أكرم محمد يكتب: مدن التحرر فى "رسائل البحر" و"قدرات غير عادية"

هكذا يطرح داوود عبد السيد مدينته، مدينة لا تحتضن زائرها، المغترب بالأساس من مجتمعه المحافظ أو ذلك المجتمع المتعارف عليه، بقدر ما تعريه، تكشف له بعض خباياها، التي تليق بمدن لا تكشف ألوانها السرية إلا لزائر ينوي اكتشاف ذاته وخوض رحلة البحث عن معنى وجوده وموقعه من المجتمع وأفراده، ومع تعرية ذاتها له تعريه هو، تعرفه على نفسه وعلى علاقته بمجتمعه المهجور، الذي هو ذاته مجتمع تلك المدينة، غير أن ذلك البطل، المتحرر من عبء المجتمع والذات، يكتشف هوامش خاصة للمدينة تجعلها مدينة أخرى موازية، مدينة، رغم قسوة هامشها، إلا أنها شاعرية وتليق برجل يكتشف مفاهيم هامة كالحب واللذة والحرية والمجتمع والذاكرة والهوية والوطن.
هكذا هم بطلا فيلميه "رسائل البحر"، من إنتاج عام 2010 بطولة الفنان آسر ياسين ومحمد لطفي والفنانة بسمة، وفيلم "قدرات غير عادية"، من إنتاج عام 2015 بطولة الفنان خالد أبو النجا، والراحل محمود الجندي ونجلاء بدر.
يفتتح داوود عبد السيد، مؤلف ومخرج الفيلمين، فيلمه "رسائل البحر" بلقطة بانورامية لبحر متلاطم الأمواج، كرمز للتمرد والتخبط، وهو ذاته ما يحياه البطل، أيضًا، تظهر زجاجة خمر فارغة وتائهة تطرح مستويين للاستقراء، أولهما درامي، وهو تمهيد للبنية الدرامية للفيلم، وثانيهم ترميز للشخصية المتحررة والمتمردة والمتخبطة في آن، يمسك رجل مهمش يشبه كل أفراد المجتمع بالزجاج ولا يكترث للرسالة ويلقيها، كرمز على علاقة البطل بمجتمعه، وإعادة تعريف ذلك المجتمع، بشكل عام، وفي لقطة تمهيدية تبني الفضاء الدلالي للفيلم. أيضًا، البطل سيجد جزءًا من اكتشاف ذاتها وتحررها في أحد هوامش المدينة الشاعرية، الإسكندرية، ذلك الهامش هو بار صغير، يكتشف فيه ذاته، ويكتشف قابيل، الذي يمثل رمزا هاما باسمه لثنائية الخير/الشر، ويمثل على مستوى الاستقراء الاجتماعي تقديم الهامش، الذي ينتصر له داوود عبد السيد في مشروعه الفني كله، أيضًا يمثل "قابيل" الذاكرة، التي تُنهَب من الذوات المأزومة لأبطال الفيلم؛ فهناك رجل يريد هدم منزل البطل القديم، كما يفقد "قابيل" ذاكرته، ويرى أن العملية التى ستفقده ذاكرته عذاب حتمي، وفي نهاية الفيلم يعيد التعرف على الموجودات، الشكريات، وبالتأكيد، المدينة.
يرى داوود عبد السيد مدينة خاصة به في "رسائل البحر"، مدينة شاعرية كما ينبغي لرجل يكتشف ذاته ويكتشف الحب ومعاني الوجود والتحرر من المعاني المجردة ومن المجتمع على حد سواء أن يكون. يتأثر داوود عبد السيد في تصور مدينته السكندرى وكشفها بالسينما الأوروبية، الواقعية الايطالية، ملابس الأبطال تحاكيهم، وديكورات أنسي أبو سيف تحاول البحث عنهم، سواء بالترميز من خلال اظهار مباني سكندرية على الطراز اليوناني يشير بهتان ألوانها لبهتان الشخصية، واحتضان المدينة له، أو ظهور تماثيل تعبر عن السلطة الهارب منها البطل في تمثال الإسكندر، حيث يعبر عن الإسكندرية كمدينة وككائن حي يحاكي شخوصه.. يحتضنهم بالطريقة التي تجعله يشعر بالألفة بها، ويحب التمرد فيها والخروج عن سلطته الأبوية ووحدته وماضيه وشخصيته الباهتة بها، أيضًا، يجد الحب فيها، حب شاعري مرتبط بالفن، الموسيقى ذات اللا هوية، حيث لا يعرف البطل من يعرفها، وما يؤكد شاعرية ذلك الحب ومؤاخاته بالفن أحد محاورات محبوبة البطل التي تقدم كعاهرة كعزاء للتمرد على الرأسمالية ومفهوم السلطة التي تقدم هنا في شكل زوج المحبوبة هذا وتقدم في رجل يريد سرقة ذاكرة البطل وهويته بأخذ منزله؛ لبناء عمارة حداثية على طراز خرسانة المدينة الرأسمالية الحديثة، التي لا تكترث للهوية والذاكرة والشاعرية بقدر ما ترى جانب مادي بلا روح، تقول المحبوبة في الحوار: "تفتكر بقيت تحبني أكتر من المزيكا؟".
وفي أحد مشاهد الفيلم تسير زائرة عابرة من جاليري صنع ملابس تديره حبيبة البطل القديمة، محبوبة الطفولة، عاريةً، كأن داوود عبد السيد بذلك المشهد المقصود أن يكون هامشي وعابر وتمرد على سياق الفيلم وتسلسله الدرامي المعتاد يقدم أطروحته حول ثنائية الفرد والمجتمع، ومفهوم التمرد، كما يقدم لوحة ايروتيكية للجمال واللذة مستعينًا بالجسد كوسيلة للتمرد.
أما "قدرات غير عادية"، فيظهر به التواجد المادي لمدينتين، مدينة الهامش ومدينة المركز، وحتى المدينة المهجورة تظهر في الافتتاحية بظهور لقاء الطبيب يحيى بأستاذه ومناقشته حول مشروعه عن أصحاب القدرات غير العادية، عكس رسائل البحر، الذي يحتفي، فقط، بمدينة التحرر، الإسكندرية، بكل ما فيها من عناصر سينمائية ودلالات لمفاهيم يتساءل عنها البطل ويبحث عنها.. في "قدرات غير عادية" مدينة المركز هي الاسكندرية، والهامش هي أطراف المدينة، حيث يقع "البنسيون"، وحيث دينامية مع دلالة الفيلم ورؤيته للهامش، فالفيلم من البداية ينتصر للهامش، يصور كادرات عنه ويبتعث شخوصه منه، فنجد كادرات لكلاب بلدي، ولشرفات من منازل الحارات وسكانها، أيضًا، "فريدة"، التي تعبر عن الندرة من دلالة اسمها، هي ذاتها رمز التمرد، تُبعَث من الهامش، ذلك التمرد النابع من الهامش الكل يطمع فيه، الأصوليين وسلفيي الفكر والمتشددين دينيًا يمنعوا السيرك، والسلطة تبحث عن "فريدة"، تلك السلطة، المركز، بمستوياتها العديدة ما بين الديني والحاكم، وهو ما يعبر أيضًا، بالضرورة، عن موقع الفرد من مجتمعه، ففي بداية الفيلم يقدم داوود عبد السيد فضاءً داليا يرمز لرؤيته للأصوليين عندما ينظروا باستهجان لزجاجات الخمر في أحد المحال، ثم يهاجموا السيرك، رمز الفن والهامش، وأخيرًا يخرجوه من المدينة بمساعدة الحكومة.. هنا نجد داوود عبد السيد أقل تجريدًا في المفاهيم من "رسائل البحر"، يضع قدمه على مدينة الواقع، يبحث عن فضاء دلالي مادي، ربنا كان هذا تأثير ثورة يناير 2011 وأحداثها، لذا نجد "فريدة" هي ذات القدرة غير العادية؛ فالطفل دائمًا رمز للتمرد.
مدينة المركز في "قدرات غير عادية" هي الحياة، حيث الحب واللذة مع "حياة"، أم فريدة، التي يعبر اسمها، بتلك الطريقة المعتادة في الفيلم لابتعاث دلالات شخوص الفيلم من أسماءهم كهوية رمزية لهم، عن الحب واللذة، الحياة، التي يقدم من خلالها داوود عبد السيد لوحات ايروتيكية تعيد تعريف مفاهيم الحب والجمال، ما يجعله يعيد تقديم المدينة بتقديم البحر والعشاق السريين للمدينة، الذين يقهرهم المجتمع، كما يؤكد الفيلم بما يشبه المباشرة في أحد المونولوجات الحوارية حين تحكي حياة عن معاناتها مع قدراتها الخاصة، وتوريثها لابنتها "فريدة"، وعن وقائع زواجها وطلاقها؛ بسبب الجهل والتشدد الديني، وهو جزء أيضًا من تصور داوود عبد السيد لمفهوم المجتمع، وهو يظهر في "رسائل البحر" في حديث البواب المتهم مع البطل، معترضًا على حبه وزيارات حبيبته لمنزله،. تقول "حياة": "بس الناس مبتحبش الست المطلقة.
قلت أبقى زي الناس حتصرف زيهم وأعيش زيهم،، وأصوم وأصلي، حتى الرسم سبته؛ عشان أبقى زيهم. أوحش حاجة إنك تبقى مختلف عن الناس".
وتؤكد على فكرتها حول المجتمع والأصولية الدينية والفكرية في مونولوج سردي آخر؛ ففي "رسائل البحر" و"قدرات غير عادية" يهب داوود عبد السيد شخوصه صوتًا لسرد حيواتهم، كأنه بذلك ينتصر لتمردهم وتحررهم، ويعزز اكتشافهم لذواتهم في تلك المدن التي تكون أكثر وحشةً في "قدرات غير عادية"؛ بسبب السلطة": "لقيت نفسي في النهاية هربانة وأنا بدافع عن حريتي بإني أدفن نفسي جوا نقاب، وإني خايفة وأنا حرة أكتر من خوفي لو سجنوني"
Trending Plus