غزة ونتنياهو ووجوه أمريكا المتعددة.. عن خيبة الرهانات وأوهام الوقيعة والخلاف

ما تزال الفجوة واسعة بين ما يقال بشأن غزة وما يُسار إليه. طرفا الصراع يترددان بين التبشير والتنفير، وكثير من المواكبة الخارجية يُجمّع المتناقضات ويُؤاخى بينها، دون اعتبار للمنطق أو استشعار لحجم الفجوات.
فكأننا إزاء حربين يُداران على جبهة واحدة، يُغذّيان بعضهما ويتخادمان، وكلما انطفأ لهيب إحداهما أشعلته الثانية. فيما تغيم المفاهيم وتستغلق على الأفهام، ولا يُعرَف الجاد فيها من الهزلى، ولا الجيد من الردىء.
رحّب نتنياهو بمبادرة ويتكوف بعد مُراوغة ومناورات لم تنقطع، وأقرّها سريعًا من باب التعويل على الرفض المُتوقَّع من حماس.
وإذ يُصرّح قبل يومين بأن المفاوضات تقترب من نقطة الحسم، وقد تُفضى لصفقة فى المدى المنظور؛ فإنه يتأرجح بين التطلُّع لإنجاز هدنة مؤقتة بشروطه الكاملة، أو الظهور فى صورة الشريك المعتدل بينما يتشدَّد الآخرون.
والأهم لديه شراء الوقت لتبريد ساحته الداخلية المُتأججة، مطمئنًّا إلى جدارٍ صلب من الرعاية الأمريكية، لم يهتز فى السابق، ولا يبدو أنه فى وارد التزحزح عن مواضعه الراسخة.
والحماسيِّون على الجانب المقابل، تآكلت الأوراق فى أياديهم وخفُت وهجُها، ولم تعُد لديهم وفرةٌ فى خيارات التهدئة أو التصعيد.
حُوصرت الحركة على الجبهات كلها: بالعدوان الغاشم الذى خلخل بِنيةَ التنظيم ودفاعاته الصلبة، وبالغضبة الشعبية المزعجة؛ ولو كانت مكتومةً حتى الساعة، وباختراع منافسة داخلية خطرة، وغير مأمونة العواقب، مع تحريك ملف الميليشيات المتعاونة مع الاحتلال.
ويظل أخطر ما فى المشهد أنَّ كل العناصر الصالحة للرهان عليها تساقطت تباعا، من أول الممانعة ومحورها الشيعى المسلح، وإلى خَطب وِدّ الإدارة الأمريكية، وتقديم الترضيات وعَرابِين المحبَّة للعرَّاب ترامب.
انفجر الطوفان قبل عشرين شهرًا بحسابات فوق فلسطينية، ولم يكن مُؤسَّسًا على اعتبارات ذاتية خالصة. امتلك التكتيك وغابت عنه الاستراتيجية، وتلك كانت العثرة الكبرى السابقة على خطوته الأولى.
ربما انطلق من افتراض هشاشة الجبهة الصهيونية وصعوبة صَفّها تحت مظلَّة جامعة، أو من تداخُل الحسابات واتساع رقعة المواجهة، ولعلَّه راهن على الفاصل الزمنى المُتبقِّى لإدارة بايدن، أن يكون رادعًا لها عن فجاجة الانحياز، وضابطا لمُقاربتها بنزعة احتوائية تُغلِّب التهدئة على الصخب.
ولأننا لم نُجالس يحيى السنوار أو نقع على مُحدِّدات سَيره إلى ما سار إليها؛ فالافتراضات كلها جديرة بالنظر على قدم المساواة، وكلها أخفقت بالآلية ذاتها فى آخر المطاف.
كان العملية أكبر من أن تُحتَوى بحربٍ جزئية، مثل التجارب الأربع السابقة عليها، وأعقدَ من أن تُمرِّرها إسرائيل أو تبتلع مرارتها، لا سيَّما أن نتنياهو كان ينتظر هديَّةً سماوية تُخرجه من مزنق الاحتدام الداخلى تحت سقف مشروعه للإصلاح القضائى، وتطلُّعات ائتلافه اليمينى المتطرف لخصخصة البيئة السياسية، وتعويض ما فات من عمر الدولة دون اصطباغها الكامل بنكهة توراتية لاذعة.
والشيعية المسلحة فُوجئت بالهبّة الطوفانية، أو صدمها أنْ تضخّمت فى أيدى القسَّاميين، وأغرتهم السيولة وانكشاف الطريق بالمواصلة دون تعقُّل أو محاذير.
وفيما نجحت حكومة تل أبيب فى تحويل المشهد دعائيًّا إلى نسخة ثانية حداثية من الهولوكوست؛ كان ميسورًا عليها أن تستنسخ السلوكيات النازية مع القطاع فى فسحة من الزمن والارتباك الدولى، وأن تستنزف فائض الوقت لحين إغلاق أبواب المناورة والالتفاف ومحاولة الرجوع على الجميع.
أمس، كان ائتلاف الليكود على موعد مع اختبار صعب، وربما أصعب اختباراته منذ إحماء أفرانه بأجساد الغزِّيين خريف العام قبل الماضى.
انتقل الاشتباك من المجال العام إلى داخل الحكومة نفسها، وصار على رئيسها أن يُقدِّم رشوةً لحلفائه، تستفز الشارع والمعارضة وتزيد هياجهم، أو أن ينضبط بالقانون والإرادة الشعبية؛ فيخسر الداعمين ويُضحِّى بما تبقَّى من ولايته حتى موعد الانتخابات الاعتيادية.
ورغم قِدَم مسألة «تجنيد الحريديم» وكونها موضوعًا للنزاع منذ سنوات؛ فما كان لها أن تنفجر فى وجهه الآن إلا بأثر الحرب الممتدة بلا نهاية منظورة، والمحاباة التى لم تعد مقبولة أو مقنعة، واختزال المسألة الوطنية العمومية لتصير حزبيَّةً أو شخصية. وكلها على ما يبدو تتحقَّق على جانب الفصائل الغزِّية أيضًا.
يعانى الجيش من عجز بشرى واضح، ويرى المدنيون أنهم يُضحّون بأبنائهم لأجل مُغامرةٍ يمينية بنيامينية تخص أصحابها حصرًا.
أمَّا التوراتيون؛ فما زالوا على إيمانهم بأنهم شرف الدولة اليهودية المُلفَّقة وغلافُ حمايتها، وبأن تعبُّدهم فى الكُنُس وانقطاعهم لدراسة التوراة، لا يقلّان شرفًا ونضالاً عن انخراطهم فى الجندية ورفقة السلاح؛ فيرفضون بحَسمٍ أن يُنتَزَع طُلابُّهم من المدارس الدينية ليُوضَعوا على جبهة القتال.
وبطبيعة الحال؛ فنتنياهو لا تعنيه هُويَّة المقاتل ولا طقوس تشييعه لاحقًا، بقدر ما ينظر للجميع على أنهم حَطَبٌ لا بديل عنه لإبقاء النار وهَّاجة، والصهيونى كالغزِّى لديه؛ المُهمّ ألّا تنطفئ المحرقة، ولا أن يُضطَرَّ لاختبار العيش فى ظلامٍ بارد.
تعترض الأحزاب الحريدية على فكرة التجنيد التى أقرّتها المحكمة العُليا بنصٍّ مُلزم، ويطلبون ما وُعِدوا به عندما تحالفوا مع الليكود قبل قرابة ثلاث سنوات، ومحوره الاستيطان والإعفاء.
يتحقَّق الأوَّل بطاقة دَفعٍ من وزيرى الأمن القومى والمالية، إيتمار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش، بينما يتعطَّل الثانى برغبةٍ غير مفهومة لديهم من نتنياهو.
وبهذا؛ تطوَّر التشاحُن والتهديد إلى تقديم مشروع قانونٍ بحَلِّ الكنيست والذهاب إلى انتخابات مُبكِّرة. يُفتَرَض إبّان كتابة المقال أن يُصوَّت عليه اليوم بالقراءة الأُولى، من دون مخاطر حقيقية داهمة حتى الساعة.
حزب شاس لديه 11 مقعدًا ويدعم القانون المُقترَح، حسب قوله، والصهيونية الدينية من ورائه بسبعة مقاعد، نتنياهو بين مطرقتهم من ناحية، وسندان عضو حزبه ورئيس لجنة الأمن والخارجية بالكنيست، يولى إدلشتاين، المُتشدَّد بشأن المسألة.
الخيال الاحتيالى دفعه للإيعاز لكُتلته بطرح عشرات القوانين المُعلَّقة للتصويت، بغرض تكديس الجلسة وإرجاء مشروع الحل، ما دفع المعارضة للتفكير فى سحب تقديماتها السابقة كلها، وإفساح الطريق للسهم المارق من قوس الائتلاف إلى صدره.
لا أعرف ما ستؤول إليه الجلسة. وبعيدًا من التفاصيل الإجرائية والفنية؛ فالوصول من الفكرة للتطبيق يتطلَّب ثلاث قراءات قد تستغرق شهورًا، ومثلها بعدها حتى الانتخابات وتحقُّق أغلبية حقيقية، ما يجعل الخطوة الراهنة رمزيَّةً أكثر من كونها تحرُّكًا جدّيًا، وأقرب إلى إثارة الغبار من تصويب الرصاص، وكل غموض وضبابيّة يصبّان مباشرة فى أجندة العدوان على الغزّيين وإلغائهم.
استطلاعات الرأى تضع نتنياهو ثانيًا أو ثالثًا فى أى استحقاق وشيك؛ لكنها تُخرِجُ أغلبَ الحريديين من المنافسة الجادة؛ حتى أنها تُبشِّر بعدم اجتياز حزب «بن جفير» لعتبة التمثيل أصلاً.
ما يعنى أن الحكومة الحالية فرصةٌ لهم بمثل ما هى لزعيم الليكود، ولن يغامروا بإسقاطها فوق رؤوسهم بنزعة شمشونيَّة ساذجة، بل سيكونون أحرص الناس عليها فى المحكَّات الحقيقية، وما يحدث الآن ليس أكثر من تصعيد للضغط، ومحاولة لترويض الرجل الذى بات يستأسد على حلفائه كما على معارضيه.
هو يعلم استحالة الحفاظ على هالته من دون الحرب، وصعوبة الأخيرة دون إمداد بشرى، ولا مدد بعيدًا من تجنيد الحريديم، وبهذا تنغلق الدائرة عليه تقريبًا.وتدَاعِى حجرٍ واحد من البناء قد يكون كفيلاً بتقويضه ونقضه كاملا.
المفارقة فى المسألة تتخطَّى كلَّ ما سبق، وتتجاوز حدودَ تلّ أبيب إلى واشنطن رأسًا. من الطبيعى أن يُناور مكتب رئيس الحكومة، وأن يفتح قنوات اتصال مع الأحزاب وقادتها الدينيين، ويُمارس الضغوط على مُحازبيه المُختلفين مع رؤاه، دعمًا لتجنيد الحريديم أو طلبًا لوقف الحرب.
لكن الغريب وغير الطبيعى أن يدخُلَ السفير الأمريكى على الخطِّ مباشرة، لا من جهة الشراكة المعتادة بين بلدين حليفين، لأحدهما يدٌ عُليا على الآخر؛ بل على صورة اللاعب السياسى وطرف المعادلة الأصيل.
فقد جال مايك هاكابى على التوراتيين والحاخامات، ودعاهم إلى سحب المشروع وتثبيت أركان الائتلاف، مُتذرِّعًا بخطورة إيران حينًا، ومُهدِّدًا بصعوبة أن تدعم بلاده إسرائيل من دون سلطة مُستقرّة وكاملة الشرعية.
استبقَ الرجلُ ذلك بصلوات عند محطّة المبكى، وصرّح للإعلام بأنَّ الولايات المتحدة لا تدعم دولة فلسطينية مستقلة، ولم تعُد تراها خيارا صائبًا أو صالحا للإنفاذ، وإن كان لا بد منها فلتكُن خارج جغرافيا فلسطين التاريخية، وباقتطاع مساحة من إحدى الدول الإسلامية لاستيعاب الفلسطينيين ومشروعهم.
كانت واشنطن تلعب دور الوسيط من جانب النهر المُقابل لإسرائيل؛ لكنها صارت تقف على الضفَّة الصهيونية بكامل جسدها، وتتحدَّث لغتهم، وتنظُر لمصالحهم باهتمام عالٍ، وبما يفوق نظرتَها لمصالحها الخاصة أحيانًا.
جولة العلاقات العامة الأمريكية لصالح نتنياهو، خاطبت الحريديم بأنَّ وجود الحكومة الحالية ضرورىُّ لمجابهة إيران، ومن الخطير الذهاب لانتخابات فى الوقت الراهن، بينما لم تتحقَّق أهداف الحرب على غزة، بإنهاء حماس أو استعادة الأسرى.
والمُفارِق هُنا ليس فى اللغة المنكشفة الفجَّة فحسب؛ بل الرد الضمنى على كل ما أُثير بشأن تعكُّر الماء بين البيت الأبيض وتل أبيب، وضيق ترامب من نتنياهو لدرجة الرغبة فى تحييده، بانتظار السقوط العادى أو بالمُبادرة إلى الإسقاط.
وإذا أضفنا «فيتو» الأسبوع الماضى فى مجلس الأمن الدولى ضد وقف الحرب وإنفاذ المُساعدات للقطاع، والمنطق الذى بُنِيَت عليه ورقة ويتكوف بمكاسب إسرائيلية خالصة، وبدون أعباء ملموسة، أو بالتزاماتٍ لا تكاد تُذكَر، ويسهل الانقلاب عليها؛ فإننا لا نكون إزاء رعاية بقدر ما هى شراكة كاملة، كما لا يمكن ادعاء صفة الوساطة النزيهة من الإدارة الأمريكية، وبطبيعة الحال لن تكون ضامنًا مُحايدًا؛ لأنها بالأساس ضمانة تاريخية حصرية لأحد الطرفين.
يرتبك ترامب عَرضًا أو بالقصد، وتنبع مواقفه المُتضاربة من نزوعٍ إلى الإغراق والتضليل، أو لأثر الشخصانية والانفراد بالقرار، دون فلسفة أو أيديولوجيا واضحة. لا فارق على الإطلاق طالما المُحصّلة واحدة، ولا جدارة للحديث عن بَرَمه من النازى المسعور بنيامين نتنياهو، فيما يُقدِّم له مجّانًا وعلى طول الخط ما لم يمنَحه سواه، ولم يُمنَح لسواه أيضًا.
يردعه ظاهرًا عن ضرب إيران؛ لكنه يُشركه فى المفاوضات معها من طرفٍ خَفىٍّ، ويُخطره بالتطوُّرات أوّلاً بأوَّل، ويُعدِّل خياراته بناء على تفضيلاته، من قبول التخصيب المُنضبط إلى رفضه تمامًا.
ينحاز له بالكُلّية فى لبنان؛ رغم تجاوزات الاحتلال وخروقاته لاتفاق وقف الأعمال العدائية وبنود القرار الأُمَمى 1701، ويُوظِّف ثِقَلَه فى تهذيب الإدارة السورية الجديدة، وترقيتها سياسيًّا على معايير المساكنة الصهيونية، وأغراضها من دمشق وما فوقها، إلى ما حول الجولان ومرتفعات جبل الشيخ.
والمُستجَدّ الأكبر، أنَّ سيِّد البيت الأبيض شخصيًّا ألمح قبل يومين إلى إشراك طهران فى مفاوضات غزَّة. والمعنى أنه يستدعى الجمهورية الإسلامية لترويض حماس وصَبّها فى القالب المطلوب.
وإن صحّت الشراكةُ؛ فإنها تنبع بالأساس من مفاوضات المشروع النووى، وتصبُّ فيها بالضرورة، أى أنهما سيخوضان جولة غزَّة لصالح تسويات مَسقَط، وسيكون خيار الحركة بين أمرين: أن تستمع للملالى رؤوس المُمانَعة وترضخ لإملاءاتهم، أو ترفض وتقطع الروابط وما يتولّد عنها من منافع آنية ومستقبلية.
وما فى غزة ينسحب بالضرورة على لبنان، وإن لم يُعلَن؛ فكأنَّ واشنطن تستكمل بالسياسة ما حقَّقه الصهاينة فى الميدان، وبدلاً من اختصام الشيعية المسلحة قلبًا وأطرافًا، تَوالِيًا أو تَوازِيًا، فإنها تجتذبُ مُكوِّنَها الصُّلب بالترهيب والترغيب، وتُوظِّف الأجنحة ضد بعضها.
ومن هنا فقط؛ يُمكن فَهم الاتفاق السابق مع الحوثيين قبل أسابيع، وقد سُوِّق على أنه قطيعة بين الأجندة الأمريكية والأولويات العِبريَّة، فيما كان فى الحقيقية خطوةً افتتاحيّة مُبكِّرةً على طريق التفكيك، واستكمال الفضّ النهائى لشعار «وحدة الساحات»، الذى للمُفارقة المُؤسفة لم يتحقَّق مُطلَقًا من جانب أصحابه، وكان تحقُّقه الوحيد عبر تعميم تل أبيب للبطش عليهم جميعًا.
من هنا تتظّهر المحنة الحماسية على وجهٍ أكثر قتامة من كلِّ ما خطَّطت له الحركة، واستشرفَته، أو كانت تتصوُّره.
لا هجمةَ الغلاف أنتجت عمليّةً رمزية تُفضى لصفعةٍ تُنعش العواطف، وتنتهى بصفقة تبادُلٍ رابحة كتجربة جلعاد شاليط، ولا الممانعون أَوفَوا بالعهود وقدَّموا الإسناد المُتخيَّل عن الأُخوّة القِيَميَّة والمَبدئيَّة على طريق القدس، ولا الحرب امتدَّت خارج النطاقات الأُصوليَّة المُرسَّمة سَلفًا لتبتلع دول الاعتدال، وتقلبها رأسًا على عقب.
والأسوأ أن شيخوخة بايدن أفرزت سلوكًا عدوانيًّا لم يكُن مُنتَظَرًا منها، بقدر ما تولَّد عن حيوية ترامب وضجيجه من رخاوةٍ مُشينة وموجعة، وانحيازٍ لو مَرّ على خاطر السنوار ومُشغّليه؛ لكان كافيًا لرَدعهم عن المُقامرة الغبيّة وغير المحسوبة.
وعليه؛ فالمشهد لم يعُد غامضًا ولا فى ثناياه أوراقٌ لم تُكشَف بعد. إسرائيل لن تتبدَّل عمَّا هى عليه واعتدناه، والرهان على الفواعل الخارجية أثبت فشلَه، ولا يُؤمَل منه ما هو أكبر.
صحيفة الاحتلال سوداء ولن يزيدها الإجرام والوَصْم اسودادًا، واستفاقة الضمير العالمى تُدغدغ العاطفة، ولا تُطعم جائعا أو تستنقذ قتيلاً.
مؤتمر حل الدولتين الأسبوع المقبل خطوةٌ مُهمَّة نحو ابتعاث السياسة من بين الركام؛ لكنه لن يتجاوز أثر الإسعافات الأوَّليّة لجريحٍ يُشرِفُ على الهلاك، ويحتاج إلى علاجٍ طويل، تتوقَّف فاعليّته على رغبة المريض وكفاءة الطبيب وتوافر الضروريات المنقذة للحياة.
والولايات المُتَّحدة لا وسيطَ ولا ضامن، ولا تُغريها مُهادنة خليل الحيَّة أو مُهاداته لترامب بالجندى مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر، بالضبط كما لم يَكُن كافيًا إقرار حزب الله بالهزيمة ضمنيًّا، مع مُماطلته فى الوفاء باستحقاقاتها الكاملة داخليًّا ومع الجار المسعور.
الجدل البيزنطى لا يخدم إلّا الرابحين من الانغلاق واستحكام العُقدة. يقول الحزبيون من ضاحيتهم المُدمّرة جنوبى بيروت، إنَّ سلاحهم ضمانة وجودية للمقاومة، ومشروطة بإجلاء المُحتلّ عن النقاط الخمس الباقية قُربَ الحدود.
ويغيبُ عنهم هُنا، بخفّةٍ أو استخفاف، أنهم الطرف المسؤول عن استجلاب الاحتلال أصلاً، وأنهم عندما أعلنوا حرب «الإسناد والمشاغلة» من جانبهم بانفرادية كاملة، وفرضوا على الدولة ما لم تكن مُتأهّبة له، أضاعوا هامش السياسة واستدعوا قوانين الحرب، وورّطوا أنفسهم وبيئتهم دون مساندة غزّة، ولا توفير لبنان من مأساة لم تكن ضروريّة إطلاقًا.
وبالمنطق ذاته؛ فإن حماس خرجت من الرتابة المُؤلمة إلى الهياج القتال، وأطلقت الشرارة على حقل البارود الذى تسكنه، وبقدر ما وفّرت الذرائع لعدوّها المُلتاث، حرمت نفسها من فرص المناورة والإفلات من الفخ المحبوك.
الدمار يُسأل فيه الصهاينة؛ لكنها استدعته باستعجال غير مفهوم. وغضبة الناس طبيعية ومُبرَّرة، وميليشيات المُستعربين نتاج قفزتها فى المجهول برعونة ومطامع أيديولوجية فوق وطنية.
ولم يعُد كافيًا اليومَ بالقطع أن تتحدَّث عن قابلية الخروج من السلطة، أو عن شروطٍ لوقف المَقتلَة؛ لا لانعدام الحق أو لشُبهة تمس عدالة القضية والمقاومة معاذ الله؛ إنما لأن للحروب قواعدَها المُختلّة والظالمة، وللهزيمة تبعات واجبة السداد، والربح الوحيد فيها أن تعرف متى تُقدِّم ما تقدر عليه؛ لتتجنّب الاضطرار لسداد ما يطمع فيه العدو كاملاً.
مُماطلة نتنياهو تخدمه ولا تضرّ إسرائيل وجوديًّا. مُنتهى خسارتها أن تعود للوراء قليلا، وتتقلّص مكاسبها من الطوفان وما تلاه. وفى المقلب المضادّ؛ فإن مناكفات حماس وتصلّبها يضرّان القضيّة بلا انقطاع، ويُبدِّدان من القليل المُتبقى؛ لصالح خيالٍ لا يتساند إلى وقائع ملموسة، ولن ينتهى إلا بإطاحتها من مشهد الحُكم. وإذا انجلى المآل، وأقرّ به الحركيّون ضمنيًّا؛ فمن الغريب وقتَها أن يتقاعسوا عن استحصاله بأقل التكاليف المُمكنة.
لا سلاح فى الأنفاق ليُغطّى عشرين شهرًا مُقبلة، ولا طعام ليصلُب قامات الزاحفين على بطونهم. المُمانَعة انحسرت أو حُشِرت فى ركنٍ ضيّق، والاعتدال تُقَوَّضُ جهوده الأمينة بالأُصوليَّتَين معًا: التوراتية والإسلامية.
الولايات المتحدة شريك ظالم، وظهير لن يرتخى ولو دُفِعَت إسرائيل بكلِّ طاقة الأرض ومَن عليها. وآخر ما تحتاجه غزّة أن تظل أسيرةً للشهور الماضية وتجاربها السيئة، أو أن يُدير الحماسيِّون اللعبة بالمُقدِّمات القديمة، مُتطلّعين إلى نتائج غير ما عاينوه وهَدَّم أبنيتَهم فوق أعناق الأبرياء والمنكوبين.
الكلام مهما كان طيِّبا لا يغنى عن الأفعال، والرجوع إلى ما كان مرفوضًا بعد وقتٍ مُهدَر وتكاليف باهظة؛ يَنُمّ عن غباءٍ لا عن ليونة. والواجب يبدأ من تفعيل ما يُقال، وأخذ المُبادرة نحو تخليص الجبهة الفلسطينية من أثقال الحرب ولو تمسّك بها الصهاينة، واجتراح مسار سياسى سيكون أقل كُلفة وإهدارًا فى أسوأ حالاته، مما كانت عليه الخشونة فى أفضل أحوالها.
العدو مُجرم والهزيمة مُتحقّقة، وسرديّة النصر تُضلِّل ولا تُؤَمِّل. يحتاج العاقل لخسارة واحدة حتى يكتشف الوصفة الخاطئة، والبليد ربما يستهلك اثنتين أو ثلاثًا.
أمَّا الفصائل فقد خسرت لجهة التعويل على الهشاشة الإسرائيلية، ثم على الصلابة الشيعية، ثم على حلفائها من تيّارات الإخوان ورُعاتهم، وأخيرًا الولايات المتحدة التى تمنّت لها أن تتخلص من الديمقراطيين السيئين؛ فأهدتهم نسخة جمهورية لم يتوقّعوها ولا قِبَل لهم بفجاجاتها وانكشاف وجهها.
الاعتراف أول طريق النجاة؛ لكن الإصرار على الخطأ قد يدلّ على العناد حينا، وعلى الجهل أحيانا؛ إنما ينطوى دومًا على إشارة طاغية للغباء والانتهازية وشُبهة المقصد.

Trending Plus