بيرم التونسى والسنباطى وأم كلثوم ...."القلب يعشق كل جميل"

مع أيام وشعائر ومناسك الحج، تملأ عبر أثير الإذاعات المصرية والعربية والفضائيات المرئية أغنية "القلب يعشق كل جميل" أسماع ملايين المصريين والعرب، وتذكر دائما بأحد الفروض الإسلامية، وتصبح أيقونة غنائية ملازمة له كل عام بكلماتها المعبرة عن شعائر الحج وأماكنه المقدسة، من تأليف بيرم التونسى، وألحان عبقرية للموسيقار رياض السنباطي وبصوت مذهل لكوكب الشرق أم كلثوم في عام 72 أي بعد 11 عاما من وفاة مؤلف الأغنية بيرم التونسى.
ثلاثة عباقرة بكلمات وتلحين وصوت أخرجوا لنا هذه الأغنية التي ارتبطت بهذه الأيام العظيمة المقدسة، وصارت المعبر والمتحدث الرسمي عن الحج وشعائره عن الروضة وعن مكة والطواف وعرفة وحمام الحما.
نبدأ بالموسيقار الكبير رياض السنباطي الذي يعتبره كبار النقاد والباحثون واحدا من 5 ظهروا في بدايات القرن العشرين لتطوير وتجديد الموسيقى العربية، خاصة أنه كان منشدا وصوته جميل، والذى أجرى عليها تطويرا فيما بعد، وهو المطور للأغاني الدينية مع كوكب الشرق أم كلثوم، وإدخال القصيدة الدينية فى تاريخ الغناء العربي، مثل "ربى سبحانك دوما" التي كتبها الشاعر المعروف محمود حسن إسماعيل ولحنها وغناها رياض السنباطي نفسه، وأغنية "إله الكون" من تأليف حسين السيد.
وغنت أم كلثوم من ألحان السنباطي القصائد الدينية مثل"نهج البردة، و"رباعيات الخيام"، و"حديث الروح"، "إلى عرفات الله"، "سلوا قلبي"، "وُلد الهدى"، "الثلاثية المقدسة". لذلك يبقى رياض السنباطي أهم ملحن للأغاني الدينية برقي وذوق عال واحساس أصيل، وبحداثة جعلت تلك الأغاني مازالت تعيش في وجدان المستمعين من المحيط الى الخليج حتى الآن، حتى تلك الأغاني التي غناها بصوته الخاشع الممزوج بالتبتل والوقار مثل :" (ربي سبحانك دومًا يا إلهي.. نغمة تسري بقلبي وشفاهي) وأغنيته الذي يبتهل ويتضرع فيها لله الواحد الأحد: «إله الكون.. سامحني أنا حيران.. جلال الخوف يقربني من الغفران.. وسحر الكون يشاور لي على الحرمان.. وأنا إنسان يا ربي.. أنا إنسان" .
التفرد في الألحان الدينية يعود إلى التربية الدينية للسنباطي ابن فارسكور بمحافظة دمياط الذي كان أبوه مقرئًا للقرآن الكريم، ومنشدًا دينيًّا، ألحقه بكتّاب لحفظ القرآن الكريم وتجويده بالمقامات الموسيقية.
وفي القاهرة كان السنباطي والشيخ أبو العينين شعيشع جيرانا وكانا يتزاوران ويتدارسان معا القرآن والموسيقى، وكان الشيخ يعلم رياض السنباطي القرآن، ويتعلم منه القواعد الفنية للموسيقى.
كل هذا ترك أثره في نفس ووجدان رياض السنباطي، وهو ما انعكس على ألحانه الدينية، بداية من قصيدة «ولد الهدى» عام 1944م، التي لحنها لأم كلثوم، وهي من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كتب أيضا قصيدة نهج البردة» وغنتها كوكب الشرق ولحنها رياض السنباطي عام 1946م.
وقال السنباطي في حوار نادر له مع تلفزيون الكويت عن هذه القصيدة: «إنه لا يعرف كيف لحنها، فلحنها لم يستغرق سوى ثلاث ساعات فقط»، وأن أم كلثوم لم تصدق أنه نجح في ذلك، فلما أسمعها مطلع الأغنية بكت.. ولما سألها عن سر هذا البكاء الشديد قالت: «إنها هزتني من أعماقي». فرد عليها السنباطي قائلاً: «وأنا أعترف لك أنني لا أعرف كيف لحنت (نهج البردة)، وإنما - والله على ما أقول شهيد - كنت أستمع إلى صوت شجي داخلي وأنا أردد وراءه، وتلك حقيقة؛ فأنا لم ألحنها، وإنما أنا رددتها وراء صوت سماوي في داخلي..!».
وفي قصيدة " حديث الروح" عام 1967م للشاعر والمفكر الباكستاني تشدو أم كلثوم بألحان السنباطي وقال الموسيقار محمد عبد الوهاب عن لحن السنباطي لهذه القصيدة : «رياض يجبرك على أن تكون صوفيا، عايش في الملكوت وأنت بتسمع الأغنية».
أغاني دينية كثيرة غنتها أم كلثوم من ألحان السنباطي في أغاني رابعة العدوية من أشعار طاهر أبو فاشا مثل «على عيني بكت عيني»، و» تائب تجري دموعي ندما»، و» عرفت الهوى»، و" يا صاحب الراح». وهناك روائع لأغنيات دينية أخرى من ألحان رياض السنباطي، لا تقل عن الروائع التي غنتها أم كلثوم، منها: أغنية «لبيك يا ربي» للشاعر عبد الله شمس الدين وغناء المطربة فدوى عبيد، وقصيدة «سبحان علام الغيوب» لشاعر الزهد أبي العتاهية غنتها المطربة نجاح سلام. وكانت آخر القصائد الدينية التي لحنها السنباطي قبل وفاته قصيدة «الزمزمية» 1981م، وآخر ما غنت الفنانة عزيزة جلال قبل اعتزالها، وكانت من كلمات المستشار المرحوم ابن سودة سفير المملكة المغربية في لبنان بمناسبة زيارة الملك الحسن الثاني للديار المقدسة،
نأتي الى بيرم التونسي (المولود يوم 23 مارس 1893 وتوفي في 5 يناير 1961) وهو الشاعر الفذ والعبقري الذي عاش حياة الصعلكة والمطاردة واللهو وكان منكر للدين لدرجة أنه ألف قرآن سماه قرآن بيرم.
وذات يوم اختفى بيرم واعتقد الناس أنه سجن أو تم نفيه وكانت المفاجأة – كما يذكر الباحث السكندري خالد هلال المتخصص في سيرة ,اشعار بيرم- اذ ناداه الله سبحانه وتعالى ودعاه إلى زيارة بيته الحرام قبل وفاته بشهور عام 1960. لبى بيرم النداء وكتب القصيدة الرائعة " القلب يعشق كل جميل" في الروضة الشريفة بالمسجد النبوي. فشدت به أم كلثوم بعد وفاته بـ11 عاما ولحن بأجمل وأروع الألحان رياض السنباطي..."دعاني لبيته ... لحد باب بيته.
حازت الكلمات على إعجاب أم كلثوم حين قرأتها من بيرم، وقررت غنائها، فعهدت لزكريا أحمد أمر تلحينها، لكن اللحن لم يرق للست، وهي المعروفة بصرامتها في كل شيء؛ في اختيار النصوص التي ستغنيها، وتدقيقها في مفرداتها، وطلبت تغيير بعض هذه المفردات، وتقديم بعض أبيات القصيدة أو تأخيرها. ووجدت أن اللحن «جاء على غرار ألحان القصائد الدينية الرصينة الوقع»، والمكتوبة باللغة العربية الفصحى، فيما كانت كلمات قصيدة بيرم بالعامية المصرية، فتأخر لحن الأغنية عشرة أعوام تقريبا بعد وفاة بيرم حتى لحنها رياض السنباطي عام 72، وكانت من أواخر الأغاني التي تشدو بها أم كلثوم، بل إنها قدمتها في آخر ظهور لها على الإطلاق على خشبة المسرح في ذلك العام.
فعلا ..القلب يعشق كل جميل وياما شفت جمال ياعين.. واحد مفيش غيره.. ملا الوجود نوره.. دعاني لبّيته.. لحد باب بيته.. وأمّا تجلاّلي. بالدمع ناجيته.."

Trending Plus