بائعات الأسواق..صمود يومى من أجل الحياة..ماجدة:بكافح من ساعة ما ربنا خلقنى..أم على:ربنا بيقوينا عشان نربى العيال..هبة: الشارع علمنى إزاى أجيب الجنيه بالحلال.. وصباح كافحت بعد وفاة زوجها وربت أبناءها حتى الكليات

في زوايا الأسواق الشعبية، تقف نساء جئن من أحياء وقرى متفرقة، يشبهن الجبال في ثباتهن، كل واحدة منهنّ تحمل على كتفيها حكاية طويلة من الصبر والشقاء، يواصلن الكفاح بتلك الأيدي المتشققة التي لا تتوقف عن العمل، ويسابقن الوقت وقلوبهن مملوءة بالعزيمة والإصرار.
حكايات تنبض بالحياة كل صباح، حيث لا مجال للكسل ولا وقت للراحة، يخرجن من بيوتهن المتواضعة، يحملن سلال الخضار والفاكهة والجبن والبيض، يمضين بخطى ثابتة نحو السوق، يفترشن بضاعتهن تحت مظلة بسيطة أو على قطعة قماش مفروشة على الأرض، وفي صدورهن أعظم معاني الصبر والرضا.
على ناصية من نواصي الدرب الأحمر، تجلس ماجدة المرغني، صاحبة الـ75 عامًا، بوجه تكسوه التجاعيد، لكنها لا تخفي نورًا عجيبًا في عينيها، نورًا لم تطفئه السنين ولا تعب الشوارع. سيدة من زمن آخر، تشبه الأرض التي لا تتوقف عن العطاء، تقضي يومها بين الزبائن والمارة، تبيع ما تيسر وتشتري رضا الله وراحة ضميرها.
ماجدة المرغني بائعة بالدرب الأحمر
تقول ماجدة بصوت مبحوح من التعب السنين: "بشتغل وأكافح من ساعة ما ربنا خلقني"، كأن الكفاح كان فطرتها، وقدرها الذي قبلته بصبر ورضا.
فقدت زوجها مبكرًا، حين كان أولادها لا يزالون في عمر الحاجة والرعاية، لكن الأم لم تنهزم، بل وقفت على قدميها لتكمل الدورين معًا "الأب والأم": "جوزت عيالي.. 3 بنات وولد.. اشتغلت لما جوزي مات.. عشان الحياة مش سهلة".
يبدأ يومها من السابعة صباحًا وحتى الحادية عشرة ليلًا، دون كلل، رغم أن جسدها المُثقل بالسنين لم يعد يحتمل: "رجلي بتوجعني وتعبانة.. بس غصب عني بنزل.. الكفاح صعب.. بس كله علشان عيالي"، هكذا تصف وجعها الذي لا يُقارن بسعادتها حين ترى أبناءها مستورين.
ماجدة لا تملك رفاهية الراحة، ولم تعرف يومًا طريق التذمر، فكل يوم جديد هو معركة من أجل اللقمة الحلال: "قولت كتير تعبت.. بس هعمل إيه؟"، ثم تبتسم برضا: "أكتر حاجة بتسعدني.. لما أكون مرتاحة.. وبقعد قعدة الشارع دي واتحمل.. كله عشان عيالي".
أم علي بائعة في الدرب الأحمر
أم علي سيدة من تراب هذا الوطن، لا تملك سوى إرادة صلبة وصبر أم مصرية تعرف أن الكرامة لا تُهدى بل تُنتزع. أصلها من الفيوم، لكن سكنها استقر في الدويقة، ومن هناك إلى الدرب الأحمر، حيث أمضت 35 عامًا بين الأسواق والأرصفة.
لم تحمل شهادات، ولم تطرق أبواب الوظائف، بل طرقت أبواب السوق فجرًا، ومع كل وقفة على الرصيف كانت تضع حجرًا في أساس بيتها: "ربنا بيقوينا والحمد لله.. بشتغل بقالي أكتر من 35 سنة.. أول ما نزلت السوق كان عندي 20، وأنا دلوقتي داخلة على الستين.. بدأت ببيع شوية ليمون، بعدين شوية بصل وتوم، وربنا بيقوينا عشان نربي العيال وما نحتاجش لحد".
تربّي خمسة أولاد، اثنان منهم تزوجوا، وثلاثة لا يزالون في كنفها، ولأجلهم تحملت مشقة السنين: "اشتغلت بعد ما اتجوزت عشان أساعد جوزي ونعيش.. كنا بننزل مع بعض نروح العبور من قبل 3 الفجر ونوقف في موقف العاشر نستنى عربية تودينا هناك".
وجهها أسمر اللون من شمس الشوارع، ويديها خشنة من الصناديق والحِمل، لكن عينيها تحكي عن امرأة بنت العمر بالقوة لا بالدموع. لا تعرف الراحة، يومها يبدأ من الثالثة فجرًا ويستمر حتى الخامسة مساءً: "القاعدة دي صعبة علينا.. الواحد بيمشي ماسك ضهره.. بنتعب عشان ناكل لقمة حلال".
كل فجر تخرج فيه من بيتها، كأنها تعلن للعالم: "لن أستسلم، ما دام هناك أبناء ينتظرون الرزق والستر".. تحكي أن الشارع علمها كثيرًا: "الشارع علمني إزاي أتعامل مع الناس.. لازم نقاسي الحلوة والوحشة.. ونستحمل البرد والحر".
وعن أحلامها، تقول بنبرة ممتلئة بالرضا والحلم: "نفسي في كشك أتلم فيه من الشارع ومن الحر والبرد.. ونفسي ولادي يتجوزوا ويبقوا ولاد حلال ويسعدهم ربنا".
قضت عمرها تبيع الخضرة والمشقة، وتشتري باليومية كرامة وصبرًا، حتى تعود في آخر النهار: "الحمد لله دخلنا بالسلامة.. خسرنا أو كسبنا نشكر ربنا".
صباح ناجي بائعة في الدرب الأحمر
وسط صخب الدرب الأحمر، وبين حارات المغربلين المتعبة، تجلس صباح ناجي كأنها تنتمي للأرصفة التي صارت وطنًا وسندًا وذاكرة. ملامحها تحكي عن سيدة خمسينية أنهكها الزمن، لكنها ما زالت واقفة في وجهه بكرامة لا تهتز.
من الفيوم إلى القاهرة، حملت صباح وجعها على كتف، ورغيف العيش لأولادها على الكتف الآخر، هي أرملة منذ 18 عامًا، لم تبكِ طويلًا، بل "شدت" حجابها على رأسها، ونزلت السوق: "أنا بقالي 18 سنة بكافح وأنا قاعدة مكاني كده"، ترددها وكأنها تعيد سرد ملحمة عمرها، وهي تجلس على ناصية ضيقة، بجوار صينية جبنة قريش وبيض، لا تفصلها عن الطريق سوى قطعة قماش مهترئة تحجب شمس النهار وبرد الليل.
استقبلت الفقد مبكرًا، يوم رحل زوجها وترك لها ثلاثة أطفال صغار بلا دخل ولا مأوى، فقررت أن تكون هي العائل الوحيد: "مفيش حد يصرف عليا.. ولا يصرف على عيالي.. خدت القرار ونزلت أشوف لقمة عيشي ورزقي".
صباح لا تملك بيتًا، تعيش في غرفة إيجار وعلى معاش "تكافل وكرامة"، لكن كرامتها أكبر من أن تمد يدها لأحد. تنام في الشارع أحيانًا كي توفر أجرة الطريق من الفيوم، وتبدأ يومها من السادسة صباحًا حتى الثانية بعد منتصف الليل، كأن الزمن أصبح عدوها وحليفها في آن واحد.. تصف أكثر اللحظات قسوة: "أول ما جوزي توفى حسيت بالغربة والوحدانية.. مردتش أتجوز تاني.. عيالي كانوا صغيرين، ومكنتش قادرة أفرط فيهم.. لو سبتهم كانوا هيتبهدلوا".
كبرت صباح بألمها، وكبرت أيضًا بحمل أبنائها التي حملته على عاتقها طيلة السنين. واليوم الابن في تجارة، والابنة على مشارف التخرج من معهد التمريض، هذا هو حصاد صبرها.
اختتمت حديثها بحكمة أم لا تعرف الاستسلام: "أنا تعبانة ومريضة.. بس هعمل إيه؟ لو قعدت محدش هيصرف على عيالي.. نفسي أشوفهم مستورين.. نفسي في شقة أستقر فيها، وأجوز بنتي، مش عايزة غير الستر". وتابعت، بابتسامة منهكة: "ربنا يقوي كل ست زيي.. الست اللي في الشارع دي بـ100 راجل.. ولو بكيت، بكون بضحك قصادهم.. علشان ميحسوش بتعبي".
هبة إبراهيم بائعة في الدرب الأحمر
على بُعد بضع مترات، تجلس هبة إبراهيم ابنة محافظة القليوبية، وأمامها بعض الخضروات التي جمعتها فجرًا، تراقب تفاصيل الحياة كما لو كانت تحفظها عن ظهر قلب، بوجهٍ يحمل ملامح التعب لكن لا يخلو من الأمل.
تشق هبة، طريقها كل يوم من شبين القناطر، تفرش بضاعتها من الكوسة والبامية والبازلاء والباذنجان، وتظل ساعات حتى مغيب الشمس، لأن على كتفيها بيتًا صغيرًا ينتظر أن تعود ببعض الرزق: "من 25 سنة وأنا بكافح، من صغري وأنا بشتغل، كنا 5 بنات بننزل نشتغل في الأراضي، نزرع ونحصد، عشان نساعد أبونا وأمنا ونجهز نفسنا، الشارع علمني أكافح وازاي أجيب الجنيه لبيتي وعيالي بالحلال".
تعمل هبة بثبات امرأة اعتادت أن تصنع من كل يوم صمودًا جديدًا، وتعرف أن قوتها وقوت أسرتها يأتي من تعب اليد وعرق الجبين: "لما اتجوزت كملت شغلت ونزلت أبيع في الأسواق عشان أساعد جوزي في المصاريف وأوفر لعيالي احتياجاتهم، بعد فترة اتطلقت، ولكن الحمد لله كبرنا عيالنا وبنعلمهم، معايا أحمد في دبلوم، ومحمد بيشتغل في ورشة، وحبيبة في رابعة ابتدائي".
كل صباح هو معركة جديدة، لا تتأخر فيها عن الميدان: "بنزل من بيتي كل يوم الساعة 1 بليل، أتحرك على شبين، أتسوق وأجهز خضاري واجي على السوق في المغربلين وأبيع، وأذان المغرب أروح لعيالي، مفيش حاجة صعبة ومفيش حاجة اسمها عيب طالما بنسعى بالحلال، لما أرجع بيتي وأشوف عيالي عندي بالدنيا وما فيها، ونفسي ربنا يعيني وأعيش لحد ما أشوف عيال عيالي".
رغم ما تواجهه من صعوبات وتحديات يومية، اعتادت أن تسعى بشرف وتكافح بكرامة وتعتمد على نفسها وتصنع من القليل كثيرًا: "بتحمل الناس وتعب الشغل عشان أعيش أولادي وأجهز بنتي، وعيالي مايحتاجوش حاجة من حد ولما أموت يكون عندهم بيت ومعاهم فلوس ومستورين ومبسوطين، ربنا يعيني ويقويني ويقدرني أسعدهم، هفضل أكافح لحد ما أموت، وهفضل أشتغل وأدور وأجري على لقمة العيش وأي شغل يوفر لي رزق حلال".
Trending Plus