لماذا نحتاج إلى الثقافة (2)

يثير السؤال حول الحاجة إلى رؤية ثقافية حكومية جدلاً واسعا ومستمرا بين المثقفين والفنانين من ناحية وصناع السياسات من ناحية أخرى. فمن جهة، يمكن لرؤية حكومية واضحة أن تلعب دورا محوريا في دعم المشهد الثقافي وتعزيزه، بينما يرى بعض المهتمين فيها تدخلاً غير مرغوب قد يقوض حرية الإبداع والتعبير.
يرى المؤيدون أن الرؤية الثقافية الحكومية ضرورية لتحديد أولويات القطاع الثقافي وتوجيه الموارد بشكل فعال، حيث يمكن للحكومة، من خلال هذه الرؤية، أن تستثمر في البنية التحتية الثقافية مثل المتاحف والمسارح والمكتبات، وأن تدعم الفنانين والمبدعين من خلال المنح والبرامج التدريبية، ومن هنا يمكن أن تسهم الرؤية الحكومية - إذا وجدت وتم تفعيلها - في الحفاظ على التراث الثقافي والهوية الوطنية وتعزيزهما، سواء من خلال ترميم الآثار أو دعم الفنون التقليدية، وبالإضافة إلى ذلك يمكن للرؤية الثقافية أن تؤدي دورها الأهم في نشر الوعي الثقافي بين المواطنين، وتشجيع المشاركة الثقافية، وجعل الثقافة في متناول الجميع، مما يدعم الهوية الوطنية، وهو ما يؤثر بقوة في قوة الاستثمار المستقبلي، ويضاف إلى ذلك أنه من خلال تنظيم المهرجانات والفعاليات الثقافية، يمكن للحكومة أن تخلق منصات فاعلة للتعبير والإبداع والتفاعل الثقافي تدعم الوظائف السابقة بالإضافة إلى الهدف الاقتصادي.
على الجانب الآخر، يخشى المعارضون من أن تفرض الرؤية الثقافية الحكومية قيودا على حرية الإبداع والتعبير، فمن المعروف عموما أن الحكومات تميل إلى دعم أشكال فنية معينة تتوافق مع أجندتها السياسية أو الاجتماعية، وإهمال أو حتى قمع الأصوات الفنية التي تنتقد الوضع الراهن أو تتحدى الأعراف السائدة خاصة في مناخ قد ترى المؤسسات الحكومية فيه أن المثقف بشكل ما يمثل أحد الأعباء المعوقة لها، وهو التدخل الذي يمكن أن يؤدي إلى تسييس الثقافة وتحويلها إلى أداة للدعاية، مما يفقدها حيادها وقدرتها على إثارة التفكير النقدي وتشجيع الحوار المفتوح، ومن هنا يرى أصحاب هذا الرأي أن الثقافة يجب أن تنمو بشكل عضوي من المجتمع نفسه، وأن دور الحكومة يجب أن يقتصر على توفير بيئة داعمة وحاضنة للإبداع دون توجيه أو رقابة وأن يكون الدعم الذي تقدمه الحكومة جزءا أصيلا من واجبها تجاه الحفاظ على معدلات النمو في هذا المجتمع.
يكمن التحدي الحقيقي إذن في إيجاد توازن دقيق بين الدعم الذي يفترض أن تقدمه الحكومة للثقافة، وبين الحفاظ على استقلالية الثقافة وحرية المبدعين، وهو ما يجعلنا نقر بأن الرؤية الثقافية الحكومية الناجحة - إن وجدت - يمكن لها أن تكون بمثابة إطار استراتيجي يحدد الأهداف العامة للقطاع الثقافي ويضمن تخصيص الموارد بشكل عادل وشفاف، دون أن تفرض قيودا على المحتوى الإبداعي أو توجهه بشكل قسري، وهو ما يفرض علينا واجب أن تتم صياغة هذه الرؤية بالتشاور مع المثقفين والفنانين والجهات المعنية بالقطاع الثقافي، وأن ترتكز على مبادئ الشفافية والمساءلة والاستقلالية.
الحاجة موجودة وضرورية وملحة إذن لتوجيه الدعم وتعزيز المشهد الثقافي، ولكن يجب أن تكون هذه الرؤية حذرة ومتوازنة، تهدف إلى تمكين المبدعين ودعم المؤسسات الثقافية دون التدخل في جوهر العملية الإبداعية أو تقويض حرية التعبير، بما يضمن تقديم الخدمة المنصوص عليها في الدستور، بالإضافة إلى أن الرؤية الثقافية الحكومية المثالية هي تلك التي تخلق بيئة حاضنة للإبداع المتنوع والمستقل، وتسهم في بناء مجتمع مثقف وواعٍ ومنفتح على مختلف الآراء والاتجاهات.
Trending Plus