عن الاحتراق بالنيران الصديقة.. الطوفان وجذور الاشتباك بين إسرائيل وإيران

بتسمية مُستدعاة من العهد القديم/ الأسد الصاعد، يسير نتنياهو على ذات الطريق التى سلكها الأوائل إبّان السبى البابلى؛ إنما بنكهةٍ تُشبه تقويم الماضى بأثر رجعى. وفيما أُعيد اليهود إلى فلسطين التاريخية قديمًا بمنحة من قورش الفارسى؛ فإنَّ أحفاده اليومَ صاروا هدفًا لأحفاد المَسبيِّين.
يمكُر التاريخ بالجغرافيا كعادته، كلَّما تمكنت الأيديولوجيا من تحريف الرواية أو إعادة تكييفها. حتى محطّة الثورة الإسلامية؛ لم تكن إيران عدوًّا لإسرائيل، والعكس أيضًا حتى سقوط عراق صدام.
فالثابت أنَّ الصهيونية دعمت الشيعية المسلحة فى مُفتتح حرب الخليج الأُولى، وأمدّتها بمبيعات أسلحة بنحو 500 مليون دولار تقريبًا، تحصَّلت على مُقابلها عبر شحنات نفط نُقِلَت من الجمهورية إلى الكيان.
كان العدو مُشتركًا فى مرحلة ما، وعندما أُطيح من المشهد خلَتْ الساحة للأُصوليِّتَين؛ فوجدتا نفسيهما اضطرارًا فى الميدان، خصمين يقفان لبعضهما وجهًا لوجه.
لا تخلو السردية السابقة من ثغراتٍ قطعًا؛ لا سيَّما أن طهران وطّدت صلاتها سريعًا مع الجناح الثانى للبعث فى سوريا، ورَعَتْ إنشاء حزب الله وتقوية دعائمه.
وبهذا؛ بدَتْ الصورة مُركَّبةً ومُربِكَةً، وشديدة التعقيد منذ البداية: إسرائيل تدعم الملالى ضد بغداد وتتصدَّى لهم فى الشام ولبنان، وهُم بدورهم ينتفعون من خصومتها مع خصومهم، ويختصمونها فى بيئات الحلفاء.
وكان بالإمكان أن تمضى التوازنات وفقَ تلك الصيغة الهشَّة وعميقة التناقض؛ لولا أن الولايات المتحدة أطلقت رصاصة الرحمة على النظام العراقى، فأخلَتْ الساحة للجمهورية الإسلاميَّة ومنحَتْها بلاد الرافدين على طبقٍ من ذهب، والتَأم الهلال الشيعى للمرَّة الأولى قبل ما يزيد على عقدين، وتعاظم طموحُه لأن يصير بدرًا يملأ سماء المنطقة، ويُظلِّل أرضَها بالكامل.
مشكلة الإقليم أنَّ حوادثه مشبوكة فى سلسلة حديدية لا تنقطع حلقاتها، وكلّ واحدة تجرُّ لسابقتها بمزيج من البواعث المُستجَدّة والخبرات القديمة.
وفيما تبدو الأزمةُ الراهنة ناشئةً عن «طوفان السنوار» بخِفَّته واندفاعته الرعناء؛ فإنها تظلُّ مُحصِّلةً لسياسات الصهيونية النازية شديدة التوحُّش، وقبلها استدراج طهران بالاتفاق النووى وبالانسحاب منه، وانقلاب حماس على السلطة انفرادًا بحُكم غزَّة، وحرب يوليو 2006 بين الحزب والاحتلال.
وذلك مرورًا باغتيال الحريرى، واستبدال الوصاية الإيرانية على سوريا بالسورية، ونقل السلطة فى دمشق من الأسد الأب للابن، وقرار الحاكم الأمريكى بول بريمير بتصفية الجيش العراقى الأقوى فى الإقليم.
يُمكِنُ التأريخ للدوَّامة باللحظة التى أقلعت فيها طائرةُ الخمينى من باريس لتحُطّ فى طهران، وقبلها اشتراك تركيا وإيران فى «حلف بغداد» المُضادّ لخطاب القومية العربية المتصاعد وقتها، وثورة مصدق، بل واختراع إسرائيل من عدم.
والأخيرة وثيقة الصِّلَة بالحرب العالمية وانحلال الامبراطورية العثمانية، وبالانتداب البريطانى وسايكس بيكو والثورة العربية الكبرى. وهَلُمّ جرّا إلى إحباط مشروع محمد على، وابتلاع الإقليم لصالح عرقية الأناضول بعد قرونٍ من قوميَّة دينية مُلفَّقة.
إنها حروب الماضى البعيد، ما تزال حيَّةً وتتنفّس فى الحاضر، ومن رئات بشرٍ يعيشون ثورات العلم والتحضُّر، وتحتلُّ أدمغتَهم أفكارُ النقاء والحقوق التاريخية التى لا تتقادم.
توهَّم الصهاينةُ وأوهموا العالم بأنهم عائدون لإرث الأجداد، والملالى وضعوا العِمامةَ لتغيير الهيئة والصِّفَة؛ لكنهم يبحثون عن الاستحقاق الفارسى المغصوب منذ زمن العباسيين، ولا مانع من ابتعاث العثمانية فى صيغة جديدة، تُناور بالأُصوليَّة الحركيَّة حينًا، وبالشعارات الأخلاقية أحيانا، انتظارًا لأن يسقط التُّفّاح فى حجرهم كما جرى فى تجربة الجولانى أخيرًا.
وإذ يتعيَّن علينا أن ننفَكّ من أَسْر الوقائع الرَثّة بتواريخها البائدة؛ فلربما يستحيلُ أن نستوعب انغلاقَ اليوم من دون الإبحار العكسىِّ فى الزمن، وتَتَبُّع جذوره البالية فى الأمس البعيد.
المسألة اليهودية أكبر من فلسطين وأبعد، وكذلك المسألتان الفارسية والعثمانية، وقد يكون العرب وحدهم مَنْ تحلّلوا من الرواسب؛ لكنّه انفكاكٌ أقرب إلى افتقاد الذاكرة، والسير فى الغابة على هَدى الأمانى والتوهُّمات، ومن دون خرائط تفصيلية للوقائع المُتكرِّرة، أو اعتبار بها، وضمانة للإفلات من تكرارها الثقيل؛ حتى لكأنهم كُرةٌ يتقاذفها اللاعبون، وكلَّما تبدّلت الأقدامُ اعتبروها مُباراةً جديدة تمامًا، بينما لم يتغيَّر الملعب، ولم تُحسَم المُنافسة المُعلَّقةُ لقرونٍ خلَت.
يبدو درسُ التاريخ كئيبًا، ويُفهَم تمامًا أن يراه البعض رطانةً فارغة، وفى غير سياقٍ أو أوان مُناسِبَين؛ لكنها الحقيقة التى لن تُبدّلها المشاعر، ولن يختلف جوهرُها باختلاف موقعك فى المُدرَّجات، وهُويَّة الفريق الذى كُنتَ تُشجِّعه وصِرتَ تهتفُ لغيره.
والضرورة والواجب يقتضيان المُفاضلةَ قطعًا بين المشاريع الضارّة، وانتقاء أقلّها ضررًا؛ لكن المأساة لن تنتهى حالَ الاكتفاء بالانحياز والمُجافاة، ومن دون التوصُّل إلى مشروعٍ إقليمىٍّ بديل. وبهذا؛ فأكثر ما يُتاح لنا اليومَ أن نتخيّر موقعنا من الخسارة، لا أن نحلُم إطلاقًا بأن نكون فى زُمرة الرابحين.
مُناسبة الكلام بطبيعة الحال ما يتأجَّج من اشتباكٍ ساخن وصاخب بين طهران وتل أبيب، ولا حاجة لاستعادة المُقدِّمات واقتفاء أثر التطورات؛ لأنها باتت معلومةً للجميع بعد نحو ثلاثة أيام من المُتابعة، كما أنها تتبدَّل وتختلف معالمها فى سباقٍ محموم مع الوقت.
أغارت إسرائيل على إيران، وردّت الأخيرة فى أعماق تل أبيب، والجولة مفتوحة على كلِّ الاحتمالات إلَّا أن يصير الإقليم أفضل بالطبع.
لا المُعتَدِى يريده هكذا ولا المُعتَدَى عليه، وهما لا يتساويان بالتأكيد لدينا، لكنَّ نتائجهما تتساوى سواء اعترفنا بهذا أم أنكرناه.
أُصوليَّة أصيلة ومُتجذِّرة فى المنطقة وجودًا وثقافة، وأخرى دخيلة تُزيِّف وجهًا حضاريًّا، وتنوب عن امبرياليّة رحلت جسدًا وبقيت بالظل والأثر. وكلاهما تشدُّ الجغرافيا للوراء، وتسعى لتجميد الزمن عند نقطةٍ بعينها من التاريخ.
العُقدة وجودية دون جدال؛ لكنها تُمنَح صفاتٍ تكتيكيَّةً واستراتيجية للتعمية والإخفاء. أزمة إسرائيل مع إيران لا مشروعها النووى فحسب، كما أن تناقُضَ الأخيرة مع وجود أجندة مضادة لها من المادة نفسها، وليس انفلات الاحتلال أو قضية فلسطين العادلة.
الابتعاد بعد التقارب، أو لنَقُل العداوة الصارخة بعد حيادٍ رمادى، كانت خطوة على طريق التدرُّج وترتيب الأولويات، ما يعنى أنَّ الصدام كان واقعًا بينهما لا محالة، ولو لم تتطلَّع الجمهورية الإسلامية لامتلاك قوّة الذرَّة، أو احترمت الدولة العبرية اتفاق أوسلو وتركت أطواره للاكتمال وصولاً إلى دولة فلسطينية مستقلة.
ولا برهان أوضح من قول وزير الخارجية الإيرانى السابق حسين أمير عبد اللهيان، إن المشترك الوحيد الذى يجمعهم بالصهاينة هو الرفض المطلق لعنوان «حل الدولتين».
ما نزال فى مفتتح الجولة، ويصعب التنبؤ بتصاعدها وما قد تؤول إليه. الفارق شاسع بين التحليل والتنجيم، والقلوب مقفولة على نوايا أصحابها.
وحتى مع اتساع الهوّة فيما يخص القوة والتوازنات؛ فإن عوامل التأثير فى المشهد مُتعدّدة، ولدى كل طرف من الأوراق ما يسمح له بتغيير مسار اللعبة فى أية لحظة.
إسرائيل لديها تصوّر كامل عمَّا تبتغيه ولن تتنازل عنه، وهو شِبه مُعلَن بالمناسبة، أو أغلبه على الأقل؛ لكن اللمسة الأمريكية تظل أعمق أثرًا وأقدر على ضبط المعادلات أو إرباكها، وتعاطِى سُلطة المرشد الأعلى مع المستجدات يمكن أن تدفع السياق لحافة الهاوية، أو تستدرك على نفسها وتجذبه قبل الوقوع فيها.
وتلك الفاعلية لا تتولَّد عن مقدرة أو كفاءة، وقد بدا الانكشاف عميقًا وضاربًا فى النخاع؛ بل تحدّها القدرة على قراءة الرسائل فى وقتها، وصياغة أفضل الردود المُمكنة باتّزانٍ محسوب، دون إفراط ولا تفريط. الهشاشة مُضرّة للغاية، والتصلُّب الزائد أيضًا.
حتى قبل ساعات من الضربة، كان ترامب يُلوّح بها على سبيل التهديد؛ لكنه يقول صراحًة إنها ليست وشيكة. وعندما سُئل بعد وقوعها عن طبيعة الإخطار الإسرائيلى لإدارته؛ استنكر السؤال نافيًا أن يكون إخطارًا، بل علم كامل بالتفاصيل.
وعليه؛ فقد سُكِّنَ الرجلُ فى دور درامى ضمن مسرحية الخداع والتضليل، وكان شريكا مباشرا فى الهجمة من دون شك، وما الإنكار إلا محاولة لتجنيب الأصول الأمريكية بعيدا من باقة الأهداف الثأرية، واستبقاء مسربٍ جانبى تنفذ منه طهران إلى طاولة التفاوض مُجدَّدًا، بأنف نازف وجاهزية للخضوع وتقديم التنازلات.
المشكلة هنا أنَّ ما تقبله طهران لا يُنقذ، وما يُنقذ غير مقبولٍ قطعًا. وأيضًا أنَّ ما يُرضى الرئيس الجمهورى، قد لا يكون كافيًا أو مقنعا لزعيم الليكود وحكومته.
أى أنَّ مصير النظام الإيرانى بات مُعلَّقًا على خط للاتصال بين واشنطن وتل أبيب، ولعل طهران آخر المتحكمين فيما يخصها للأسف.
لديها مساران مُكلّفان ومُؤذيان أيضًا، والذهاب لأحدهما ليس خالصا تماما من أعباء الآخر: مجاراة رغبة الحرب لدى نتنياهو مع تصاعد الكُلفة وتآكل فرص التفاوض ومزاياه، أو الاحتكام للدبلوماسية مع ترامب، بما يترتب عليها من إقرار ضمنى بالهزيمة والعجز، وإغراء مفتوح للعدو الهائج بمزيد من الإغارات المُوجِعة ماديًّا، والمرهقة بدرجة أكبر على صعيد الصورة والسردية وخطابات الكرامة والكبرياء.
انصرفت العملية الإسرائيلية إلى الجانب النفسى بدرجة أكبر من غيره. صحيح أنها طالت أُصولاً مادية، ولم تُوفِّر ما يمكن اصطياده من مُكوِّنات البرنامجين النووى والصاروخى؛ لكنها وجّهت القدر الأكبر من نيرانها إلى الأيديولوجيا لا العناصر الصلبة.
لهذا استبعدت حكومة بزشكيان تماما حتى َوزير دفاعه، بينما اغتالت رئيس أركانه بين زمرة من قادة الحرس الثورى وأجنحته القوية. استُبعد المرشد أيضا لأسباب لا يمكن الجزم بها؛ لكنها غالبا لا تخرج عن الرغبة فى تعكير الماء، وإثارة الارتياب بين الجميع.
وإلى ذلك؛ فإنها ركزت على الإرعاب أكثر من الإيلام، وعلى تحقيق السيادة الجوية بدلا عن الدمار الملموس بوحشية وفجاجة؛ ليكون ذلك سبيلا إلى ضرب التماسك المجتمعى أولا، والأهم منه فتح طريق دائمة للذهاب والإياب واللعب فى السماء الإيرانية دون رادع.
والإشارة الموجبة للتوقف؛ أن إسرائيل حسبما أعلنت فى ضربتها السابقة مطلع أكتوبر الماضى، تمكنت من تدمير الدفاعات الجوية أو إعطابها بالكامل.
وعندما تدفع اليوم بنحو مائتى مقاتلة فكأنها تتحرك عن ثقة واطمئنان، ما يعنى أن الجمهورية الإسلامية لم تتمكن طول تسعة أشهر من تعويض خسائرها السابقة، وما أُضيف إليها اليوم سيحتاج بالضرورة إلى مضاعفة فترة الاستعادة والترميم.
وتلك نقطة الخطر الأكبر؛ لأن الفواقد لا قيمة لها طالما كان التجديد متاحا، أما مع افتقاد القدرة على ذلك فإن كل جرح يمكن أن يصير قاتلا، ولا أحد يستفيد من إطالة الصراع سوى الطرف القادر على ملء خزانه كلما يفرغ. فالاستدامة أهم من الكثافة؛ مهما بدت ردود إيران الثأرية قوية ومرعبة وتعجب الناظرين.
وما يعزز فكرة الحرب النفسية، أن الصهاينة بادروا بإعلان تفاصيل ليس من الطبيعى أن تُعلَن فى حماوة الحرب، ونشروا مقاطع مصورة لخلايا تابعة للموساد على الأرض، تُحرّك مُسيرات مفخخة أو تؤشر على الأهداف المقصودة بأشعة الليزر.
والغاية هنا أكبر من المخاطرة بلفت الأنظار إلى محطتهم الاستخبارية؛ فالرسالة الأهم أنها حرب من الداخل، وحدود التغلغل والاختراق فوق الوصف، ومن أثر ذلك أن تشيع الرهبة فى النفوس، ويشك الجميع فى الجميع، وهذا لا يخلخل الجبهة فحسب؛ بل يُبطئ إيقاع العمل أيضا.
إذ كلما التقى اثنان أو أكثر سيحجز التحفظ مقعدا على الطاولة، ويهجس الفرد بتخوين المجموع والعكس، وتغيب الأريحية والمبادرة عن ورشة التفكير واتخاذ القرارات. أصابع الاتهام تؤشر لكل شخص بلا استثناء، بلا استثناء فعلا، وتلك وصفة مثالية للجنون والاحتراق النفسى.
استعادت مواقع التواصل بعد الضربة الأخيرة مقطعا للرئيس الإيرانى الأسبق أحمدى نجاد، يقول فيه إنهم عندما أسسوا وحدة لتتبع أنشطة التجسس الإسرائيلية، اكتشفوا لاحقا أن مديرها المختار عميل للموساد.
اعتراف على أعلى مستوى بالنفاذ إلى الطبقة العليا من القيادة؛ صحيح أنه يعود للعام 2013 على أقرب تقدير، وربما حملت السنوات التالية إجراءات وتدابير لسد الثغرات؛ لكن الوقائع توحى بالعكس للأسف.
وذلك عبر مسلسل طويل ولم يتوقف من اغتيالات العلماء، وسرقة وثائق المشروع النووى وإخراجها على شاحنة من قلب العاصمة، مرورا بتصفية قائد حماس إسماعيل هنية فى أحد المعاقل الأمنية الحصينة قبل أقل من سنة، ووصولا إلى اصطياد الرؤوس الكبيرة فجر الجمعة، وبعضهم أُخطروا على هواتفهم باجتماع رفيع فى أحد المقرات السرية، ليُقتلوا دفعة واحدة بمجرد وصولهم واكتمال عديدهم تحت الأرض.
ما جرى مجرد تمهيد؛ وليس ذروة التصعيد. عملية تأهيل لإفساح الطريق لمزيد من حرية الحركة، وتحقيق الردع النفسى، وتثبيت تحذير بعلم الوصول بأنه لا أحد فى مأمن؛ ما يجعل البدلاء تحت ضغط دائم، ويحولهم إلى أيادٍ مرتعشة، بجانب ما يحيط بهم ويحيطون به غيرهم من هواجس العمالة والخيانة.
والرهان غالبا على تسييل البيئة التى كانت متماسكة، ونقض ثوابت المشروع بتعريتها فى قلبها الحصين. ربما لهذا خرج نتنياهو مخاطبا الإيرانيين بالإنجليزية، على أمل تثوير الشارع وتأليبه على النظام. يغيب عنه بالطبع المكون الحضارى لدى القومية الفارسية، وأنهم ليسوا خونة ولا انتهازيين بالسليقة، ومهما اختلفوا على الملالى فإنهم لا يساوونهم بالصهاينة.
تلك المقاربة قد تعزز التماسك بدلا من خلخلته؛ لكن المخاطر تظل قائمة أيضا، بالنظر إلى الفسيفساء غير المتجانسة على امتداد الجغرافيا الفسيحة، وأخلاط المعارضة من أقلها عداء إلى أعلاها صوتا وجاهزية لرفع السلاح مثل مجاهدى خلق، والعامل الأهم أن مظالم السلطة ثقيلة الوطأة حجما وزمنا، وربّت جيوشا من الخصوم والغاضبين.
علّة إيران فى داخلها بالدرجة الأكبر، لا سيما مع صعوبة لململة الشتات واستعادة اللحمة فى فاصل ضيق، وتحت أزيز الطائرات.
أفرطت إيران فى التمدد وتنويع الأطراف، دون تقوية المركز. أغرتها استراتيجية الدفاع المتقدم باستبعاد إقليم فارس من المعادلة، واعتبرت أنها لن تُضطر إلى التقهقر لما وراء حدودها والاعتصام بها.
تعملقت بفضل استراتيجية المحور الممانع، وتُهزَم بها اليوم، فى تكرار للعنة القوة عندما لا تكون بصيرة أو منضبطة ومتعددة الطبقات. والحال؛ أنها تقع راهنا فى أسوأ فخ ممكن: تساوى المسارات والاحتمالات. إن صعّدت فكأنها تستحث العدو على المزيد وتمده بالذرائع، وإن ارتدعت ففى ذلك تسليم مجانى وتضعيف للخسائر حربا وسياسة.
بينما يجلس ترامب على رأس الميدان مرددا نظرية تيودور روزفلت: «تحدث بهدوء واحمل عصا غليظة». وقد اختار أن تهوى عصاه بيد نتنياهو؛ لكن المحصلة واحدة، فليس بالإمكان مواصلة الصدام دون نهاية، ولا العودة إلى التفاوض من النقطة السابقة. وفى الحالين؛ الخسارة أكبر مما مضى
تتطلع واشنطن لصفقة جديدة أكثر تشددا من اتفاق 2015؛ لكن أهداف تل أبيب تخطت ذلك بكثير. كان نتنياهو قد أغرى ترامب بنقض النسخة السابقة فى 2018، وفيما راهن الأخير على استجلاب طهران للطاولة من زاوية أكثر تشددا، يتأكد اليوم أن الأول استدرجه ليكون جنديا فى خطته لإغراء الملالى تمهيدا للإجهاز عليهم وكسرهم.
تسارع البرنامج النووى من وقتها، ودارت ماكينات الشيعية المسلحة فى الإقليم طولا وعرضا، فيما كانت غريمتها تستعد وترتب الأوراق والأهداف والإمكانات، ولم تكن فى حاجة لأكثر من شرارة، وفرتها حماس تطوعا بالطوفان، واستثمرها قصدا بتحييد الحزب والحشد العراقى وإطاحة الأسد، وها هو يتفرغ للهدف الأسمى الذى لم تنصرف عينه عنه منذ عقدين أو يزيد.
قُطِعت تذكرة رحيل النظام خريف العام الماضى: باغتيال نصر الله، ثم ضربة أكتوبر، واتفاق وقف الحرب مع الحزب ومن بعدها تصعيد الجولانى فى دمشق. استُثنى خامنئى غالبا ليكون المرشد الأخير؛ وعندما تصل إليه الرصاصة فقد تكون إشارة إلى تفعيل المرحلة الأخيرة من المخطط.
كل ضربة إسرائيلية تستدعى ردًّا، وكل ردٍّ يُجدد الذريعة، ويكشف للأقمار الصناعية ما خفى من منصّات الإطلاق ومخازن الصواريخ. والأرباح بلا حساب: تقويض الخصم الأشرس، مع مواصلة الإجهاز على أذرعه، والتشغيب على المسار السياسى فى فلسطين، وآخر حلقاته إرجاء ماكرون لمؤتمر حل الدولتين.
مُورس الابتزاز النفسى على باريس، واستُدعى الخطر البعيد لتضخيم الخطر القريب؛ فكأن إيران صارت فزّاعة تتكفل بإبعاد حلم الدولة المستقلة.
سيُترك إنهاء النظام للتفاعلات الداخلية فترة؛ ثم يُطاح من الخارج حالما تطول المهلة أو تتعثّر التجربة. وهامش خامنئى فى الظروف والمدى، لا فى المآل والخلاصات. والمعنى؛ أنه كلما تآكلت فاعلية الردع مع الاستنزاف، تتضاعف الخلخلة الداخلية ويزداد هامش التداعى.
لم يقدم النظام تجربة تنموية محمودة، والإخفاق فى مدار البأس لن يُجنّبه غضبة الناس؛ ولو حُيِّدت قليلاً بحرج التلاقى مع أهداف العدو. وهم السلطة الدينية عن نفسها يتناسب عكسيا مع فرص النجاة والبقاء، ووحشية العدوّ ودأبه ليسا فى حاجة للتأكيد؛ بل للتحوّط والمبادرة المضادّة الناضجة.
تشوّهت الجمهورية بالولائية، و»جغرفة» الثورة والمذهب. والعودة مُكلّفة بقدر ما كان من تكاليف فى الذهاب. اعتراف فاعتذار وتصويب، وخروج من الأيديولوجيا إلى الدولة الطبيعية، وتلك ليست سهلة لأنها تتصادم مع أُسس المشروع وفلسفته بالأساس.
من غير المرجح أن تقوّض الضربة الإسرائيلية الأخيرة مشروع إيران النووى. ربما ينتكس؛ لكنه لن يتهدّم. المعرفة لا تضيع، والكهوف العميقة ليس أكثر منها. كما أن امتلاك السلاح لا قيمة له فى غياب الثالوث، وبرنامج الصواريخ يحبو، ولا قدرة على الوصول من البحر والجو. تُضَخّم المسألة لأغراض تتخطّى المُعلَن، وتتقصّد نظام التشغيل لا «الهارد وير».
وفى ذلك؛ يعرف الأمريكيون وحلفاؤهم أنه لا سبيل لإنهاء الخطر إلا من منابعه، بمعنى تأهيل نظام بديل ينطلق من رؤية مُغايرة، ويُقدم على الانخراط فى مسار مُحدَّد له، ولا يستنكف تقديم التنازلات المطلوبة منه. وإن كان من فرصة لاستثمار ما يجرى؛ فأن يُثار ملف النووى الصهيونى على الطاولة، ولا ييأس رافضوه من الانحياز الغربى، ومن الحديث فى البديهيات مهما بدا استهلاكيا وغير مثمر فى نظر البعض.
مهما زِيد فى الكلام عن تقلّص زمن الاختراق، وقدرة إيران على امتلاك قنبلة فى أسابيع أو شهور؛ فإنه يظل غبارا يُعمّى على غايات أُخرى. السلاح يُعسّر الاستهداف، ولا يُيسِّر للملالى تكسيح الآخرين، وهذا ما لا يُريده نتنياهو. يُجهِز عليهم اليوم؛ لكى لا يستحيل ذلك غدا. يقبض على فرصة «الطوفان» ويريد اغتنامها لآخرها. طعن المحور نفسه للأسف عندما لم يحسب خطاه، أو رحّب بكل نارٍ صديقة واحتضنها؛ دون وعى بأنه قد يكون أوّل المُحترقين بها للأسف.

Trending Plus