” (رواه أبو داود وصححه الحاكم). وهذا الحديث يُقر أن التجديد ليس اختراقًا للدين، بل إحياء له، وإعادة وعي به، واستئناف للصلة الحية بين النص وواقع الناس.
وفي تاريخنا الإسلامي نماذج كثيرة لمجددين عظام، أمثال عمر بن عبد العزيز، والإمام الشافعي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، والغزالي، ومحمد عبده، وغيرهم، ممن واجهوا الجمود والانغلاق، وردّوا الدين إلى روحه، دون تفريط في أصوله.
وقد سلك هؤلاء المجددون دروب الاجتهاد، وتصحيح المفاهيم، ومواكبة الواقع، فغيّروا في الفتاوى والتطبيقات بما يتناسب مع الزمان والمكان، دون أن يبدّلوا النصوص أو يُحرّفوا العقيدة.
ثانيًا: ما قامت به المؤسسات الدينية في مصر
في هذا السياق، لا يمكن إغفال ما قامت به المؤسسات الدينية في مصر – وعلى رأسها الأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف، ودار الإفتاء المصرية – من خطوات ملموسة نحو تجديد الخطاب الديني، سواء في مجال إصلاح مناهج التعليم الديني، أو تدريب الأئمة والواعظات، أو إصدار الفتاوى المعاصرة، أو مواجهة التطرف بالفكر والحجة.
• أطلق الأزهر الشريف مبادرات لتصحيح المفاهيم المغلوطة وربط النصوص بالمقاصد.
• أنشأت وزارة الأوقاف “أكاديمية تدريب الأئمة” لتأهيلهم علميًا ومعرفيًا وفكريًا.
• وفعّلت دار الإفتاء منصات تفاعلية حديثة، وقدّمت فتاوى متوازنة تراعي تغير الزمان والمكان.
لكننا في الوقت نفسه بحاجة إلى جهود أخرى موازية، لأن تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يكون مسؤولية المؤسسات الدينية وحدها. إنه مشروع وطني شامل، يجب أن تتضافر فيه جهود الإعلام، والتعليم، والثقافة، والفن، والمؤسسات التربوية، والأسرة، والمجتمع المدني. فالخطاب لا يُبنى في المسجد فقط، بل في المدرسة والجامعة والشاشة والمسرح والمنصة الرقمية، وفي كل مساحة تؤثر في تشكيل وعي الناس. وهنا تكمن أهمية التكامل بين المؤسسات، لبناء منظومة خطاب ديني حديث، علمي، واعٍ، مؤصّل ومنفتح في آنٍ واحد.
ثالثًا: آليات التجديد وفق منطق الشريعة
1. إعادة قراءة النصوص في ضوء المقاصد:
قال الإمام الشاطبي: “الشريعة وُضعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد”، ومن ثم فإن قراءة النصوص يجب أن تراعي مقاصدها العليا: الرحمة، العدل، الحرية، الكرامة، والمصلحة العامة.
2. التمييز بين الثابت والمتغير:
من القواعد الفقهية المعتمدة: “لا يُنكَر تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان والمكان”، وقد طبقها الإمام الشافعي عندما غيّر مذهبه الفقهي في مصر بما يتلاءم مع بيئتها، كما أوقف عمر بن الخطاب سهم “المؤلفة قلوبهم” لاجتهاده في تغير الحال.
3. تفعيل العقل الاجتهادي الجماعي:
قال عمر رضي الله عنه: “لا يمنعنكم قضاء قضيتموه بالأمس أن تراجعوا الحق اليوم، فإن الحق قديم”، وهو ما يؤسس لضرورة الاجتهاد المؤسسي الجماعي عبر المجامع الفقهية، وربط الفقهاء بالمتخصصين في الطب، والاقتصاد، والإعلام، والاجتماع.
4. تصحيح المفاهيم المغلوطة:
من أهم آليات التجديد إعادة تحرير المفاهيم التي تم اختطافها من قبل تيارات الغلو، كالجهاد، الحاكمية، الولاء والبراء، المرأة، الفن، والحرية.
5. ربط الدين بالحياة:
قال تعالى: “وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا” [القصص: 77]، فالدين لا ينفصل عن الحياة، بل هو رسالة للارتقاء بالإنسان عمرانًا وروحًا، لا سجنه في طقوس أو تعقيدات.
رابعًا: وسائل تفعيل التجديد
1. إصلاح مناهج التعليم الديني:
من خلال تضمينها الفقه المقاصدي، والمذاهب المقارنة، وتاريخ الاجتهاد، ومهارات التفكير النقدي.
2. تأهيل الدعاة على مهارات العصر:
النبي صلى الله عليه وسلم أوصى معاذًا قائلاً: “يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا”. والداعية المعاصر يجب أن يتقن لغة الإعلام، ويُحسن الحوار، ويفهم الفروق بين جمهور المسجد وجمهور الإنترنت.
3. استثمار الإعلام والدراما:
يجب توجيه القوة الناعمة لخدمة القيم الدينية الوسطية، كما استخدم الصحابة الشعر والخطابة في الدعوة، نستخدم اليوم الدراما والمرئيات والمؤثرات.
4. رعاية العلماء المجددين:
المجددون الحقيقيون لا يجب أن يُشيطنوا، بل يُحتفى بهم، فهم جسر الوصل بين تراث عظيم وواقع متغيّر، كما فعلت الأمة مع الغزالي، وابن رشد، وابن تيمية، ومحمد عبده.
5. الانفتاح على قضايا الإنسان الكبرى:
الدين ليس طقوسًا فحسب، بل رسالة كرامة وحرية وعدالة. ويجب أن يتناول الخطاب الديني قضايا: العدالة الاجتماعية، البيئة، الفقر، التنمية، حقوق الإنسان.
خامسًا: هل التجديد يعني تغيير النصوص الشرعية؟
الإجابة واضحة: لا.
فالنصوص القطعية من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة لا تقبل التغيير ولا التبديل، لكن التجديد يتعلق بفهم النص وتطبيقه على الواقع المتغير.
وقد فعل ذلك الصحابة أنفسهم، ففي حديث بني قريظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة”، فاختلف الصحابة في التطبيق، وأقرهم النبي جميعًا.
وهذا يدل على أن الاجتهاد في فهم النص جائز، بل مطلوب، ما دام منضبطًا بالأصول.
كما أن تعليق حدّ السرقة في عام الرمادة، وفتاوى الإمام ابن تيمية الواقعية، واجتهادات العز بن عبد السلام المقاصدية، كلها دلائل على أن التجديد هو إحياء لا تحريف، وبيان لا تبديل، وعقلنة لا تفلّت.
خِتامًا أقول:
إن تجديد الخطاب الديني ليس خروجًا عن الدين، بل هو عودٌ إليه، إلى مقاصده، وروحه، وعدالته، وسِعته.
وهو ضرورة وطنية أيضًا، لحماية الوعي، وصيانة المجتمع من الغلوّ والانفلات، وبناء الإنسان على قيم التسامح والعمل والإيجابية.
وقد أحسن الرئيس عبد الفتاح السيسي حين دعا غير مرة إلى هذا التجديد، وأكّدت الدولة عبر مؤسساتها أن الدين باقٍ، لكن الخطاب يحتاج إلى تجديد، حتى لا يبقى الدين حبيس قوالب الماضي أو أسير تأويلات الغلو والتطرف.
فلنُجدد خطابنا… لنُحيي ديننا.
Trending Plus