د. حسين عبد البصير يكتب.. "سيسامنيس" الرواية التى تحاكمنا جميعا

حين يقرر الأدب أن يحاكم التاريخ، وحين يواجه السرد مؤسسة القضاء بمرآته القاسية، تكون النتيجة عملاً روائيًا مثل "سيسامنيس" للكاتب المبدع أحمد عبد الله إسماعيل، هذه الرواية ليست حكاية عن قاضٍ فاسد سُلخ جلده، بل عن مجتمع يتساءل عن عدالته، عن قيمه، عن موقعه بين القانون والأخلاق، بين العقوبة والمغفرة. ليست الرواية فقط عن قاضٍ في بلاد فارس القديمة، بل عن الإنسان في كل زمان ومكان، حين يواجه مرآة نفسه بلا رتوش.
عدالة التاريخ أم عدالة الرواية؟
الرواية تبدأ من واقعة تاريخية شهيرة: قاضٍ يُسلَخ حيًا لأنه خان أمانة الحكم. الواقعة حقيقية، موثقة في مصادر قديمة، لكن الكاتب لا يكتفي بالسرد التاريخي، بل يعيد إنتاج القصة في سياق معاصر، من خلال شخصية "ماجد زاهر أبو المجد"، رجل أعمال نافذ، يتلاعب بالقانون، يشتري الذمم، ويقيم إمبراطوريته على أنقاض العدالة. هنا، تصبح الرواية مختبرًا لفحص علاقتنا المتصدعة مع فكرة القانون ذاتها: هل العدالة قيمة مطلقة؟ أم أنها خاضعة لمصالح السلطة والمال؟
ما يلفت الانتباه أن الرواية لا تقدم إجابات جاهزة، بل تمارس نوعًا من التفكيك الهادئ لفكرة القضاء، وكأنها تقول لنا: حين يتلوث ميزان العدالة، لا أحد ينجو، حتى لو كنت القاضي، أو رجل الأعمال، أو المواطن البسيط.
السرد كأداة لكشف الفساد البنيوي
الرواية تعتمد على سرد يتنقل بين طبقات زمنية مختلفة: بين الماضي البعيد لعصر قمبيز، والماضي القريب لمصر ما بعد الانفتاح، والحاضر الذي يبدو دائمًا مهددًا بالانهيار. هذا التداخل الزمني لا يأتي فقط كحيلة سردية، بل كوسيلة لرسم بنية فساد تمتد عبر الزمن، وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا: الفساد ليس عارضًا، بل هو نظام حياة حين يغيب الوعي وتُبتلع القيم.
السرد هنا ليس محايدًا، بل يقف صراحة ضد فكرة التواطؤ الصامت. ومع ذلك، لا يقع الكاتب في فخ الوعظ، بل يستخدم مفارقات الحياة ذاتها لتفجير الدلالة: طفل يشاهد أفلام توم وجيري يصبح فيما بعد أحد أكبر رموز التسلط، رجل يحمل صورة قاضٍ مصلوب على الحائط يرتكب الجرائم باسم القانون، ونساء يبدأن في دور الغواية ثم يكشفن هشاشة الرجال أنفسهم.
المرأة في الرواية: الغواية والعقاب والاحتجاج
واحدة من أنجح أدوات الكاتب في هذه الرواية هي إعادة تشكيل صورة المرأة. فهي ليست فقط موضوعًا للرغبة أو ميدانًا للفضيلة، بل شخصية فاعلة تتنقل بين الأدوار، تكشف هشاشة النظام الذكوري وتفضح نفاقه. "زينة الحلو" ليست مجرد راقصة، بل مرآة قاسية تكشف عورات المجتمع المحافظ الذي يدينها علنًا ويتودد إليها سرًا. في المقابل، نجد شخصيات نسائية أخرى تمثل الطهر والاستقرار، لكنها لا تملك الفعل بل تدفع الثمن في صمت.
الرواية لا تقدم خطابًا نسويًا تقليديًا، لكنها – في هدوئها – تطرح سؤالاً خطيرًا: هل المرأة ضحية أم شريكة؟ هل النظام الأبوي يستمر بفعل الرجال فقط، أم أن بعض النساء يسهمن في تكريسه طوعًا أو كرهًا؟
المكان بوصفه بطلًا رمزيًا
في "سيسامنيس"، الأماكن ليست ديكورات، بل كيانات ناطقة. من المساجد التي تمثل التطهر الرمزي، إلى قصور رجال الأعمال التي ترمز للفساد المعماري والأخلاقي، إلى البيوت الشعبية التي تحتضن الأحلام المحطمة. المكان هنا لا يُقدَّم كمجال سكني، بل كحالة نفسية، كفضاء للصراع، كمرآة لداخل الشخصيات. كل غرفة، كل ممر، كل سطح له حمولة رمزية تكمّل ملامح الشخصيات وتكشف عن تناقضاتها.
السلطة التي تأكل أبناءها
في نهاية الرواية، لا ينجو أحد. لا القاضي، ولا الفاسد، ولا العاشق، ولا الغاوية. كلهم يسقطون في فخاخ صنعوها بأنفسهم. وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا إن السلطة، حين تفلت من عقالها، لا ترحم حتى من خدمها. ماجد زاهر أبو المجد، الذي ظن أنه امتلك كل شيء، يجد نفسه مطاردًا من أشباحه، من خياناته، من ماضيه الذي رفض أن يُدفَن. حتى صورة سيسامنيس التي كانت تزين جدار مكتبه، تتحول إلى لعنة، تلاحقه إلى المصير المحتوم.
هل سقطت الرواية في فخ الأيديولوجيا؟
هذا هو السؤال الأكثر إلحاحًا بعد نهاية الرواية. هل نجح الكاتب في الحفاظ على استقلاله الإبداعي؟ أم أنه قدّم نصًا خاضعًا لخطاب سلطوي – حتى وإن كان أخلاقيًا؟ في رأيي، الكاتب المبدع الأستاذ أحمد عبد الله إسماعيل يمارس في هذه الرواية مقاومة ناعمة. هو لا يكتب بلسان الدولة، بل بلسان الضمير. لكنه أيضًا لا يخرج على النظام القيمي السائد، بل يعيد طرحه بطريقة ذكية، تجعله أكثر تعقيدًا وأقل يقينًا.
ربما لا نجد في الرواية دعوة للثورة، لكننا نجد فيها شكًّا مُلحًا، وقلقًا وجوديًا، وتساؤلاً عميقًا عن معنى العدل، والحق، والحياة الكريمة.
لماذا نقرأ "سيسامنيس" اليوم؟
لأنها رواية لا تنتمي إلى زمن بعينه، بل تحفر في جرح الإنسانية المفتوح: متى نُصاب بعمى العدالة؟ متى نتحول من قضاة إلى جناة؟ ومتى نكتشف أن العدالة، مثل الحب، لا تُفرض من أعلى، بل تُزرَع في القلوب؟ "سيسامنيس" ليست فقط حكاية عن قاضٍ سُلخ جلده، بل عن مجتمع يسير يومًا بعد يوم نحو سلخه الأخلاقي، إن لم يتدارك نفسه.
في هذا المعنى، تصبح الرواية شهادة إدانة لا لشخصياتها فقط، بل لنا جميعًا، نحن الذين نعيش في ظل قوانين نعرف أنها لا تُطبّق، وعدالة نُرَدّدها دون أن نمارسها.
Trending Plus