حكاية آخر الحرفيين في سيناء.. معمر يطرق الألمنيوم منذ طفولته.. عوض الله عمر يُحيي صناعة الدلال بيديه منذ قرن.. أدواته مطرقة وسندان.. يصنع بها ما عجزت عنه الآلات.. ومن يديه تخرج قطع تراثية فريدة.. صور

أقصى شمال سيناء، وتحديدًا فى قرية نِجيلة الواقعة بنطاق مركز بئر العبد، يعيش رجل من زمن نادر، اسمه "عوض الله عمر"، تجاوز عمره المئة، لكنه لا يزال يستيقظ كل صباح ليصنع من قطعة ألمنيوم بسيطة تحفة فنية تحمل روح الصحراء ورائحة القهوة البدوية الأصيلة.
عوض الله ليس مجرد حرفي، بل ذاكرة حية تمتد لقرن من الزمان، تشهد على تحولات سيناء، وعلى سيرة رجل صنع من البساطة حياة مليئة بالكرامة والعطاء وبهجة الحياة.
يقول عوض الله بصوت واثق رغم الزمن: "عمرى تعدى المئة عام، عشت حياتى متنقلًا فى صحارى سيناء وأنا صغير أرعى الإبل مع أسرتى البدوية التى كانت ترتحل بحثًا عن الكلأ والماء، لم أتعلم فى مدرسة، ولا أجيد القراءة أو الكتابة، لكن ألفطرة كانت مدرستي، ومنها تعلمت حرفتي".
فى شبابه، انجذب عوض الله إلى حرفة لم تكن مألوفة بين أبناء بيئته، حرفة تقوم على تحويل قطع الألمنيوم المستعملة إلى دلال قهوة وشأى يدوية الصنع، دون أى آلات أو لحامات، فقط المطرقة والسندان والمقص والمسامير البسيطة، وروح الصانع التى لا تشيخ.
يستعيد عوض الله شريط حياته لـ" اليوم السابع" قائلاً: "بعد أن تعلمت صناعة الدلال بألفطرة، حأولت العمل فى وظائف حكومية، التحقت بالسكك الحديدية، ثم شركات البترول والطرق، لكن لم أجد نفسى فى أى منها. ثم انتقلت من حياة الصحراء إلى البحر، وعملت صيادًا فى بحيرة البردويل لسنوات طويلة، حتى بدأ العظم يضعف والجسد يثقل، فعدت إلى حرفتى الأصلية".
منذ أكثر من عشرين عامًا، عاد عوض الله إلى صناعة الدلال والبراريد، يجلس يوميًا تحت شجرة الزيتون فى فناء منزله، يحوّل كل قطعة ألمنيوم قديمة إلى أداة نافعة وجميلة. يطرق المعدن، يثنيه، يشكله بعناية وصبر قلّ نظيره، ليصنع مشغولات تُعرض لاحقًا فى الأسواق.
يقول: "أشترى صوانى الألمنيوم القديمة من الأسواق، أو أحصل عليها من الناس الذين يجلبون لى أدواتهم التألفة، فأحولها إلى دلة قهوة أو براد شاي.. أعمل كل يوم على قطعة وأحدة فقط، بسبب الألم فى الركب، أحيانًا أجلس أربع ساعات متواصلة لصناعة قطعة وأحدة، لكنى سعيد أنى ما زلت قادرًا على العمل".
ويضيف مبتسمًا: "لا أنافس المصانع، ولا تهمنى الماكينات أو لمعان المنتج، ما أقدمه عمل يدوى بسيط، له عشاقه ومحبيه. زبائنى من الناس الذين يقدرون الذوق الأصيل، ويبحثون عن القطع الصحية المصنوعة يدويًا، خاصةً فى طهى القهوة".
المثير فى قصة عوض الله أنه يضبط كل قطعة بأبعادها وموازينها دون أن يعتمد على مقاييس علمية أو تعليم أكاديمي، بل بألفطرة وحدها. يخرج كل منتج من يده كأنما هو توقيعه الشخصي، محمّلًا بروح الصانع البدوي.
يؤكد عوض الله أن حرفته اليوم ليست فقط هواية بل مصدر رزق له، رغم أنها لا تدر عليه المال الوفير، لكنه يرضى بالقليل ويؤمن أن "الستر" أهم من كل شيء. يبيع القطعة الوأحدة بأسعار تبدأ من 200 جنيه، ويعتمد على الأسواق المحلية لتسويق إنتاجه المحدود.
يقول: "أنا لا أبحث عن الشهرة، ولا أرى أنى أقدم شيئًا استثنائيًا. هذا عمل بسيط، لكنه يعطينى شعورًا بأننى أعيش وأنتج، ويكفينى أننى علمت أولادى جميعًا، وبعضهم اتجه لتربية الإبل وسباقات الهجن، لكن لا أحد منهم ورث هذه الحرفة".
ومع ذلك، لا يحمل عوض الله أى شعور بالحزن تجاه غياب من يرث حرفته. يقول بتواضع المؤمن: "ليست صنعة لها أسرار، هى هبة من الله، وأنا سعيد أننى أقوم بها حتى اليوم".
ورغم أنه أدى العمرة من قبل، فإن قلبه ما زال متعلقًا بالحج، يتمنى أن يزور بيت الله الحرام حاجًا قبل أن يغادر الدنيا، يقولها بنبرة خافتة: "ذهبت إلى العمرة، والحمد لله، لكننى أتمنى أن أحج، وأملى أن يحقق الله لى هذا الرجاء قبل الرحيل".
عوض الله عمر ليس مجرد معمر تجأوز القرن، بل هو شاهد على عصور، من حياة الترحال فى الصحراء، إلى العمل موظفا، ثم التحول إلى البحّار الصياد، وصولًا إلى شيخ جليل يعود إلى حرفته الأولى.
فى وجهه الأخاديد التى حفرتها الشمس، وفى عينيه بريق لا يزال يلمع رغم تعب السنين، وفى صوته حنين إلى أيام مضت، ورضا عميق بالحاضر مهما قلّ فيه المال أو الجهد.
وفى بيته البسيط، حيث أشجار الزيتون تظلل المكان، وحيث المطرقة تطرق الحديد برفق شيخٍ لا يكل، تجد المعنى الحقيقى للكرامة. لا يتكفف الناس، ولا يشكو ألفقر، ولا يطلب شيئًا من أحد. يكتفى بكسب يومه، ورضا ربه، ومحبة زبائنه الذين يعودون إليه مرارًا لجودة ما يصنعه.

جانب-من-ادوات-يصنعها

في-بيته-يصنع-مشغولاته-بادوات-بسيطة

يحافظ-علي-حرفته-وهو-في-شيخوخته

يروي-قصته-لمحرر-اليوم-السابع

يفتخر-بإنتاجه

يقوم-يتصنيع-الدلال-واواني-الشاي
Trending Plus