المتحف الكبير .. ما قاله أحمد شوقي عن توت عنخ آمون

يستعد المتحف المصري الكبير للافتتاح قريبا، والذي سيقدم جانبًا كبيرًا من إبداع الحضارة المصرية القديمة، ومن التحف التي سيشهدها العالم المجموعة الكاملة للملك الذهبي توت عنخ آمون، صاحب أشهر مقبرة في العالم، والتي افتتن بها الفنانون والشعراء، ومن ذلك ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
وحسبما يذكر كتاب الآثار المصرية في الأدب العربي لـ أحمد أحمد بدوي:
نظم شوقي في مقبرة توت عنخ آمون عدة قصائد، منها تلك القصيدة التي بدأها بمناجاة الشمس وسؤالها عما حدث في القرون الماضية لأنها رأت مصارع الأمم وسقوطها، فجدير بها أن تروي الأخبار وتعرف أنساب الناس وهي التي تلد ثم تأكل ما ولدت، وفي ذلك يقول شوقي:
قفي يا أختَ يوشَعَ خبِّرينا
أحاديث القرون الغابرينا
وقُصِّي من مصارِعِهم علينا
ومن دُوَلاتِهم ما تعلمينا
فمثلك من روى الأخبارَ طُرًّا
ومن نسب القبائل أجمعينا
نرى لكِ في السماء خضيبَ قَرْنٍ
ولا نُحصي على الأرض الطعينا
مَشَيْتِ على الشبابِ شواظ نارٍ
ودُرْتِ على المشيب رحًى طحُونَا
تُعينين الموالدَ والمَنايا
وتبنين الحياة وتهدمينا
فيا لكِ هرَّةً أكلت بنيها
وما ولدوا، وتنتظر الجنينا
وهذه المناجاة مناسبة كل المناسبة لحديثه عن هذا الملك المصري القديم، فهو — كما زعموا — ينحدر من الشمس من ناحية، وقد شاهدت الشمس ملكه وملك آبائه ومن جاء بعده من ناحية ثانية.
وينتقل شوقي من مناجاته للشمس واهبة الحياة والموت إلى حديثه إليها أُمًّا لملوك مصر القديمة، مباهيًا بهؤلاء الملوك، ممتلئ القلب إعجابًا بأمجادهم؛ فقد رآهم ملوكًا جديرين بالملك، أناروا الأرض بحضارتهم، حينما كانت الدنيا في ظلام دامس، وكان الناس يعيشون في ضلال مبين، أخذت روما من حضارتهم، واقتبست أثينا من نور علمهم؛ إذ يقول:
أأمَّ المالكين بني أمون
ليَهْنِكِ أنَّهم نزَعوا أمونا
ولدتِ له المآمين الدَّواهي
ولم تلِدِي له قطُّ الأمينا
فكانوا الشُّهْبَ حينَ الأرضُ ليلٌ
وحين الناسُ جِدُّ مضلَّلينا
مشَتْ بمنارِهِم في الأرضِ روما
ومن أنوارهم قبست أثينا
ويمضي شوقي مليئًا بالفخر يتحدث عن هؤلاء الملوك الذين اتخذوا قبورهم في وادي الملوك، محجبين كما كانوا في حياتهم محجبين بالجلال. إنهم اليوم مقيدون في حياتهم تُساق لهم الملوك أسرى في القيود والأغلال. وتنطلق صيحة إعجاب من شوقي بهم، فيرى أن أعمالهم المجيدة خارقة للسعادة كأنها السحر، ويرى من مظاهر هذا السحر أنهم ينطقون الحجر الأصم بما يقومون به من إتقان تنطق بما يراد منها. لقد أغرموا بالخلود، فعمدوا إلى بناء الآثار الخالدة التي تقوم على دعائم من الخلق المتين، وإتقان ما يصنعون، وأن الخلد لا ينال في سهولة ويسر؛ لأنه يحتاج إلى الهمم الكبيرة، والعبقرية الخارقة التي يمجدها التاريخ، وتدع الدنيا لسان ثناء، وأذنًا تصغي إلى مجد الخالدين:
ملوك الدهر بالوادي أقاموا
على وادي الملوك محجبينا
فرب مُصَفَّدٍ منهم، وكانت
تُساقُ له الملوكُ مصفدينا
تقيَّد في التراب بغير قيد
وحلَّ على جوانبه رهينَا
تعالى الله كان السِّحْرُ فيهم
أليسوا للحجارة مُنطِقينا؟!
عدَوْا ينبون ما يبقَى، وراحوا
وراء الآبداتِ مخلَّدينا
إذا عمدوا لمأثُرةٍ أعدُّوا
لها الإتقانَ والخلق المتينا
وليس الخلدُ مرتبةً تُلَقَّى
وتؤخذُ من شِفاهِ الجاهلينا
ولكن منتهى هِمَمٍ كبار
إذا ذهبت مصادرها بقينا
وسرُّ العبقرية حين يسري
فينتظمُ الصنائعَ والفنونا
وآثار الرجال إذا تناهت
إلى التاريخ خيرِ الحاكمينا
وأخذُك من فمِ الدنيا ثناءً
وتركُكَ في مسامعها طنينَا
ويعقد شوقي موازنة بين شباب اليوم وشباب الأمس فيرى شباب اليوم قانعين بالكلام دون العمل، ويغالون في تقدير ما يفعلون وإن كان ضئيلًا فيسخط شوقي ويقول:
فغالي في بنيك الصِّيد غالي
فقد حُبَّ الغلوُّ إلى بنينا
شبابٌ قُنَّعٌ لا خيرَ فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا
ويعود إلى الفخر بعرش مصر القديم الذي كان أخًا لعرش الشمس، وكان يتحلى بالعزة والجلال، ويقوم على دعائم من القوة في البر والبحر ويكلأ أمجاد ملوكه من أمثال رمسيس وخوفو ومينا الذين ارتفعت رءوسهم عزة وكبرياء وأبوا أن يخضعوا وأن يذلوا:
فناجيهم بعرش كان صِنوًا
لعرشكِ في شبيبته سَنِينَا
وكان العز حليته، وكانت
قوائمه الكتائبَ والسفينا
وتاجٍ من فرائده ابن سيتى
ومن خَرَزاته خوفو ومينا
علا خدًّا به صعرٌ، وأنفًا
ترفَّع في الحوادث أن يدينا
ويتعرض شوقي للدفاع عن هؤلاء الملوك، ويرد على من زعم أنهم ظلموا الرعية، وعسفوا بالعمال وجلدوا الخدم في سبيل إقامة هذه الآثار؛ وذلك أننا في أيامنا التي نعيش فيها ناقصون فلا يليق بنا أن نطالب الأولين بالكمال، وليس أدل على هذا النقص من سجن الباستيل بفرنسا؛ فقد كان يخفي وراء جدرانه سجناء أكل الحديد أجسامهم، ومن هذه البِيَع التي ارتفعت على أكتاف الظلم والسخرة، وكم ارتُكبَ في بنائها من ألوان القسوة، برغم أنها شيدت لرسول الحب والحنان:
ولستُ بقائل: ظلموا، وجاروا
على الأُجَرَاء، أو جلدوا القطينا
فإنا لم نُوَقَّ النقص، حتى
نُطالب بالكمالِ الأوَّلينا
وما البستيل إلا بنت أمسٍ
وكم أكل الحديدُ بها سجينَا
ورُبَّةَ بيعَةٍ عزَّت، وطالت
بناها الناس أمسِ مسخَّرينا
مشيَّدَةً لِشافي العُمْيِ عيسى
وكم سمل القسوسُ بها عيونَا
وبعد حديثه إلى اللورد كارنارفون الذي كشف عن قبر توت عنخ آمون، وتسجيله ما ذاع من أخذ بعض كنوز هذا القبر، يأتي الحديث عن قبر الملك الدفين فيخصه بالتحية، ويرى القبر لحسنه وطيبه تكاد حجارته تضيء، ويكاد طيبه تنتشر له رائحة زكية، ويخيل لرائيه أن حجارته لقداستها قد اقتُطعت من جبل طور سيناء، الذي تجلى الرب عنده لموسى.
لقد كان نزيله يدعى ملكًا، فصار اليوم يسمى كنزًا ثمينًا، لكن ذلك لا يحول دون الهتاف له كما كان بنو شعبه يهتفون، إذ لم ينقص له مقدار، فلا تزال له مهابته وجلاله الذي استمر برغم مرور القرون الأربعين التي مرت منذ عهده، بل إن جلال الملك أيام تنقضي، ولا ينقضي جلال الخالدين.
ويرحب شوقي بالملك القادم، ويُحيِّي مقدمه المبارك، ويهدي إليه السلام يوم مات، ويوم كشف قبره. لقد ظهر إلى الوجود كما ظهر عيسى، عليه جلالة ووقار، وأخذ اسمه يجوب أرجاء العالم سهوله وجباله:
خليليَّ، اهبطا الوادي، وميلا
إلى غرَفِ الشموس الغاربينا
وسيرا في محاجرهم رويدًا
وطوفا بالمضاجِع خاشعينَا
وخَصَّا بالعَمار وبالتَّحايا
رُفاتَ المجدِ من توتنخَمِينا
وقبرًا كادَ من حُسْنٍ وطيب
يُضيء حجارةً، ويضوعُ طينَا
يُخالُ لروعة التاريخ قُدَّت
جنادله العُلا من طور سينا
وكان نزيلُهُ بالملْكِ يُدعى
فصار يلقَّب الكنز الثمينا
وقُومَا هاتفين به، ولكن
كما كان الأوائل يهتفونا
فثم جلالة قرَّت، ورامت
على مرِّ القرون الأربعينا
جلالُ الملكِ أيامٌ وتمضي
ولا يمضي جلالُ الخالدين
وقولا للنزيل: قدوم سعدٍ
وحيَّا الله مقدمك اليمينا
سلامٌ يومَ وَارتْك المَنايا
بواديها، ويوم ظهرتَ فينَا
خرجتَ من القبور خروج عيسى
عليك جلالة في العالمينا
يجوبُ البرقُ باسمك كلَّ سهلٍ
ويخترقُ البخارُ به الحُزُونا
ويسأل شوقي توت عنخ آمون عن فراقه لهذه الحياة الدنيا: أكان قصيرًا كأنه سنة نوم، أم طال فاستغرق السنين الطوال؟ وكيف قطع في ظلام القبر ليلًا طويل الأمد، لا يصل المرء إلى صبحه إلا بعد عناء وضنى؟ ويسأله عن سر الاحتفاظ بالجسد بعد موته، وهل ذلك لأن النفوس تبقى ما دامت أجسامها باقية، وتفنى إذا فنيت هذه الأجسام.
ويسأله عن قباب هذا القبر، وكيف ظلت مجهولة طول هذه القرون. إنها قباب ملساء يظنها الرائي برجًا مدفونًا في باطن الأرض، امتلأ بالأثاث فصار كأنه القصر، وتغطى بالصور فبدا كأنه المعبد.
ويعجب شوقي من حرص الملك على أن يدفن العرش معه، فهل ذلك لأنه يؤمل عودة إلى الحياة، ويكون له حينئذٍ مُلك ودَولة، أو لأنه سيبقى لكن وهو جالس على عرشه في حين يلقاه الناس مترجلين؟
ويعجب من الطعام وقد ظل ذا رائحة طيبة ومذاق طيب كما تركته أيدي صانعيه، لقد كان الملك لا يصبر عن الطعام يومًا، فكيف صبر هذه المئين من الأحقاب؟
ثم يقول للملك: لقد حدث ما كان قومك يخافون؛ لأن الإنسان يحب أن ينبش أخاه حيًّا وهالكًا، وها أنت ذا قد أُخرجت من القبر يوم البعث، وسوف يأتي اليوم الذي تُبعث فيه حقًّا إذا كان بعثك ليس بهذا البعث الموعود.
وما قيمة صيانة جسمك بعد الموت؟ إنك لا تحس بأذًى بعد أن تفارق الحياة، ولا تشعر بألم، وإنما يشعر بذلك الأحياء. ولننصت إلى هذه المفاجأة الرائعة إذ يقول شوقي:
تعالَ اليومَ أخبرنا: أكانت نواكَ
سِناتِ نومٍ أم سنينا؟
وماذا جُبْتَ من ظُلُماتِ ليلٍ
بعيدِ الصُّبح يُنْضي المُدلجينا؟
وهل تبقى النفوس إذا أقامت
هياكلها، وتَبْلى إن بلينا؟
وما تلك القبابُ وأين كانت
وكيف أضل حافرُها القرونا؟
ممرَّدةَ البناء تُخالُ بُرجًا
ببطنِ الأرض محطوطًا دفينَا
تَغَطَّى بالأثاثِ، فكان قصدًا
وبالصُّوَرِ العِتاقِ، فكان زُونَا
حملتَ العرشَ فيه، فهل تُرَجِّي
وتأمُلُ دولةً في الغابرين؟
وهل تلقى المهيمنَ فوقَ عرشٍ
ويلقاه المَلا مترجِّلينا؟
وما بال الطعام يكاد يُقْدَى
كما تركته أيدي الصانعينا؟
ولم تكُ أمس تصبر عنه يومًا
فكيف صبرتَ أحقابًا مئينَا
لقد كان الذي حذر الأوالي
وخاف بنو زمانك أن يكونا
يحب المرء نبش أخيه ميتًا
وينبشه، ولو في الهالكينا
سُلِلْتَ من الحفائر قبل يوم
يَسُلُّ من التراب الهامدينا
فإن تكُ عند بعث فيه شَكٌّ
فإن وراءه البعثَ اليقينا
ولو لم يعصموك لكان خيرًا
كفى بالموت معتصمًا حصينَا
يُضَرُّ أخو الحياةِ، وليس شيءٌ
بضائره إذا صحِبَ المنونَا
ثم يحدث الملك بأن الحكم المطلق قد انقضى، وحل مكانه حكم الشعب لنفسه، وأصبح الملوك ينزلون على حكم رعاياهم، وهكذا لم ينسَ شوقي وهو في غمرة الفخر تلك اللمحة إلى ما حدث في الحكم من تطور وتجديد؛ وذلك إذ يقول:
زمانُ الفردِ يا فرعون ولَّى
ودالت دولةُ المتجبرينا
وأصبحت الرُّعاة بكل أرضٍ
على حكمِ الرعيةِ نازلينا
Trending Plus