ضبط المفاهيم وإعادة تعريف المأساة.. غزة بين الطوفان والسلاح وانكسار حلقة النار

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

ضاقت الدائرةُ كثيرًا عن السابق لاعتباراتٍ شتّى. وفيما لا يزال اللاعبون يتقافزون فيها بالحماوة القديمة؛ فالإيقاع ومدى الحركة قد باتا محكومَيْن بالمُتغيّرات الخارجية، واستنفاد فرص الحسم من الداخل على أجندة أىٍّ من الطرفين.


المُؤكَّد أنَّ النهاية المُقرَّرة ستكون فى صالح أحدهما دون الآخر؛ إنما على غير ما كان يتمنّاه تمامًا أو يسعى إليه. خرجت غزَّة من قبضة حماس لغير رجعة، وليس فى صالح أحدٍ أن تدخل بالكامل فى عصمة الاحتلال.


إسرائيل تُفكِّر بعقل نتنياهو، أو تُقاد، وتلك نقطة ستتحدَّد معالمُها ويُعاد تأطيرُها بعد توقُّف الحرب، والاحتكام إلى أدوات السياسة فى الميدان، وداخل كلِّ جبهةٍ على حدة.


لن يكون ما بعد الطوفان كما قبله على الإطلاق؛ ولا معنى لهذا إلَّا أن الجغرافيا وتوازناتها الجيوسياسية تحرّكت بعيدًا، وغيّرت أرواح البشر بأكثر مِمَّا هدّمت الحجرَ، وأعادت بناء الصورة الإقليمية الواسعة على هيئةٍ سائلة ومُرّوعة أيضًا.


غايةُ الحماسيِّين أن يعودوا ليوم السادس من أكتوبر، وإسرائيل لا يشغلها إلَّا أن تشطُبَه بما تلاه من روزنامة المواقيت. والتوفيق بين الهدفين يتخطَّى ثنائية اليمين المُتطرَّف على الناحيتين، إلى ترتيباتٍ طويلة المدى لن تسمح للحياة بأن تعود طبيعية، بكلِّ تفاوتات الأفكار والتعاريف عن الطبيعى والاستثنائى.


إذ لن يُسمَع فى تل أبيب صوتٌ أقلّ جنونًا من نتنياهو وعصابته، ربما تُنتَقَى المُفردات وتختلف النبرة؛ لكنَّ الدلالة العميقة ستظلُّ واحدةً للأسف. كما أنَّ غزّة لن تعود لتجربة الاستقلال بذاتها عن مجالها الحيوى، الصديق أو المُعادِى، وطريقها إلى الالتئام العضوى بالضفة الغربية صارت أصعبَ من السابق.


القوّة تتنحَّى اضطراريًّا بعد إخفاقٍ كاسح، والأخطر أنها تُعطَبُ بعدما أعطبت السياسة. تعودُ القضيّة لِمَا يُشبه نقطة الصفر الأُولى، على أن يُنظَر فى تأسيس مشروعها التحرُّرى من مستوى سطح الأرض تقريبًا، وهذا ما يبدو أنه غائبٌ حتى اللحظة عن المُسلَّحين والمُسيَّسِين على السواء.


فرضَتْ الفاجعةُ المُمتدَّة لعشرين شهرًا، أن تكون التهدئة غايةً عُليا. ويتوهَّم البعض أنها يُمكن أن تصير رافعةً لإنتاج حلٍّ سياسىٍّ مُستقبلى، طال الوقت أم قَصُر؛ فيما الواقع يُنبئ عن دوّامةٍ قد لا تقلُّ فداحةً عن العدوان وتأثيراته الحارقة.
فالمهمَّة مُركَّبةٌ وشديدة التعقيد، بين إقناع حماس بالانصراف من المشهد مع كلِّ طموحاتها الأيديولوجية والفصائلية، وإقناع إسرائيل بعودة السلطة الوطنية فى ظلِّ رفضٍ قاطع لحضورها، ثم التوفيق بين أمرين يُلامسان الاستحالة العَمليَّة؛ بُغية إنجاز خيار ثالث، قادرٍ على رعاية التعافى واسترجاع مسار النضال دون مَواتٍ سريرىٍّ أو مُغامرات طائشة.


وهذا ما يُرَاد الوصول إليه مع عدوٍّ فى أوج الجنون والخيلاء، وتغريه المكاسب الوفيرة على امتداد المنطقة بالمزيد، ويمتلئ بشعور أنه إزاء فرصةٍ مثالية قد لا تتكرَّر ثانيةً، ومن واجبه اغتنامها إلى آخر هامشٍ مُمكن؛ بما يُخرجه من مُعادلات الماضى لبدائل أكثر اتّضاحًا، ويُغلق الأبواب على مناوئيه أن يُجرّبوا ما كان فى سوابق المحطَّات.


والقَصدُ؛ أنَّ الهُدنة الموضوعة على الطاولة ضرورةٌ حيويَّة قطعًا، لكنها ليست الحلَّ النهائى ولن تكون؛ بل قد ربما بداية جولةٍ أصعب مع الأزمات المُعتادَة، أو فاتحة لمُشكلة من نوع جديد.


تدخلُ غزَّة مُجبرةً إلى تسويةٍ تُؤَمِّنُ الحدَّ الأدنى من الحياة، ولا تُحقِّقُ أيًّا من مصالحها الوطنية العميقة، وذلك بعدما تضرَّرت بإفراطٍ يستعصى على العلاج.


يجلسُ الناس على أطلال بيوتهم؛ بينما تُسبَغ على الصورة معانٍ مُضلِّلةٌ وغير واقعيَّةٍ تمامًا: المُحتلُّ يَعُدّها دليلاً على البأس واستعادة الردع، والمُختلُّ يستَدلُّ بمآسيها على دعايات الصلابة والصمود، وكلاهما يعرفُ يقينًا أنه لم يربح. والمنكوبون، مع الناظرين من الخارج، يستوعبون أن الخسائر مُتفاوتةٌ، وليست كلُّ الهزائم سواء.


فى الأُفق اتِّفاقٌ يُوشِكُ أن يكون حقيقة، ولا جديد فيه بالنظر إلى سابقه، أو بالقياس على أيَّة مُسوّدات أُسقِطَت من قبل. جوهره شراء فسحة زمنية من حساب الرهائن؛ مع ما يترتَّب على ذلك من تآكُلٍ فى أُصول حماس، تُغلّفه مخاطرُ العودة للحرب مع هشاشةٍ أكبر وفواعل أقلّ.


أطلقَتْ الحركةُ رصاصتَها الافتتاحيّة باندفاعةٍ شعبوية؛ ثمَّ لم تفعل شيئا من يومها إلَّا محاولات اتِّقاء الموجات الارتدادية، والخروج من فخٍّ لأعمق منه.


وفيما بُنِيت استراتيجيَّةُ الهجوم على الإسناد الواسع السريع، وعقلَنَة المواجهة عبر الفواعل الإقليمية والدولية؛ فما جرى بعد العملية كان مُعاكسًا تمامًا، بخديعةٍ من محور المُمانَعة أو رخاوة، وبانحيازٍ غربىٍّ غذّته الدعايةُ المُبكِّرة وعزَّزت فجاجته؛ فتآكلت عناصرُ قوَّة الحركة وتضاءلَ هامشُ مُناورتها، وبدت أنها تلعبُ وحيدةً بعدما خُذِلَت من الشركاء، وكانت قد عزلت نفسَها قصدًا عن أشقاء الداخل، وعن المحيط القريب من المهمومين بالقضيَّة ومُناصريها الحقيقيين.


والانعزال لم يتولّد عن افتراقٍ فى الطرق والمسارات؛ بقدر ما كان نُزوعًا للأيديولوجيا على حساب المصلحة، ورغبةً حارّةً فى الفرز والاحتكار.


وقد استوعب الحماسيون مُتأخِّرين أنَّ الشيعيَّة المُسلَّحة أضعفُ من الاضطلاع بأدوار الإنقاذ والحماية، بيدَ أنهم لا يستطيعون الانفكاك من حبائلها، وتأخذُهم العِزَّة بالإثم من الاعتراف، والرجوع العاقل إلى الحاضنة الطبيعية لفلسطين، تاريخًا وحاضرًا.


لقد خَصخَصوا القضيَّة على غير ضرورةٍ مُقنِعة، ومن دون فائدةٍ ملموسة؛ اللهم إلَّا اختزالها تحت راية التنظيم، وإضافتها ذراعًا خامسًا فى جسد الاخطبوط الإيرانى، أو اللعب بها تحت سقف الأجندة الإخوانية بطموحاتها القديمة، وآمالها المُتضخِّمة بعد الربيع العربى بتشابكاته مع عواصم خلطَتْ الدَّولَتىَّ بالميليشياتى، ولعبت فيهما معًا بأصابع أمنيَّة غير مُعقّمة.


ورقةُ «ويتكوف» الأخيرة لا تختلف عن سابقتها، وكلاهما شبيه بما طُرِحَ سِلَفًا. الجَوهر الدائم صفقةٌ فى سياق الحرب، أو تمهيدٌ لإخراج حماس من المشهد بكُلّيته، أمَّا أيام التهدئة وعدد شاحنات المساعدات ومفاتيح تبادُل الرهائن؛ فكلُّها تفاصيل لا تُقدِّمُ ولا تُؤخِّر، وتُساق لمُجرَّد تضييق الخناق أو تحسين الشروط، وإبقاء العِلّة الأساسية مُرجَأةً لمرحلةٍ أشدّ اختناقًا.


وإذ وافقت حكومةُ الاحتلال على المُقتَرَح؛ فالحماسيون ما أعلنوا موقفًا صريحًا كعادتهم. يقولون إنهم يدرسون البنود التى يعرفونها تمامًا؛ ثمَّ يُوعِزون لبعض قادتهم بانتقادها ورفضِها بصِيَغٍ مُبطّنة ومُخاتلة، والذكىُّ منهم يعرفُ أنَّ المعروضَ اليوم ستنتهى صلاحيَّتُه حال إسقاطه؛ ليُواجهوا شروطًا أصعب فى النسخة التالية، وكما جَرَت العادة.


والغالب أنهم يبحثون فى الشكل لا الجوهر؛ بمعنى أن يبدو الرفض من باب الاستقامة المبدئيَّة والتشدُّد فى الثوابت، أو يُحمَل على جشع العدوِّ واستئساده، ومَيَلان ميزان الوسيط الأمريكى، أمَّا حالَ القبول فيجب أن يُبرِزَ الشهامةَ والإيثار، وألَّا يخلو من هامشٍ لاستعراض القوَّة واستمراء مزاعم النصر، وربما يكون مفيدًا البحث فى منحه غطاء إجماعيًّا؛ ليكون التفريطُ مسؤوليَّةَ الجُبناء، ويظلّ ادِّعاء الشجاعة خيارًا مُتاحًا للقسَّاميِّين وقادتهم فى الفنادق والخنادق.


وجّهت الحركةُ منصّاتها التابعة، ومَنْ يتبنَّى خطابَها من بعض الوسائط الإعلاميّة المُؤدلَجَة، بالحديث عن إجراء حوار ومشاورات مع بقيّة الفصائل بشأن اتفاق الهُدنة وتفاصيله الكاملة.


والغريب أنها سابِقةٌ تأتى مُتأخِّرةً كثيرًا على الانقلاب والانفراد بالقطاع، ولم تلجأ إليها حماس فى تخطيط الطوفان وإطلاق شرارته، ولا فى أيّة جولة تفاوُضٍ تالية، احتكرتها وتنازَعَتْ فيها داخليًّا، ولم تترُك لغيرها ثغرةً للمُشاركة أو الإدلاء برأى.


ومع امتداح الانفتاح والديمقراطية دائمًا، وفى كل ظرف؛ فإنهما ليسا من المسائل العرضية التى تطفح فجأة داخل الكيانات الأُصوليَّة المُغلقة، ولا يُقبَل أن تكون بالمزاج وحسب المصلحة.


وما لجوء إخوان فلسطين لتلك الآلية اليوم؛ إلَّا لاستخلاص قرارٍ تُلقَى تبعاتُه على كواهل الآخرين، أكان رفضًا أم قبولاً؛ بحيث لا يُلامُ الأطهار على البقاء فى مناخ الجنون حال التعالى على الصفقة، ولا يُتَّهَموا بالتفريط المجَّانى بعد خسائر فادحة إنْ هُم اغتنموها؛ وربما يهربون من مُزايدات الرُّعاة وإملاءاتهم، بمحاولات الدخول تحت مظلّةٍ تُعزَى إليها كلُّ نقيصةٍ واستهجان.


تتفاوض الحركةُ عن نفسها منذ البداية. كلُّ الخيارات التى كانت تضمَنُ هامشًا بسيطًا للغزِّيين رُفِضَت من دون تفكير، وما قُبِلَ إلَّا الذى يُحقِّق مصالح التنظيم بحساباته الخاصة.


يحتاجُ فسحةً لالتقاط الأنفاس وترتيب الصفوف فيكون الاتفاق، ويتعرَّض لضغوطٍ تمسُّ مكاسبَه فيتفلّت منه. يُهادِنُ عندما يتطلَّعُ لتجديد مخزونه الاستراتيجى من الإمدادات، ويتشدَّد بعدما تمتلِئ مخازنُه؛ ولو كانت بطون الناس خاوية.


يُناطِحُ فى الجُندىِّ مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر على مُطالباتٍ فصائلية؛ ثمَّ يهديه مجّانًا لإدارة ترامب دون أن يطلُبَ وجبةً واحدة لطفل جائع. وحتى فى المفاوضات الأخيرة؛ يستبِقُ التفاهُمات باشتراط الإعلان من البيت الأبيض، وتسويق التواصُل المباشر لويتكوف ورجاله مع الحركة، والحصول على صورة تجمعُ خليل الحيَّة مع أحد المبعوثين الأمريكيين.
فِصالٌ على الصورة والشرعية، لا يُنبِئ عن رغبةٍ مُتجرِّدةٍ فى كسر طوق التجويع وإهدار الكرامة، بل عن بحثٍ فى مسألة الاعتراف والمكانة؛ كما لو أنَّ الحركة تعيشُ فى الماضى، وتُرتِّبُ الحاضر والمستقبل باعتبارها تخوضُ جولةَ صراعٍ عادية، وستخرج منها أكثر قوَّةً أو تسلُّطًا على بيئتها؛ كَكُلّ تجاربها السابقة.


كان الطوفانُ قذيفةً عظيمةً؛ لكنها فى مدفع الاحتلال. سمحت المُقامرة للعدوِّ بأن يُعَوّق التنظيم، ويبيد سُبلَ الحياة فى القطاع، ويُعيد تغيير وجه المنطقة ومُعادلاتها القائمة.


والحماسيِّون يعرفون وينكرون، فبينما افتتحوا لعبتَهم الانتحارية تحت عنوان إطلاق مواكب التحرير، وتبييض السجون، لا يحلمون اليومَ بأكثر من العودة لِمَا قبلها فحسب، ويُديرون صفقات تبادُلٍ شَطرها الأعظم من المُعتقلِين بعدها.


ضَلَّ السلاحُ طريقه فى لحظةٍ خَبَلٍ وهياج عاطفى، والكُلفة من تفعيله صارت أضعاف ما كان فى العطلة والتحييد. لم يعُد مادّةً للمُقاومة أو جدارَ حماية؛ إنما أضحى عبئًا على أصحابه والواقعين تحت رحمتهم؛ حتى أنَّ القول بكونه والعدم سواء ينطوى على مُجاملةٍ رخيصة؛ لأنه بكلِّ جبروته القديم وضآلته الحالية ليس أكثر من أداةٍ لتوليد المآسى وجَلب النكبات.
والحال؛ أنَّ سلاح حماس يستوجِبُ نظرةً مُغايرة، اتّصالاً بالظروف والارتدادات، وما تسبَّب فيه ولم يَعُد قادرًا على التصدِّى له. والذاكرة لا تخلو من وقائع شبيهة؛ وإن اتّخَذَت أبعادًا مُختلفةً فى المكان والزمان.


أخطأت مُنظَّمة التحرير فى إدارة قُواها بالتناسُب مع السياقات المحيطة؛ فتسبَّبت فى وضع الثورة على حافّة الخطر إبّان «أيلول الأسود». وكان الانتقالُ بالسلاح من الأردن إلى لبنان أقربَ لنَزعه من إزاحته جغرافيًّا، وتأكَّد المعنى مع الاضطرار للرحيل إلى تونس، وافتقاد نقطة التماس مع فلسطين التاريخية، بما يجعلُ بقاءَ البنادق مُساويًا لاختفائها؛ بافتقاد الفاعليَّة وإمكانية المُواجَهة.


المُفارقة وقتَها؛ أنَّ المُقاتلين مُرِّروا من الأردن للبنان عبر الجغرافيا السورية، والأخيرة جبهةٌ لصيقة، فضلاً على كونها حاضنةً للثورة ومنصَّةَ تجارةٍ بها. بدا أنَّ دمشق تستثمر فى التأجيج بانقطاعٍ مقصود عن المشاركة، بالضبط كما يتكرَّر المشهدُ حاليًا بين حماس والمُمانَعة وشركاء الأجندة الإخوانية.


وفيما كان حضور الثوّار فاتحةً لتفخيخ الجبهة البديلة، أو إظهار تناقُضاتها المطمورة تحت التوافُقات الهَشّة والتعايُش الحرج؛ فإنَّ التعمية على الوقائع شوَّهت المفاهيم، وأسبَغَت على الاشتعال مُسمَّى «الحرب الأهلية»؛ غير أنها فى الواقع كانت حروب الآخرين على أراضى لبنان؛ ولو تسعّرت بالطائفية وبنادق بعض اللبنانيين.


والنقطة السالفة تفرضُ النظرَ لحاضر غزّة من منظورٍ مُفارق؛ لغاية الضبط وتحرير الوقائع ومَنحِها الصِّفَة الدقيقة، دون مُراوغةٍ أو احتيال.


كانت هجمةُ الغلاف «طوفانَ السنوار» أو طوفانَ حماس؛ لكنها لا تتَّصل بالأقصى، ولا ينبغى أن تُلصَق به أبدًا.
والفارقُ أنَّ القرار اتُّخِذَ من وراء ظهر المشروع الوطنى، ولأغراضٍ أكبر منه، وتتجاوزُ حساباته الوقتية وبعيدة المدى.
كان الحَدَثُ أكبرَ من إمكانات إدارته، أو توظيفه لصالح تحريك القضية قُدُمًا. كلُّ ما أُرِيدَ منه أن يضع المنطقة على صفيحٍ ساخن، ويخلِطَ الأوراق لطموحٍ فى تعطيل رؤية السلام الاقتصادى والاتفاقات الإبراهيمية، أو إعادة بناء التوازُنات على صِيَغٍ تُحقِّقُ فائدةً مُباشرة للمُمانِعين وأجندتهم.


وإبراء فلسطين من المُغامرة لا ينتقص من الحقِّ الدائم فى المقاومة المشروعة، أو يقدح فيه؛ بقدر ما يُفرِّق بين الرؤى الوطنية والفصائلية، ويقطَعُ الطريق على محاولةِ استلاب أُولاها لخدمة الثانية، كما يمنَعُ التعثُّر مُستقبلاً فى العقبةِ ذاتِها، أو تسويق الأفكار الانتحارية تحت عناوين شريفة شفافة؛ فيما لا تمُتُّ لها بصِلَةٍ على الإطلاق.


أدارت حماسُ حربَها الخاصة، وتُديرُ المفاوضات بنزعة ذاتيَّة خالصة. أغراها تشجيعُ الخارج باقتحام النار، واجتذبتها إغراءاتُ واشنطن إليها مُجدَّدًا. اعتبرَتْ جلوسَها إلى المبعوث الأمريكى لشؤون الرهائن «آدم بوهلر» إقرارًا بشرعيَّتها، وأن فتحَ قناة اتِّصال مع فريق ويتكوف هديَّةٌ يتعيَّنُ الردُّ عليها بأحسن منها.


تتوهّم أنَّ صِفَة الإرهاب المُلصَقَة بها عن وقائع أقل، ستُزَال بعد الطوفان، لمُجرّد إبداء المرونة أو النزول على إرادة البيت الأبيض. الغزِّيون العُزّل ليسوا حاضرين فى رزمة الأهداف والأولويات، الصورة والمصافحة أهمُّ من القَتلَى والجوعى، والاعتراف يتقدَّم على افتداء المنكوبين، ولا معنى إلَّا أنَّ «حماس» ترى نفسها فوق القضية وأكبر منها، وتَعُدُّ فلسطين ورقةً فى دفتر الأيديولوجيا، وغاية الفائدة منها أن تخدم الحركة، وليس العكس.


وبهذا؛ يصيرُ النزاعُ ثُلاثيًّا: مع المُحتلّ من جانبٍ تقليدىٍّ مُعتاد، ومع المُختلّ من وجهٍ مُراوغٍ وقادر على الخداع والتلبيس. والتسميةُ المُشار إليها سَلفًا ضرورة لتحرير السرديَّة، بمعنى أنَّ النكبة الحالية نتاج الطوفان والعدوان معًا، والناس ليسوا شُركاء فى الأوَّل، ويجب ألَّا يُتَّخَذوا دروعًا وأوراقَ تفاوض لإنقاذ الحماسيِّين من تبعاتِ الثانى.


وبعيدًا من الشعارات التطُّهرية الساقطة؛ فأولويَّاتُ الحركة ما عادت غامضةً ولا خفيَّة. وخصومها يعرفونها قبل غيرهم؛ ما يسمحُ لنتنياهو بأن يتذرَّع بها لمُواصلة الحرب، وللولايات المُتَّحدة بالضغط على القادة ورُعاتهم؛ لاستخلاص صفقة كانوا يرفضونها سابقًا.


التشدُّد يُوفِّر نسخةً مُحدَّثة من ذريعة الطوفان، صالحةً طالما بقِيَت الجبهةُ مُشتعلةً ولم يتحصَّل الصهاينةُ على مُرادهم. وفيما يتوهَّم الأُصوليِّون أنَّ فاعليَّة الورقة ستسقط بالضرورة مع إبرام الاتفاق؛ فالغائبُ عنهم أنَّ «طوفان السنوار» لم يخمد بعد، وسيُعاد إحياءُ مضارِّه من دون منافعه؛ لو افترضنا أصلاً أنه كان نافعًا فى شىء.


والقَصدُ؛ أنَّ تل أبيب ستُحافظ على موقع التتُّرس وراء هجمة أكتوبر، وادِّعاء حاجتها للأمن وضمان ألَّا تتكرَّر العملية مُجدَّدًا. ما يعنى فرضَ ضغوطٍ مُستقبليَّة دائمة على القطاع، وإعادة ترسيم خرائط الضفّة الغربية من منظورٍ أمنىٍّ يخدم الاستيطان ويُعزِّزه، والإنكار الكامل لحلِّ الدولتين على طول الخطِّ، أو العودة إليه، حالَ الاضطرار، بشروطٍ لا تجعلُه قابلاً للتطبيق أصلاً.


والفكرة نفسُها مع لبنان فى خَرق اتفاق وقف الأعمال العدائية ورَفض الانسحاب من النقاط المُحتلَّة، ومع سوريا فى استباحة أجوائها وتوسيع سيطرتها الميدانية، رغم ترضيات الجولانى وهداياه التى تتجاوز حدَّ التفريط والإذعان للدولة الصهيونية. وفّر الحماسيون لإسرائيل، وبغباءٍ لا يُحسَدون عليه، ذريعةً لن يتوقَّفوا عن استخدامها لسنواتٍ طويلة.الانفصالُ عن الواقع أكبر أزمات الحركة الإخوانية، وافتراض أنَّ الصفقة قادرةٌ على إعادة عقارب الساعة للوراء وَهْمٌ وضلال. خيارها بين أن تخرج من المشهد دفعةً واحدة، أو على أجزاء تأخُذ معها مزيدًا من أرواح الغزِّيين ومُقدَّراتهم.


لسنا فى دراما رومانسيَّة ولا عالمٍ نزيه؛ والأخطاء لا تُبرِّرها عدالةُ القضية أو صفاء النوايا؛ بافتراض أنها كانت صافية. ضَلَّ السلاحُ طريقَه؛ وعليه أن يتحمَّل كُلفةَ نزوته ولا يُحمِّلها للأبرياء.


الانخداع بالمُلاينة الأمريكية يُضافُ لحساب الغباء أيضًا، كما انخدع قادةُ دمشق الجُدد بتغريدة سفير واشنطن فى أنقرة ومبعوثِها الشام، توم برّاك، التى كال فيها النقدَ والهجاء لاتفاقية سايكس بيكو بين لندن وباريس، فيما يحتمِلُ التأويل على القطيعة مع الماضى، أو حتى استدعاء روائح سوريا الكبرى.


فيما كان الترتيب القديم خشبةَ الخلاص من مَواجع العُثمانيَّة المريضة، وبداية إرساء فكرة الدولة الوطنية التى تُخاض الصراعاتُ لأجلِها، كما كان مُقدِّمةَ تأسيس إسرائيل نفسِها، والتصويب عليه اليوم يحتمل بين الخيارات أنه يُبشّر بحقبةٍ جيوسياسية تستقطع للصهاينة ما لم يُضِفْه الوزيران الأُوروبيَّان لجُغرافيا فلسطين.


الأُصوليّة مَنقوعةٌ فى الماضى التليد، ومأخوذةٌ بمَظَّنة اقتراب الوعد الإلهى باستعادته؛ ولهذا تفهَمُ الرسائلَ على وجهٍ خاطئ، أو لا تهتم بقراءتها من الأساس.


لم يُغيِّر الطوفانُ حماسَ وحدها، ولا طبعَ بصمته الثقيلة على غزَّة فحسب؛ بل أعاد تخليق عدوٍّ أكثر وحشيَّةٍ مِمَّا كان، وأردأ من كلِّ نُسَخِه التى عهدناها واختبرنا جنونَها.


إسرائيلُ اليوم تتنفَّس بكاملها هواءً يمينيًّا، وتختلف فى الزفير وإيقاعه وسخونته. حتى زعيم ائتلاف اليسار، يائير جولان، لا يختلف اختلافًا حقيقيًّا مع الأهداف الكُبرى، وعندما قال إنَّ الدولة العاقلة لا تقتل الأطفال كهوايةٍ، كان يُعبِّر عن صراعه مع نتنياهو بأكثر مِمَّا ينحازُ للضحايا.


وجود الائتلاف الحاكم وزعيمِه يُخفِّفُ الواقعَ، ويُغطّى بمُشاحناتِ السياسة على التحوُّلات الجذريَّة العميقة فى العقول والأفكار.


لو صعد نفتالى بينيت أو يائير لابيد وبينى جانتس وأى وجهٍ آخر من اليمين المُعتدل أو الوسط، لن تتبدَّل الوقائع بالدرجة المُتخيَّلَة. قد تبرُد النار أو يأخذ الاشتباك صُوَرًا أُخرى؛ لكن لا حماس ولا السلطة ولا الدولة الفلسطينية المُستقلّة محلّ ترحيب. والمُنطلقات ذاتها مُوحَّدة تقريبًا إزاء إيران والجولانى وأطلال حزب الله.


أمَّا المشكلة؛ فأنَّ التهدئة قد تكون مدخلاً لتنشيط الأُفق السياسى فى تل أبيب بذات النكهة اللاذعة؛ فيما تُنازِعُ حماس المنطقَ والحالَ والحوادثَ على موقعها المُستقبلىِّ، ورغبتها فى مُواصلة تطويق الفلسطينيين، واختطاف القضيَّة لحسابها دون مُلّاكها الحقيقيِّين.


ذابت الحدودُ بين أطياف البيئة العِبريَّة، وخرجت الأجنداتُ السوداء من الأدراج. العاقلُ منهم سيكون نسخةً عن نتنياهو التسعينيَّات، الصاعد وقتَها على جُثّة رابين ورماد أوسلو، والمخبول سيُعيد إنتاج وقائع الطوفان فى غلاف جديد.


وهذا مِمَّا لا يسمح باستمراء المُغامرة، ولا بمُناطحة الثور الهائج فى أَوْج العنفوان والجنون. الهبوطُ الناعم ضرورةٌ للحفاظ على القليل المُتبقِّى، حتى تبرُدَ القِدرُ وتصير صالحةً لطبخة سلامٍ جديدة على نار هادئة.


على حماس أن تعترف بالحال وتتفاعل مع مُقتضياتها، وأنها خاضت لعبة «روليت روسيَّة» وأصابتها الرصاصةُ بالفعل.. بقاؤها يُحمِّلُ القضية بأعباء مُضاعَفةٍ، ولا يُضيفُ إليها شيئًا فى المقاومة الخَشِنَة أو الناعمة.


ضلَّ السلاحُ وانحرف بخطيئةٍ غير محسوبة، وعندما يحدث هذا يتوجَّبُ ابتعادُ المخطئ بأفعاله؛ كى لا يُلقيها على الآخرين.


الهُدنة الوشيكة يجبُ أن تكون خطوةً تجاه كَسر الدائرة المُغلَقة، لا فاصلاً تعقبه انتكاسِةُ جديدة بضعفٍ أكبر وأوراقٍ أقل.
ليس منطقيًّا أن تُهادى الحركةُ واشنطن بأسيرٍ، أو تُسلِّم بين وقتٍ وآخر بشروطِ العدو؛ ثم لا تنظُر للشقيق من أىِّ وجهٍ.
إنها فرصةٌ أخيرة لإبداء الندم، وإثبات أنَّ بعض الذنوب يمكِنُ التوبة منها والتكفير عنها دون ادِّعاءات فارغة. فلسطين أكبر من مُكوِّناتها، والفصيلُ الذى لا يرى هذا يتورَّطُ، من دون قَصدٍ طبعًا، فى الانقلاب على نفسه وقضيَّته، وقد لا يختلفُ عَمليًّا وفى أثرِه الحارِق عن أىِّ لواءٍ فى جيش الاحتلال.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

القانون ينظم ضوابط فحص الطلبات بعد غلق باب الترشح بانتخابات الشيوخ

تنسيق الجامعات 2025.. استمرار إتاحة التقدم لحجز اختبارات القدرات

مباشر الميركاتو.. تعرف على آخر أخبار سوق الانتقالات الصيفية حول العالم

اتحاد الكرة يستقر على إقامة السوبر المصري بمشاركة 4 فرق

ميلود حمدى يطالب مجلس الإسماعيلى بتعديل لائحة فريق الكرة قبل الموسم الجديد


تعرف على موعد صرف تكافل وكرامة بالزيادة الجديدة

إنبى يواصل التدعيم ويبحث عن مهاجمين أفارقة استعدادا للموسم الجديد

انفجارات عنيفة تدوي في مدينة جبلة السورية

موعد انطلاق فترة إعداد الأهلي للموسم الجديد

هل سيتم تخفيض تنسيق الثانوي العام بالقاهرة ؟.. اعرف التفاصيل


خالد سليم وزوجته ضيفا إسعاد يونس فى "صاحبة السعادة" على DMC.. الإثنين

إيهاب توفيق يتألق بأروع أغانيه فى افتتاح المسرح الرومانى بمارينا.. فيديو وصور

كهرباء الإسماعيلية يعتمد التشكيل الكامل للجهاز الفنى استعدادا للدورى الممتاز

خامنئى: استهداف قاعدة العديد الأمريكية ليس حادثة صغيرة بل كبيرة يمكن تكرارها

شقيق حامد حمدان: أخى فى حالة نفسية سيئة ومستعد للعب للزمالك دون شروط

استمرار عمليات إخماد حريق مصنع منظفات وكيماويات مدينة بدر

الزمالك يؤدى تدريبات بدنية خاصة بعد الفوز على أورانج وديا

الهيئة الوطنية تطلق تطبيق استعلم عن لجنتك فى انتخابات مجلس الشيوخ.. صور

سر تجدد اشتعال النيران في سنترال رمسيس.. مدير الحماية المدنية الأسبق يوضح

الدفع بـ4 خزانات مياه استراتيجية لإخماد حريق مصنع مدينة بدر.. صور

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى