رحلة ثانية على طريق كربلاء.. حروب الثورة والصورة والاعتقاد من تل أبيب إلى طهران

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

حربٌ ولا حرب فى الوقت نفسِه؛ بمعنى أنها لم تُشَنّ أصلاً بغرض الحسم الكامل والنهائى، وتظلُّ مُرشَّحةً للتصاعد بقَصدٍ أو بخطأ غير محسوب.


تعرفُ إسرائيل أنها عاجزةٌ عن تحقيق الأهداف الكُبرى بمفردها، كما لا تستطيع إيران إحراز النصر فى مُواجهةٍ غير مُتكافئة أصلاً، ويُعمِّق من اختلالها أنها تُدفَع إليها دون إسناد حقيقى، فلا أذرع متقدمة ولا ظهير داعم.


مهمة الفاصل الساخن أن يُرتِّب طاولة السياسة، أو يُعبّد الطريق إلى ميدان القتال المُباشر، أمَّا المآلات فتظلّ مُعلّقة على كاهل اعتباراتٍ من خارج الجولة، وبعيدة عن متناول الطرفين.


كانت المُعادلة فيما مضى بين مَتنٍ وهوامش. إسرائيل على خطِّ التماس مع الظلال، أمَّا جسم الجمهورية الإسلامية فظلَّ بعيدًا وآمنا.


والمُعادلة بتلك الصورة لم تكُن مُرضيةً ولا مُطمئنة للصقور فى تل أبيب. كانوا يتطلَّعون لتغييرها؛ لكنهم لم يعرفوا إلى ذلك سبيلاً؛ حتى أتتهم الفرصة المثالية محمولةً على رياح غزَّة وأمواج طوفانها.


وبين عشيَّةٍ وضحاها؛ صار بالإمكان ربط الخيوط ببعضها، واقتفاء أثر الأقدام وصولاً إلى الرأس.


حُيّدت حماس تمامًا، وتبعها حزب الله، ثمَّ أُخلِيَت طريق الشام من بشّار الأسد، ووقف الغريمان للمرَّة الأُولى وجهًا لوجه.
أدمن الأمينُ العام الأسبق للحزب، حسن نصر الله، على التلويح بمُعادلته للردع: تل أبيب فى مقابل ضاحية بيروت الجنوبية. هكذا وُضِعَت جوهرةُ المشروع الصهيونى فى مُواجهةٍ مع جزءٍ ضئيلٍ من ساحةٍ رديفة للشيعية المُسلَّحة، وكان التكييفُ كافيًا لاستصدار حُكم الإعدام على الخطر القريب، والتطلُّع لِمَا هو أبعد وأخطر وأهمّ.


وبالمنطق نفسه؛ فلم يضع نتنياهو عاصمتَه تحت ضِرس المُرشِد، أو فى ثنائيَّةٍ مُباشرة مع طهران؛ ليُغامر بدمارها مجّانًا أو يرتضى من الغنيمة بالإياب.


وإذا كانت الصيغة السابقة مفروضةً عليه؛ فالبديل الجديد اختيارىّ تمامًا. والمعنى أنّه يتحمَّلُ عبءَ التجربة راضيًا، أو يستخدم أُصولَه الثمينة طُعْمًا فى شبكة الصيد، وتُحرِّكه أهدافٌ أكبر من حيِّز الدمار المشهود فى قلب الدولة العِبريّة.
للاستراتيجية الإيرانية أعمدةٌ ثلاثة: الأذرع، والنووى، والصواريخ الباليستية. وفيما كان الجميع ينظرون لها على القطعة، رآها الصهاينة دومًا فى بروازٍ واحد.


صحيح أنهم عطَّلوا أحد الأضلاع بشكلٍ شِبه كامل؛ ولو بَقِى الحوثيّون ظاهرًا، لكنهم لم يكونوا مُرتاحين لمُقاربة الولايات المُتّحدة للمسألة، وبحثها فى الملفَّات بمعزلٍ عن بعضها: يضربون فى اليمن ويصبرون على العراق، ويُركّزون على المفاعلات والتخصيب، بينما يتناسون الصواريخ أو يغضّون الطَّرف عنها.


ومن تلك الزاوية وحدها؛ يصحُّ القول إنَّ عدوان الاحتلال الأخير على إيران رأسًا لم يأتِ طلبًا للنصر الصريح، ولا بحثًا عن تثبيت مُعادلةٍ استراتيجيَّةٍ مُغايرة بالقوَّة الفرديّة العارية؛ بل ربما تكون أقصى غاياته أن يُعيد ترصيص العناصر إلى جوار بعضها، ويُجبر الحلفاء على النظر للمُفردات الإيرانيَّة مصفوفةً فى جُملة واحدة.


أفلح الاستدراجُ اليومَ كما كان سابقًا. استعار الصهاينةُ دأبَ نسّاجى السجَّاد من بلاد فارس، وتتّبعوا العُقدةَ بعد العُقدة لحين اكتمال اللوحة المُنبسطة فى خيالهم.


ضربة القنصلية فى دمشق ربيع العام الماضى كانت بمثابة دعوة للرقص، والردُّ على الردِّ فى أكتوبر حوّل المسرح إلى حلبة مُلاكمة، والراقصين لمُقاتِلين. أمَّا الاشتباك الراهن فإنه يُرقّى الذرائع، ويستثمرُها ويُنتج مزيدًا منها.


وإن كان الحديث عن خطورة الملالى مُجرَّد كلامٍ فى السابق؛ فقد صار واقعًا تضعُه فى عيون حُلفائها، وتُزايد عليهم بإخراج المارد من القُمقم، واستعراض صور التدمير والإرعاب المُتكرِّرة فى قلب عاصمتها ومراكزها الحيوية.


كأنها تقول للأمريكيين: كنتُ أكثرَ وَعيًا منكم، وأكثر بأسًا وثباتًا أقف هُنا رغم التكاليف الباهظة، وعليكم أن تُلاقونى على ما أريد؛ لأننا شُركاء أوّلاً، ولأنَّ لكم دورًا فى رعاية هذا الوحش المُخيف، أو الاصطبار عليه كلَّ تلك السنوات.


من مَنظور زعيم الليكود؛ أنَّ الجمهورية الإسلامية أثبتت خطورتَها من دون حاجةٍ للقوَّة النووية الفائقة. الصواريخ الباليستية تتكفَّل بالمهمَّة، ولن يعود الاكتفاء بكميَّة اليورانيوم ومستويات تخصيبه ضمانةً لعدم تكرار المخاوف وتعاظمها.
باختصار؛ العودة إلى طاولة التفاوض ستكون مشمولةً بما جُنِّبَ سلفًا، والتسوية يحكمها الوصول إلى نقطة اعتدالٍ لا يصيرُ معها التهديدُ مُمكنًا، سواء تحقَّق هذا بالسياسة أو الحرب.


وليست مُصادفةً أن تتسرّب المشاهدُ والبُكائيات للمجال العام، بل وتنشرها هيئةُ البثّ الرسمية نفسُها؛ مع ما يُعرَفُ، حاضرًا وتاريخًا، عن التحكُّم الإسرائيلىِّ المُفرط فى السرديَّة، وعن سطوة الرقابة العسكرية على الإعلام.


فى حروب الصورة، اذهَبْ مُباشرةً إلى الخَفىِّ الذى لا يُقال. والمُؤكَّد أن إسرائيل لا تُمهّد بدعايتها الكثيفة لإعلان الهزيمة، أو الخروج من قفص القتال.


تضربُ فتربحُ على الأرض، وتُضْرَبُ فتربح أيضًا فى بيئتها الداخلية ولدى الحلفاء. والغربُ بطابعه يرتكبُ الحماقات ولا يقبلُها على نفسِه وتابعيه، ويقصفُ عواصم الدنيا لكن لا تُقصَف عواصمُه.


وعليه؛ فالصهاينة كانوا يعرفون مُسبَقًا أنهم يلعبون مع خصمٍ قوىٍّ وعنيد، وأنَّ الثأر مُكوِّنٌ أصيلٌ فى عقيدة الجمهورية الإسلامية؛ لكنهم ارتضوا أن يتلقّوا اللكمات، وأرادوا أن يخرجوا على العالم بأنفٍ نازف.


وهكذا تنطفئ شرارة العدوان، ويصير الاشتباكُ سجالاً يتيمًا لا يُسأل عن صانعه، وتتولَّد الذرائعُ من الردِّ إلى الردِّ على الردِّ، وفيما تَشطُب الغاراتُ الجوية أهدافًا حيوية على الأرض، تُستَنزَفُ قُدرات الدفاع والهجوم لدى الخصوم، وتتواصَلُ التجارة بلَوثة الملاجئ وواجهات البنايات المُهدَّمة.


خسائرُ إسرائيل حقيقيّة جدًّا، وثقيلة ومُوجِعة؛ إنما لا مُقارنةَ مُطلَقًا مع ما تتسبَّب فيه من آلامٍ على الضفّة الأُخرى. تضربُ فى العظم والنخاع وتحت الأحزمة، وتُسعِّرُ خدَّها للصفعات عالية الصوت وخفيضة الأثر.


وفيما يتوهَّمُ الرومانسيون أنَّ المُنازلة على تلك الصورة تُخلخِلُ نسيجَهم الاجتماعى؛ فالواقع أنَّ البيئة الداخلية تتقوّى ويزداد تماسُكها، والفضل مُجدَّدًا للسنوار وطوفانه العظيم.


تبدَّلت أشياء عدّة لدى الاحتلال منذ أكتوبر 2023، أبرزها العقيدة القتالية التى تأسَّست على ثلاثية الردع والمعارك القصيرة وعلى أراضى الغير، والأهم؛ وإن كان خافتًا، ما يتَّصل بوعى الجمهور، وقدرته على احتمال الضغوط واحتوائها والتعايش معها.


مَرّت عليهم عشرون شهرًا فى قتالٍ مُتواصِل، وخسائر مُتتابعة، ونزيفٍ فى السكينة والاقتصاد وشعور المناعة الذى درجوا عليه. يُهرولون إلى الملاجئ مع كلِّ صافرة؛ لكنهم يخرجون على الحالة التى دخلوها بها.


ثمّة إجماع واضح على خطورة إيران، وعلى ضرورة استكمال الصدام معها إلى مُنتهاه المُثمر. وباستثناء أصواتٍ قليلة خافتة، مثل إيهود باراك وبعض كتَّاب الصحف اليسارية؛ فالأغلبية من المعارضة والشارع وراء نتنياهو، بقبولٍ وإصرار غير مُعتادَين، على الأقل خلال ولايته الأخيرة.


وطّد «الطوفان» نفوسَهم على المُنازلات الطويلة، واحتمال التكاليف البشرية. فى السابق كانت تنقلِبُ الدنيا وتُطاحُ حكوماتٌ لمقتلِ آحادٍ أو عشرات، واليومَ يُدفَع مُقرَّبون من ديوان رئيس الحكومة للقَول عَلنًا إنَّ الخسائر المُتوقَّعة قد تتراوح بين ثلاثة وأربعة آلاف قتيل، ولا ينتفض الجمهور أو يثورون غضبًا واعتراضًا.


والأرقام السابقة لا تغيبُ عنها المبالغة؛ لكنهم اختاروا مُلامسةَ السقف وتجاوزه، ليكون كلُّ ما دون ذلك مُقنعًا ومقبولاً.
والخلاصة؛ أنه قد لا يكون مُتاحًا التعويل حاليًا على تقلُّبات الداخل، أو أن تتبدَّل المُعادلات والتوازنات بضغوطٍ من مُعارضى الليكود ومُحازبيه؛ لينصرف الرهانُ بالضرورة إلى المواقف الإقليمية والدولية، وما يُمكن أن يطرأ من تحوُّلات صاخبة أو باردة فى الفضاء الفارسى.


المُمانعة قادرة على إيلام الاحتلال، وماضية فى طريقها حتى الآن. وكلاهما يبدو جاهزًا لمشوارٍ طويل من الأخذ والرد؛ ما لم تتدخَّل أيادٍ خارجيَّةٌ، أو تقع أخطاء دراماتيكية فادحة.


مُعطيات الأرض لا تُبشِّر بتسويةٍ وشيكة؛ إذ لم تُحقِّق إسرائيل أهدافَها ولا تستطيع، فيما لا تُلبِّى التوازُنات الحالية مُتطلّبات إيران؛ ولو عند حدودها الدنيا.


وتصعُب العودة إلى الصيغة القديمة الساقطة؛ كما لا يتوافر الوفاقُ على بديل جديد.


الحربُ حرَّكت الاستاتيكو نحو خلافاتٍ أعمق وأكثر حدّة وجذرية، والتعادُليّة النسبية المهيمنة على أجوائها تمنعُها من أداء وظيفتها.


وظائف الحروب بالضرورة أن تَجبُر التناقضات وتفرز المنتصر من المهزوم، ثمَّ تفتح باب السياسة، وتُمهِّد المجال لتسوياتٍ تتظهّر فيها حقائقُ الميدان. وميدانُ اليوم ما يزال من دون حقيقة ناصعة.


يغرفُ الصهاينة من بحر، وينحت الملالى فى صخر. كلاهما يخوض الجولة منفردًا؛ لكنَّ أحدهما لديه مظلَّة دعم وحماية واسعة، وخطوط إمداد لا تنقطع، والآخر تعكّرت مياهه مع القريب والبعيد، وتحالفاته القائمة تكاد أن تكون عبئًا لا مِيزَة، فبعضُها مشبوك فى صراعاتٍ لا تقلُّ فداحة، والبعض مشغول برضاء ترامب وعدم تصعيد المواجهات معه.

والحال؛ أنَّ الضربات المُتبادَلة يجب أن يُنظَر إليها من زاويتين: فارق الحجم، وقدرة الاحتمال.


إيران عشرةُ أضعاف إسرائيل بَشرًا، ومائةٌ وخمسون ضعفًا فى الجغرافيا، والصفعة منها تُوازى مئات الصفعات من الغريم، ما يُضاعِفُ أثرَ قُدراتها المحدودة، ويُعزِّز احتماليَّةَ أن تكون قادرةً على الاحتواء والمُكابرة وعدم الانسحاب سريعًا.


بيدَ أنَّ للمحدودية ضغوطَها من دون شَكّ، وحقيقة أنَّ مخزون طهران من الصواريخ الباليستية غير مُتجدِّد، يعنى أنَّ فرصة الاستدامة غير مُتحقِّقة، وخطر النفاد قائمٌ طبعًا.


والصهاينة إنْ راهنوا على الاستنزاف فلأجل أمرين: التأهُّل للسيادة الكاملة دون قدرةٍ مُضادّة على الصدِّ والردِّ، أو استنفار الخصم الضعيف المأزوم، والضغط على أعصابه؛ ليقع فى الخطأ، كأن يُهدِّد الجوارَ القريب بالنار أو بإغلاق مضيق هرمز مثلاً، أو تحريك أوراق الحزب فى لبنان والحشد الشعبى فى العراق، فيضع نفسه، فى لحظة انفلاتٍ وارتباك، على خطِّ المواجهة مع واشنطن.


وغاية نتنياهو من الحفاظ على الزخم، أن يستدرج ترامب للاشتراك فى الحرب، وبينما يبدو الأخير غير راغب حتى الآن؛ فربما يأتى الترويض والإقناع بطريقة غير مُباشرة من جهة طهران.


الرئيس الأمريكى غير غائبٍ عمليًّا عن المُواجهة؛ بل لعلّه شريكٌ أصيل فيها.


صحيحٌ أنه أوحى بتغليب السياسة والحلول التفاوضية، ومَرّر للجميع أنه سار إليه بدون علمِ تلّ أبيب وخارج إرادتها؛ إنما الوقائع تشفُّ عن خفايا مُضادّة للتصوُّر الطوباوى عن رجل الصفقات.


حَدّد مُهلة شهرين، ولم ينقطع عن إفادة رجال نتنياهو بتطوُّرات الجولات المُتتابعة مع طهران، وتبنَّى خطابَهم الساعى لتكرار تجربة النزع الكامل للبرنامج النووى على طريقة ليبيا، وفى ساعة الصفر المُحدَّدة وقعت الضربة؛ بعدما صرّح قبلها بأنها قد لا تكون وشيكة، وأعَدَّ رجالَه للذهاب إلى جولة حوارٍ سادسة فى مسقط.


قد لا يكون مُتواطئًا بالضرورة؛ لكنَّ الأسوأ أن يكون مُروَّضًا وغير قادرٍ على الإملاء أو الدفاع عن رؤيته، ما يعنى أنَّ الرهان على ضغوطه وفاعليَّتها لن يكون صائبًا، وأنَّ فُرَص استدراجه وتوريطه فى الصراع تعلو على احتمالات حياده واستمساكه بالبقاء بعيدًا من خط النار.


يُحتمل بالطبع أن يكون سمح بالضربة لتليين مواقف طهران، وليس خضوعًا لنزوة تل أبيب. لكنه احتمال لا يُغيِّر من الأمر شيئًا، بقَدر ما يكشف عن خفَّة المُقاربة وعدم الإلمام بطبيعة الطرف الآخر.


الجمهورية الإسلامية ليست مُجرَّد دولة مصبوغة بمُعتَقَد أو مذهب؛ بل عقيدة تلبَّست صورة الدولة وحوَّلت مفرداتها إلى نصوصٍ تنسحبُ عليها قداسة المُقدَّس. أى ليست نظام تشغيل «سوفت وير»، بل العتاد الصُّلب «هارد وير»، الذى قد تتسيّل الخرائطُ ولا يسيل.


إنها لم تحمل صفة الثورة ارتباطًا بوقائع العام 1979 كما يتصوَّر البعض، ولكن بثلاثة عشر قرنًا سابقة. وفى مخيالهم صورة الحسين إزاء يزيد، لا الحسن أمام معاوية.


اختاروا بطلاً تراجيديًّا سار إلى حَتفه راضيًا؛ لأن ثورته مُعتَقَد ولأن الولاية حقَ. هكذا يدينون، ولا سبيل لإقناعهم بأن وعود الأمويين التى سمّمت أحد السبطين، تختلف عن سيوفهم التى جزّت رقبة الثانى.


إيران الملالى حُسينيَّة لا حَسَنيّة. وسياقها الراهن تخطَّى ما كان يُردّده المُرشد الأعلى عن «الصبر الاستراتيجى» أو «التراجع التكتيكى». قد يُخالجه شعورٌ بالحاجة لاستعادة طيف الحسن، أو السير على درب سَلَفِه رُوح الله الخمينى فى تجرّعه لكأس السم، إبان حربه الطويلة مع عراق صدام؛ لكنه لن يفعل غالبًا.


ونتنياهو يُحبّ ذلك، ويريد منه ألّا يفعل، والعقول الخفية فى أروقة صناعة القرار تعرف أن التناقض بنيوى عميق، وأن التعايش مستحيل أو يكاد، والترويض يشترى بعض الوقت ولا يحسم السباق.


وبهذا؛ يكون السؤال عما ستمضى إليه الإدارة الأمريكية، وما إذا كانت ستُجدد اللعبة بجولة جديدة لن تقود إلا للنتيجة ذاتها، أم تقرر وضع النقاط على الحروف وتصفية القضية العالقة من جذورها، مرة وإلى الأبد.


لا يرى العقائديون الثقوب فى أثوابهم. وكما لم يتوقف الحرس الثورى أمام مجزرة أجهزة البيجر فى لبنان؛ فلن تتوقف إيران بكاملها مع الاختراق وحالة الانكشاف العميقة مؤخرا؛ وأن كُتب للنظام البقاء فسيظل مُعرَّضًا للضربات نفسها دون اتعاظ أو حصانة.


القدرية قد تعمى العيون أحيانا، وتُوطد النفس على روحانية الابتلاءات وطابعها الإيمانى. ولا يهم أن تشيع الريبة والشك بين القادة والقواعد، ولا أن يكون كل اثنين يجتمعان اليوم ثالثهما شيطان النفس الأمارة بالسوء.


حالة التراخى لا تنم عن سيولة الحكم وشيخوخته فحسب؛ بل عن عدم اعتبار لفكرة الدولة وبنيتها وأدوارها، ولا لمخاطر أن المتلفت لا يصل غالبا، وبالضرورة لا يربح الحرب التى يتآمر فيها على نفسه قبل الآخرين.


لم تنضج الظروف بعد لوقف الحرب، ولا للإغراق فيها. العبرة بالإمكانية لا الرغبة، وبتوافر الشروط وإنضاج الظروف المناسبة. النقطة الحرجة أن تتعاظم أضرار إسرائيل لدرجة لا يحتملها الأمريكيون، أو توشك مخازن إيران على النفاد.
وتل أبيب طالبت واشنطن بالتدخل فعلا، وتمادت بالدعوة لتشكيل تحالف دولى يدافع عنها. هى ليست منسحقة لتلك الدرجة بعد؛ لكنها تجاهر بأمانيّها وما تتطلع إليه، وتمرر من طرف خفى أنها ليست فى وارد التوقف حاليا.


صحيح أن فرصة التدخل الأمريكى المتعقل ما زالت قائمة، وتحددها تقديرات موقف وقراءات معمقة للفرص والمخاطر؛ لكنها تتضاءل كلما طالت المدة وتراكمت التبعات. وستكون الصورة هنا أداة نتنياهو الدفاعية، ووسيلته للابتزاز، ولن يقبل أن يُغَض الطرف عما طال تل أبيب، كما لن تقبل طهران أن تذهب إلى الطاولة الآن تحت صفة الإذعان أو الاستسلام.


ما يعنى أن الجولة فى حاجة لمزيد من المهل؛ لتعميق المحنة الظاهرة إقليميا ودوليا، أو إضعاف طرف لصالح الآخر، ومن البديهى أن حلفاء إسرائيل لن يتركوها لهذا المصير، وليس لدى غريمتها من ينصرها أو ينوب عنها فى ملأ الحل والعقد.


الخيار الأرجح بين تصفية التركة بالقوة أو رضائيا. لم تراهن إسرائيل بعاصمتها لتخسر، كما أسلفت؛ بل لتنفخ فى سردية الخطر الوجودى وحاجتها الحيوية لتصفية الأجواء من فارس إلى سواحل المتوسط. بينما تظل الفكرة النووية أثمن الأصول لدى إيران، بعدما قُلّمت أظفارها، فيما يرى الصهاينة أن الباليستى لا يقل خطرا، ويبرهنون بالصور الحية.


والحل ألا تُدفَع الجمهورية الإسلامية للجدار، ويُنَكَّل بكرامتها ولا يُترَك لها هامش للنجاة والكبرياء، وأن تُمنح مكاسب مناظرة لحجم التضحيات المطلوبة منها، أو يكون البديل الوحيد فى الصدام معها، وكسر الرأس بدلا من التليين أو الإقناع. وموقف نتنياهو واضح؛ لكن القرار لدى ترامب، ويجب ألا يستخف الملالى بالمسألة، ولا أن يُلدغوا من جحر الغموض الآن كما جرى سابقا.


استُدرجت إيران من أول غزو العراق، ثم بتمكينها من لبنان بديلا عن الوصاية السورية، وفرض سطوتها على الشام كاملا. ورّطها جنرالها القوى قاسم سليمانى وعرّى ظهرها؛ بقدر ما قوّى أذرعها وأقنعها بالاستغناء عن الأصيل بالوكيل.


ليلة 13 يونيو أفدح من البيجرز وكل ما حدث بالضاحية، والحزب لم يُخترَق فى بيئته أولا، بل خارجا عندما تمدد شرقا وشمالا للدفاع عن الأسد، أما إيران فاختُرقت من أعماقها، وفُخِّخت الدولة نفسها بدلا عن استهدافها بمعدّات مفخخة.


والطوفان فتّح خطوطها وعمّق الشقوق فيها، وبدّل عقيدة العدو وحفّزه على المُغامرة والانفلات. كلها أخطاء ذاتية؛ استُثمِرت ضدّهم، لكنها لم تسقط على رؤوسهم من السماء للأسف.


يعتنق نتنياهو مبدأ أن «ما لا يتحقق بالقوّة يتحقّق بمزيدٍ من القوّة»، وتلك العقلية تُؤهّله بالتبعية إلى أن خسارة فادحة بعوائد مستقبلية أكبر، ستكون أفضل بما لا يُقارن بترشيد الخسارة دون أية عوائد.


ومع معرفته الاستباقية بأنه ليس فى نُزهة؛ فلا يُستبَعد أنهم يُضخّمون الوقائع ويُغرقون فى توظيف الصورة واختراع المظلومية، ضمن السردية الدائمة عن بلدٍ صغير وسط محيط مُعادٍ، وها هو يُقصَف فى عاصمته ويخرج رجاله ونساؤه عرايا فى الشوارع.


تردّد فى الصحافة الأمريكية أن ترامب رفض تحرّكًا إسرائيليًّا لاغتيال خامنئى، ونفاه نتنياهو بينما كان قادة أجهزته يقولون إنهم يعرفون مكان اختبائه؛ وبالتزامن قُتِل رئيس الاستخبارات الإيرانية ونائبه.


لا شىء يأتى ارتجالا أو بالمصادفة، ويبدو أن تل أبيب استعدّت للمواجهة قبل وقت طويل، وتقف على تل من المعلومات والمعرفة الوثيقة واللصيقة أيضًا بالجمهورية الإسلامية؛ فيما الأخيرة لا تعرف الكثير عن عدوّها، وتضرب عشوائيًّا بما لا يخدم التكتيك والاستراتيجية؛ ولو حقّق الألم. وعقيدتها حادّة جارحة، وتُوظَّف ضدّها للأسف.


ثلاثة آلاف صاروخ أو يزيد، بعضها بمدىً أقل من الوصول لإسرائيل، والبعض بمعدّلات انحراف تقارب 500 متر. قوّة غير هيّنة، وغير حاسمة أيضًا. ستنفد عاجلا أو آجلا؛ وإمَّا أن تقود لحرب أكبر بلا مظلّة حماية، أو لغُرفة تفاوض تستدرك ما يُمكن استدراكه.


إسرائيل بلد مُجرم، وقل ما شئت فيه؛ لكن العداوة وحدها لا تحسم الحروب، ولا تُغيّر التوازنات. السباق ليس على عدد الضربات ومُعدّلات الوصول، ولا فى حماوة الهتاف وصخب المُشجّعين؛ بل فى المردود والآثر. تنزف إيران من القلب والخاصرة؛ فيما يمتلئ وجه إسرائيل بالندوب، والمواجهة مقصود لأغراض أكبر من هذه وتلك. العاطفة تنطفئ سريعًا؛ أما الهزائم الكبرى فتبقى طويلاً.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

القانون ينظم ضوابط فحص الطلبات بعد غلق باب الترشح بانتخابات الشيوخ

مدحت عبد الهادى صخرة دفاع الزمالك السابق يحتفل اليوم بعيد ميلاده الـ"51"

ريبيرو يعود للقاهرة غداً لقيادة فترة إعداد الأهلى للموسم الجديد

صور جديدة من كواليس مسلسل 2 قهوة والعرض فى الأوف سيزون

ميلود حمدى يطالب مجلس الإسماعيلى بتعديل لائحة فريق الكرة قبل الموسم الجديد


محمد فؤاد يشعل افتتاح المسرح الرومانى بباقة من أجمل أغانيه

تحركات سياسية وإنسانية مصرية شاملة لنصرة الأهالى فى غزة ودعم حقوق الفلسطينيين.. خبراء وسياسيون: الدولة لم تكتفِ بالجانب الإنسانى فقط بل تصدت لمحاولات التهجير.. وتسعى لحشد موقف دولى ضاغط على الاحتلال الإسرائيلى

مواعيد القطارات على خط القاهرة أسوان والإسكندرية أسوان والعكس اليوم السبت

غادة عبد الرازق تكشف عن تعرضها للإصابة وتجلس على كرسى متحرك

انفجارات عنيفة تدوي في مدينة جبلة السورية


طلاب الهندسة الحيوية بالإسكندرية ينجحون فى تصميم ذراع روبوت بـ6 درجات حرية.. "6-DOF" يُستخدم كمساعد لأطباء الجراحة فى المستشفيات.. تنفيذه يكلف نحو 22 ألف جنيه.. وأعضاء هيئة التدريس يشيدون بالمشروع.. صور

هل سيتم تخفيض تنسيق الثانوي العام بالقاهرة ؟.. اعرف التفاصيل

موعد مباراة تشيلسي ضد بي إس جي فى نهائى كأس العالم للأندية 2025

تشيلسى ضد باريس سان جيرمان.. أوبتا تحسم المتوج بكأس العالم للأندية

ننشر قوائم المرشحين لانتخابات مجلس الشيوخ عن دائرة محافظة كفر الشيخ

الهيئة الوطنية تطلق تطبيق استعلم عن لجنتك فى انتخابات مجلس الشيوخ.. صور

الهيئة الوطنية تنشر آلية استعلام المواطنين عن مقر اللجان بانتخابات مجلس الشيوخ

بيان رسمي من مودرن سبورت يكشف كواليس أزمة جنش

"أوديشن" مسابقة ملكة جمال مصر 2025.. أغلبية المتسابقات من طالبات الطب (صور)

سر تجدد اشتعال النيران في سنترال رمسيس.. مدير الحماية المدنية الأسبق يوضح

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى