أخبار الزمان.. ما يقوله المسعودي عن كنعان بن حام بن نوح

المعرفة ليست ضارّة، وليس من الضروري أن نُصدّق كل ما نعرفه، لكنها، بصورةٍ ما، تُفيدنا في فهم طرق التفكير، لذا، أحب العودة إلى قراءة كتب التراث والتأمل فيما تحمله، خاصة كتب التاريخ، التي تُسلّط الضوء على بدايات الحياة على الأرض. ومن هذا المنطلق، نقرأ معًا ما كتبه المسعودي في كتابه أخبار الزمان:

ذِكر كنعان بن حام

هو أكبر أولاد حام، وهو أول من غيّر دين نوح عليه السلام، وألقى العداوة بينه وبين بني جده من الجبابرة والكنعانيين الذين كانوا بالشام، ويُقال إن فراعنة مصر منهم، وجالوت الذي قتله داود عليه السلام منهم أيضًا. فهؤلاء هم العمالقة، لأن العمالقة من وُلد حام. ومن هؤلاء الكنعانيون الذين قاتلهم موسى عليه السلام ويوشع بن نون من بعده، وهم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾، وكانت خِلقتهم عظيمة.

ويُقال إن كنعان الأصغر رتّبهم في نواحي الشام والجزيرة، ومن وُلده: فوسطن، وصبرا، ونهما، وسمساوس، ومن ولده نبيط، والنبيط هو "السواد"، وقيل سُمّوا بذلك لأنهم استنبطوا الأرض وعمّروها، وكانوا أهل عمارة وتدبير.
ومن وُلد "سودان بن كنعان" أمم كثيرة، منهم الأشبان والزنج وأجناس شتى تناسلت بالمغرب، نحو سبعين جنسًا، وهم مختلفون في أفعالهم، ولهم ملوك.

منهم أجناس يلبسون الجلود وهم عراة، ومنهم من يتّزر بالحشيش، ومنهم قوم يجعلون لرؤوسهم قرونًا من عظام الدواب، وعندهم فأر أبيض يأكلونه ويُسمّونه "مَنّ السماء".

ويتزوج الواحد منهم عشر نساء، يبيت كل ليلة عند اثنتين منهن، فإن جامعهن على ما يحبّون، وإلا طلقهن الملك بعد الليلة الثالثة.

وربما أصابتهم المجاعة، فإذا أرادوا الاستسقاء، جمعوا عظامًا وكوّموها كالتل، ثم أضرموها نارًا، وداروا حولها ورفعوا أيديهم إلى السماء وتكلموا بكلام معين، فينزل المطر ويسقون.

فإذا تزوّج أحدهم لطخوا وجهه بشيء يشبه الحبر، ثم أجلسوه على تل، وأجلسوا المرأة قبالته، وصنعوا قُبّة من القصب وغطّوها بالحشيش، وأقاموا حولها ثلاثة أيام يشربون نبيذ الذرة ويلعبون، ثم ينصرفون، ويأخذ الزوج امرأته إلى مسكنه.
ويلبسون حلق النحاس في أيديهم وآذان نسائهم، ويُحمل إليهم "الكرداونية" المصبوغة بالحمرة، يلبسونها، ولا يلبسها إلا الملك.

ولهم شجرة عظيمة يعملون لها عيدًا كل سنة، يجتمعون عندها، ويلعبون حتى يسقط ورقها، فيتبركون به، ويُزيّنون المرأة بحلق النحاس والودع في شعرها.

ومن وُلد "سودان" الكركر، وبه سُمّيت المملكة، وهي أعظم ممالك السودان وأجلّها قدرًا، وكل ملك منهم يعطي ملك الكركر حق الطاعة، وتنسب إليه ممالك كثيرة.

ومملكة "عانة" وملكها عظيم الشأن، وتتصل ببلاد معادن الذهب، وفيها أمم عظيمة. ولهم تقليد في البيع: إذا جاءهم التجار، وضعوا الأمتعة على خط مرسوم، ثم ينصرفون. فيأتي السودانيون، ويضعون الذهب مقابله. فإن رضي التجار أخذوه، وإلا تركوه، فيزيدهم السودانيون حتى تتم المبايعة، كما يفعل تجار القرنفل.

وربما عاد التجار بعد انصراف السودانيين خفية، وأضرموا النيران في الأرض لتسيل الذهب فيأخذوه، ثم يهربون، لأن الأرض عندهم كلها معدن ظاهر من الذهب. وإن فطن لهم السودانيون، طاردوهم، فإن أدركوهم قتلوهم.

وفي صحاريهم معادن "الأشبار"، وهو ذهب يكبر حتى يظهر كالخَصى الظاهرة في الرمل. وكل ما يحصل عليه التجار يُضرب في مدينة سجلماسة، وهي مدينة كبيرة فيها أربعة جوامع، ويُضرب فيها الدنانير، وتشتهر بكثرة النخيل.

وتحت يد ملك "عانة" ممالك كثيرة، فيها الذهب ظاهر على الأرض، يستخرجه أهلها، ويجعلونه كقوالب اللبن.

ومن الأجناس المشهورة: ملك "الدهدم"، ويسار إليه من كركر على شاطئ البحر مغربًا. هؤلاء يأكل بعضهم بعضًا، ولهم ملك عظيم، وله قلعة كبيرة على هيئة امرأة، يُقدّسونها ويحجّون إليها.

ومملكة "الزغاوة" كبيرة، تقع على النيل مما يحاذي النوبة، ويحاربون النوبة.

ومملكة "توان" كبيرة، وفيها آبار يُوجد فيها "مومياء" تتحرك كأنها الزئبق. تقع في بقعة مساحتها نصف ميل، عليها حصن. ويستعمل أهلها هذه المادة.

وتُعرف البقعة باسم "مغرا" من الصحراء.

أما ممالك النوبة، فهم من وُلد "نوب بن قوط بن مصر بن حام"، ولما قدم جدهم إلى مصر مع "مصر"، ومات الأخير، بقي بنوه. تولّى "قبطم" الأمر بعده، وثبت القبط في مصر. ووجّه "قبطم" إخوته للبحث عن ممالك وعيش، فخرج "نوب بن قوط" بأهله، وسار على عبر النيل فملك هناك.

مدينتهم الكبرى تُسمى "دنقلة"، وبلادهم بلاد نخيل وزرع، مساحتها شهران، وهم نصارى على مذهب اليعقوبيين.
وتتصل بهم مملكة أخرى من جهة الصعيد، وهم أعظم ملكًا وأصفى لونًا، ومدينتهم تُسمى "دخلولة"، وهم أيضًا نصارى، وملكهم جليل، ولهم لباس وأساورة من الذهب، ويظهر الذهب عندهم على الأرض، ولديهم نخل وكروم، وهم أجناس كثيرة.

مملكة البجة: تلي النوبة، وهي ممالك عديدة بين النيل والبحر. في كل مملكة ملك. أول ممالكهم من جهة السودان، وهي آخر بلاد المسلمين، ويعمل المسلمون عندهم في المعادن. ووراء ذلك ممالك ومدن.

الحبشة: وهم من ولد "حبش بن كوش بن حام". وأكبر ممالكهم "مملكة النجاشي"، وملكهم على دين النصرانية، واسم مدينتهم الكبرى "كفر". وكان العرب قديمًا يقصدونها للتجارة.

مملكة الزنج: على البحر المالح، لهم ممالك واسعة، وهم من ولد "سودان بن كنعان". ملكهم الأكبر يُدعى "كوخه"، في موضع يُسمى "نكد" على البحر. يحدّون أسنانهم حتى ترق، وهم كبار الأفواه نظاف الثغور رغم كثرة أكلهم السمك.
ولهم أفيال يبيعون أنيابها، وجزر يخرج منها "الودع"، ويتحلون به ويبيعونه. وهم أجناس كثيرة.

الكوكة: أمة لهم أربعة ملوك، ملكوا إلى "أيلة" الحجاز، وبنى كل واحد منهم مدينة باسمه. جعلوا سائر الأرض خيامًا، وقسّموها إلى ثلاثين كورة، على أربعة أعمال، لكل عمل ثمانون كورة، ولكل عمل ملك يجلس على منبر من ذهب. في كل عمل "بربا" (بيت حكمة) وهيكل لكوكب، وفيه أصنام من ذهب.

وكانت الإسكندرية لهم، واسمها "راقودة". جعلوا لها خمس عشرة كورة، وفيها كبار الكهنة، ونصبوا في هياكلها أصنامًا من الذهب أكثر مما في غيرها. وكان بها مائة صنم. وقسّموا الصعيد إلى ثمانين كورة على أربعة أقسام.

وكان عدد مدن مصر الداخلة في كورها ثلاثين مدينة، فيها من العجائب الكثير، مثل: أخميم، قفط، قوص، والفيّوم