"الحرير المقدّس.. من النيل إلى الحجاز".. المحمل المصرى رحلة تبدأ من القلوب.. بحراسة مشددة وأناشيد دينية تهز القلوب وجمال مزينة تنتقل هدية خالصة من مصر المحروسة لخدمة بيت الله الحرام

في قلب القاهرة القديمة، وتحديدًا في حي "الخرنفش" بجوار الأزهر الشريف، كانت هناك مؤسسة فريدة من نوعها تُعرف بـ "دار الكسوة". هذا المكان ما كانش مجرد مصنع، بل كان أقرب لـ"معبد فني" بيُنتج واحدة من أعظم رموز القداسة في العالم الإسلامي: كسوة الكعبة المشرفة.




منذ عهد الدولة العباسية ثم الفاطمية، والمماليك والعثمانيين، حتى بدايات العصر الجمهوري، كانت مصر تتكفّل سنويًا بصناعة الكسوة الشريفة، وتُرسلها في موكب مهيب يُعرف بـ "المحمل المصري".
وكانت تصنع الكسوة في مصر من أجود أنواع الحرير الأسود الخالص، وتُطرّز بآيات قرآنية بخيوط الذهب والفضة، في دار خاصة كانت تُعرف بـ "دار الكسوة" في حي الخرنفش بالقاهرة القديمة.
ويتم اختيار مجموعة من أمهر النسّاجين والفنانين والخطاطين، يعملون بدقة وإيمان، كأنهم يرسمون لوحة لرب السماء، وكانت تستغرق من 6 إلى 8 شهور، ويُشرف عليها شيخ من علماء الأزهر لضمان أن كل شيء يتم وفقًا للشريعة وآداب الحرم، حيث تُحاك كل قطعة بإتقان وكأنها عمل فني مقدس، بمجرد الانتهاء من تصنيع الكسوة، تبدأ أهم وأقدس رحلة سنوية تُعرف بـ "رحلة المحمل".
كان المحمل عبارة عن قافلة ضخمة كانت تنطلق من القاهرة متجهة إلى الحجاز، وكانت تضم: الجمال المزينة، والجنود من الجيش والشرطة لحماية القافلة يرافقها علماء الأزهر الشريف والحرفيون ويودعها الآلاف من الناس بحفاوة عظيمة
وكانت الكسوة يكتب عليها هدية خالصة من مصر المحروسة لخدمة بيت الله الحرام، تُحمَل على جمل مخصوص يُزيَّن بالحرير والمرايا والذهب ويمشي في وسط الزفة المهيبة وسط طبل وزمر وأناشيد دينية تهز القلوب.
ويقول السيد الشريف يسرى بن السيد عبد المجيد ابن آخر علم دار للرحلة المقدسة ان جمل المحمل كان يتم اختياره بعناية فائقة حيث إنه لابد أن يكون قويا كفاية ليقطع تلك المسافة الطويلة كما يتم تدريبه لفترات طويلة وتجهيزه لهذه الرحلة، وكان المصريون يحترمون جمل المحمل لقدسية المهمة التى كان يقوم بها فكانوا ينثرون عليه الورود والحلوى أثناء الزفة التى كانت تجوب شوارع الفسطاط قبل الانطلاق لبدء الرحلة المقدسة.
كما اكد السيد الشريف يسرى ان العلمدار فقط هو ممثل الدولة فى تلك الرحلة ولكن كان هناك أمير رحلة الحج وكان يتم اختياره من بين الوزراء وكبار رجال الدولة وهو المسئول عن الرحلة والدليل الذى كان يوجه الرحلة عبر المدقات الصحراوية فى المملكة، وكانت هناك حراسة من الدولة من رجال الجيش والشرطة فيتبعون الرحلة لحمايتها من الأخطار وكانوا يعزفون الموسيقى العسكرية طول الرحلة.
ويتابع: كان العلمدار يتقدم الرحلة يحمل العلم المزين ببعض الآيات القرآنية تتبعه بعض الأعلام للطرق الصوفية فى المؤخرة ولم يكن لعلم الدولة "مصر" مكانا فى هذه الرحلة حيث إنها كانت رحلة دينية فى المقام الأول.
لم تكن الرحلة سهلة بل كانت تمر عبر صحراء سيناء، ثم العقبة، ومنها إلى الأراضي الحجازية. كانوا يعبرون آلاف الكيلومترات، في جو قاسي، لكن الكل كان بيعتبر المهمة "شرف إلهي"، وإذا هاجمتهم قبائل أو لصوص، كانت القوات المصرية تحميهم بمنتهى القوة، والناس كانت بتتبرع بالأموال والذهب لدعم القافلة، عند وصول الكسوة إلى مكة، كانت تُستقبل باحتفال ضخم، وتُسلَّم إلى شيوخ الحرم، وتُركّب على الكعبة في يوم عرفة، الموافق 9 ذي الحجة من كل سنة، وكان الناس يعتبرونها لحظة روحانية لا تُنسى.. دموع، دعاء، فرحة، وكأن السماء تنفتح في هذا اليوم.
لكن ستظل رحلة الكسوة من مصر إلى الحجاز جزءًا خالدًا من تراثنا الإسلامي المشرف، وشهادة على عمق العلاقة الروحية والتاريخية بين مصر والحرمين الشريفين
Trending Plus