سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 1 يونيو 1968.. سيدة الغناء العربى أم كلثوم تزور مقهى «المرابط» فى تونس وتبكى تأثرا بإنشاد الشيخ على البراق لقصيدة صوفية تأليف الإمام الشافعى

كانت الساعة الواحدة والنصف صباح يوم 1 يونيو، مثل هذا اليوم، 1968 حين انتهت سيدة الغناء العربى أم كلثوم من أغنيتها «فكرونى» تلحين الموسيقار محمد عبدالوهاب، وكلمات الشاعر الغنائى عبدالوهاب محمد، وأنهت بها حفلتها الأولى فى تونس، التى حضرها الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة وقرينته السيدة الماجدة وسيلة بن عمار، والوزراء وأعضاء السلك الدبلوماسى فى تونس، وأكثر من سبعة آلاف حضروا من بلاد المغرب العربى وبلاد عربية أخرى فى المسرح الذى أقيم بقصر الرياضة بالمنزه، حسبما يذكر الكاتب والباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
كان الاحتفاء كبيرا فى تونس رسميا وشعبيا بزيارة أم كلثوم لإحياء حفلتين ضمن مشروعها لدعم المجهود الحربى والذى بدأته يعد هزيمة 5 يونيو 1967، فعلى الصعيد الرسمى استقبلها الرئيس الحبيب بورقيبة والسيدة قرينته فى قصر قرطاج، ونظمت وزارة الثقافة التونسية - وكان وزيرها الشاذلى القليبى - عدة جولات لها فى المدن التونسية، واستقبلها الناس لها فى هذه الجولات بمحبة بالغة، ويذكر كريم جمال ما جرى معها فى يوم 1 يونيو من حرارة الحفاوة بها، قائلا: «فى الصباح كانت تونس ذات الخمسة ملايين نسمة آنذاك تقرأ سيرة أم كلثوم فى الصحف التونسية منذ أن تتلمذت على يد الشيخ أبى العلا محمد «1884 - 1927» فى بداية عهدها بالغناء حتى تربعت على عرش الطرب العربى، ونشرت الصحف التونسية أخبارا عن زيارتها إلى قصر «قرطاج» ولقائها بالرئيس الحبيب بورقيبة، وتصدرت صورها فى الحفل الأول الصحف الرسمية التى وعدت قراءها بتغطية شاملة عن الحفل وأحداثه فى اليوم التالى، وعلى الصفحة الأولى من صحيفة «العمل» التونسية الصادرة فى يوم 1 يونيو 1968 كان العنوان الرئيسى: «الرئيس الجليل والماجدة وسيلة بورقيبة يكرمان سيدة الغناء العربى أم كلثوم».
فى اليوم ذاته أقامت السفارة المصرية والقائم بأعمالها السيد حسن سلامة حفل استقبال على شرف أم كلثوم وفرقتها الموسيقية فى بهو السفارة المصرية فى شارع «محمد الخامس» بالعاصمة تونس، ويذكر كريم جمال، أن الحفل حضره الوزراء التونسيون وبعض الدبلوماسيين العرب وبعض النجوم المصريين الذين تصادف وجودهم فى تونس ومنهم، فريد شوقى، وصباح، وعبدالسلام النابلسى، وثلاثى أضواء المسرح، وفى القاعة الرئيسية داخل السفارة وقف الشعراء التونسيون يتبارون فى التعبير عن فرحتهم بوجود أم كلثوم فى تونس، فألقيت قصائد المديح فى سيدة الطرب وغنائها، وكان أجمل ما قيل فى ذلك اليوم ما ارتجله أحد الشعراء، قائلا: «أم كلثوم عشت للفن حصنا/ تمثلين الوجود حينا فحين / عشت عمر الآجال يا فرحة الكون/ تغنينه مدى الأبدين».
يذكر «جمال»، أنه فى المساء وبعد انتهاء احتفالية السفارة المصرية، زارت أم كلثوم ووفدها الإعلامى يرافقهم بعض الوزراء والسيدة نائلة بن عمار شقيقة زوجة بورقيبة مقهى «المرابط» فى منطقة سوق «الترك»، وهو مقهى يشبه مقهى «الفيشاوى» فى منطقة الجمالية بالقاهرة ولكنه متطور نسبيا عنه، ويعود تأسيسه إلى نهاية القرن السادس عشر، حين تم تشييده على بعد أمتار قليلة من جامع «الزيتونة»، وبالقرب من سوق «العطارين» فى المدينة العتيقة، ويمتاز مقهى «المرابط» بأعمدته الرخامية الحمر والخضر وأسقفه الخشبية ذات الطابع الأندلسى، وقيل إنه سمى بالمرابط لأنه كان يحتوى على مجموعة قبور يقال إنها لبعض المرابطين التونسيين الذين كانوا فى عهد الحماية يرابطون لحماية البلاد، فبقى الناس يتبركون بهم.
يضيف «جمال»، أن مقهى «المرابط» يتكون من دورين، فى الدور الأول يجلس المداحون وأبناء الفرق الصوفية ينشدون الابتهالات الدينية والسيرة النبوية، وفى الدور الثانى توجد المقاعد والطاولات الخشبية، وبعد العشاء وبعد أن تناولت أم كلثوم المشروب التونسى التقليدى المعروف باسم «تاى بالبندق» وهو عبارة عن شاى بالصنوبر، جلست تستمع إلى غناء المداحين الصوفيين وإنشاد فرقة «سلامية» الشيخ عبدالعزيز بن محمود، إذ كان حاضرا بينهم منشد تونس الخالد الشيخ على البراق الذى طبقت شهرته الآفاق فى المغرب العربى، وقال فيه عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين إبان زيارته إلى تونس عام 1957، إن صوته يعيدنا إلى الزمن الأول لنزول القرآن وبدء الحضارة العربية.
يذكر كريم جمال، أن الشيخ على البراق أنشد فى تلك الليلة أمام أم كلثوم قصيدا صوفيا منسوبا إلى الإمام الشافعى فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم، يقول مطلعه: «لكم مهجتى والروح والجسم والقلب / وكلى لكم ملك وإنى بكم صبُ»، وأعجبت أم كلثوم بأداء الشيخ، وظلت تنصت له فى خشوع وتأثر، ويقول من رافقوها فى تلك الليلة إنها بكت متأثرة بإنشاده العذب.
Trending Plus