الداخلة المغربية.. كنت هناك على ارتفاع منخفض

نـاهـد صـلاح
نـاهـد صـلاح
بقلم نـاهـد صـلاح

لنا كل يوم، قلق جديد نضيفهُ ونراكمه على ما سبق. لا شيء يُمكنه تبديده، بين استحالة اللحظة الآمنة، واللحظة المتوغلة في الموت، واللحظة المثقلة بالقتل والحرب، وثقل القبضة الأمريكية على مجريات الأمور في هذا العالم غير العادل. غادرت القاهرة بكل هذا الثقل لأسافر إلى المغرب متوجهة إلى مدينة الداخلة، تسعة ساعات كان علي أن أنتظرها حتى أستقل طائرة أخرى إلى الصحراء المغربية، لا أحب الانتظار، إنه رفيق القلق وحليفه، لذا رحت أجوب شوارع الدار البيضاء بلهفة بحثًا عن لحظة خفيفة، رحيمة برأسي المنهمك بأخبار  الحرب ومنطقتنا المشتعلة، شعرت أثناء تلهفي هذا كما لو كنت على إرتفاع منخفض، لا أسقط ولا أنجو من القلق. آثار أقدامي ليست مطموسة في هذه المدينة التي تنهض بي كل مرة أزورها، مشاعري تجاهها تتلاقى مع تاريخها وسمعتها العريقة التي كرستها السينما بالفيلم الشهير "كازابلانكا" (1942) إخراج مايكل كورتيز، يخايلني وجه همفري بوجارت وإنجريد برجمان، ريك وإلسا بطلا الفيلم الذي لم يتم تصويره في أي مكان بالمغرب، لكنه كان رمزًا واسمًا للمدينة البيضاء التي تواصلت مع غرباء الوطن والحب، وتناثر في أجوائها الخرافة والخوف والسعادة والمغامرة والحرب.

لم يتسن لي أن أزور مقهى ريكس وأستعيد فيه بعضًا من أجواء الفيلم، فلم يكن لدي سوى هذه الساعات القليلة التي قضيتها ألف وأدور بين محطة القطار ومقاهي شارع محمد الخامس، حيث إلتقيت بعض الأصدقاء، ومررت بالحي المحمدي، واحد من أعرق الأحياء المغربية، يستقر في وجدان المغاربة كمركز لمقاومة الاستعمار الفرنسي،  وكواحد من أهم مصادر الحركة الثقافية والفنية والرياضية المغربية. لم أستطع المكوث كثيرا في هذه البقعة الجغرافية المحببة إلى قلبي، كان علي أن أسرع لألحق بطائرتي المتجهة إلى مدينة الداخلة جنوبي المغرب على مسافة ساعتين و20 دقيقة من مطار الدار البيضاء.

إنها المرة الثالثة التي أزور فيها "لؤلؤة الجنوب المغرب"، أو "جوهرة الصحراء المغربية" بدعوة من مهرجانها السينمائي الدولي، لأحضر فعاليات دورته الثالثة عشرة، المهرجان الذي تنظمه جمعية التنشيط الثقافى والفنى بالأقاليم الجنوبية ويرأسه الإعلامي والمنتج زين العابدين شرف الدين، هذه المرة ليست كمثيلاتها في السابق، لم أندهش أن أغلب ركاب الطائرة من الأوروبيين، فقد أدركت أن الداخلة وجهة سياحية مهمة لهم، يمارسون فيها مغامرات عدة، حيث تُعد شبه الجزيرة التي تمتد داخل البحر بمسافة تناهز الأربعين كيلو مترًا، العائمة في المحيط الأطلسي، من أشهر الجغرافيا المصنفة عالميًا ضمن أفضل مكان في العالم لرياضات الأمواج والرياح، "الكيت بورد" و "الركمجة"، وتستقبل سنويًا نحو مائة ألف سائح.

موسيقيون على زاوية جانبية في مدخل المسرح قبل حفل إفتتاح المهرجان، يعزفون الموسيقى الحسانية على الآلات الموسيقية التقليدية، فيتسلل هذا المزيج ما بين الموسيقى العربية والإفريقية، إيقاع متناغم ينقل لنا تراثًا موسيقيًا عريقًا تتميز به المناطق الصحراوية في المغرب، بالمناسبة تحظى الموسيقى الحسانية باهتمام كبير من شباب هذه المناطق، وتوجد العديد من الفرق الشبابية التي تختص بتقديم الأغنية الحسانية، وتسعى إلى مزجها وتطويرها وإيصالها للعالمية. رائعة هذه الموسيقى التي تقدم قصائد المديح والغزل والفخر وتتوارثها الأجيال، تطلع الموسيقى وتملأ الفضاء كأنها تخرج من رحم الأرض التي يجلس عليها العازفون، فتصعد إلى رؤوسنا مذهلة، كما لو أن كل عازف يُطبّق أسلوبه الخاص في الحب وفي التعبير عن الحياة بتفاصيل متابينة، معبرًا عن هذا التراث الحساني الذي يتسع للموسيقى وحضوره الفني والثقافي الذي يشمل الشعر والحكي الشعبي وحتى الملابس التقليدية مثل الملحفة للنساء والدراعية للرجال وبراد الشاي الصحراوي المتميز.

كنت قبل الاستماع لهذه الموسيقى مُثقلة، جئت هنا بأسئلة وجودية حملتني إياها نشرات الأخبار، وصور القتلة وتجار الحروب تملأ الشاشات: كيف يتأتّى لهم النوم وقد أغرقوا العالم بالدم؟ .. الموسيقى لم تجعلني أنسى ما يحدث حولنا، لكني حين رأيت الانفعالات على وجوه العازفين، تسكنني أصوات فاتِنة وأدرك أن العالم خارج هذه المساحة هو عالم مريض تهجره الطمأنينة ويعاني من الإنسانية المهدورة.

الصحراء في الداخلة رأيتها أوسع من مفهوم البراح أو الفضاء الشاسع، إنها هذا الامتداد الجغرافي الذي تمتزج فيه صلابة الصحراء ومرونة الساحل وجمال المحيط، كل شيء هنا يؤشر لمقومات مدينة تبدو صورتها خارج الكادر وداخله مثالية للسياحة وكذلك الاستثمار الذي يزداد في السنوات الأخيرة وتتسع رقعته كما شهدناها في رحلة استكشافية للصحراء والمحيط سويًا، فضلًا عن أهل المكان الذين يفاجئونك بكرمهم ولا يتعاملون مع ضيفهم على أنه غريب، أو عابر لن يرونه مرة أخرى، هذه الحفاوة الإنسانية تستطيع أن تلتقطها من اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدمك أرض الداخلة: صحرائها وشاطئها.

طراز البيوت والأبنية عمومًا يوحي بهذا التمازج الآسر بين الرمال والمياه، ويحكي عن تاريخ قديم لوادي الذهب في الأقاليم الجنوبية المغربية، من "فيلا سيسنيروس"، مستعمرة إسبانية في التاريخ القديم سنة 1884، إلى الداخلة مدينة مغربية حرة، لا تنتهي أسباب الدهشة والتواصل مع الحجر والبشر، يزداد هذا التواصل في السوق العتيقة التي تمتليء بكافة أشكال الصناعة التقليدية، وكذا بأنواع مختلفة من الشاي، كوب واحدة من الشاي الصحراوي تكفي لمنح طاقات من السعادة والراحة دون مبالغة، أما الأغراض المتنوعة من الصناعات التقليدية فتبدو كما لو أنها تحكي قصصًا ومغامرات عدة، الأوان خزفية متشقّقة، ملابس فولكلورية مزركشة وستائر وبُسط قديمة، القِدم المؤثّر الذي يهزّ القلب،هذه الأساور أو الخواتم الفضية، الفيروزية والعقيقية والكهرمانية، تستطيع أن تنقلنا إلى عوالم أخرى غير عالمنا هذا الحافل بالاضطراب الوجودي والحياتي. هنا تشي السوق بمزاج أهل المكان ونكهتهم الخاصة، تبدو أنيقة إلى حد كبير وغامرة بروح صانعيها وروائح المكان المتشابكة مع حكايات تحتاج عُمر آخر للتأمل.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

شاهد صورة سائق النقل المتسبب فى حادث الطريق الإقليمى ومصرع 19 حالة

مصرع 3 فتيات وشاب فى انقلاب مركب صغير داخل نهر النيل بالمنيا

الأهلى يرفض مناقشة أى عروض لرحيل زيزو بعد اهتمام قطبى تركيا بضمه

تحذير عاجل من هيئة الأرصاد الجوية لسكان هذه المحافظات

مفيدة شيحة تحتفل بزواج ابنتها منة الله عماد وسط حضور كثيف.. فيديو وصور


مشهد يهز القلوب.. بتر ساق رضيع فلسطينى بسبب غارة إسرائيلية على غزة.. صورة

تغريم فتاة بتهمة إزعاج أشرف زكي وإساءة استخدام مواقع التواصل

النيابة العامة تأمر بحبس المتهم المتسبب في حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية

العرض العالمى الأول لفيلم "موسكو كايرو" يجمع صُنّاع الفن من مصر وروسيا

محمد الشناوي يودع شيفو: كلنا بنتشرف بيك يا حبيبى ونتعلم منك الأخلاق


وسام أبو علي يزين قائمة النجوم الأعلى تقييماً فى كأس العالم للأندية

الرئيس السيسى يوجه باستمرار تطوير المطارات من خلال شراكات دولية وطرح مطار الغردقة للشراكة مع القطاع الخاص بنهاية 2025.. إشادات دولية بمنظومة المراقبة الجوية المصرية ومصر للطيران تتقدم 20 مركزا ضمن الأفضل عالميا

الرئيس السيسى يوجه بطرح مطار الغردقة للشراكة مع القطاع الخاص بنهاية 2025

فيتيس الهولندي يضم المصري مصطفى أشرف حتى 2027

كلوب: كأس العالم للأندية أسوأ فكرة فى تاريخ كرة القدم

ما لا تعرفه عن الإعلامية كوثر بودراجة بعد وفاتها عقب صراع مع المرض

رئيس الوزراء يفتتح أحد أكبر المستودعات فى إفريقيا لشركة جوميا

موعد مباراة بنفيكا ضد تشيلسي في ثمن نهائي مونديال الأندية والقنوات الناقلة

موعد انطلاق الدوري المصري موسم 2025 - 2026

اعترافات من قلب الإخوان.. قيادى إخوانى يرصد خطايا الجماعة الـ10 قبل ثورة 30 يونيو.. جمال حشمت: تعاملنا بطريقة التنظيم السرى.. اعتبرنا الوصول للحكم مرحلة التمكين..والاعتصامات خطيئتنا الكبرى.. واستهدفنا أخونة مصر

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى