سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 17 يونيو 1969.. الموسيقار محمد عبدالوهاب يتذكر سنوات صداقته مع طه حسين: «لما باقعد معاه كنت أحس إنه باصص لى وطلع 100 سلمة فى الإذاعة ليحضر تسجيل أغنية الجندول»

قام عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين بتقليد الموسيقار محمد عبدالوهاب وهو يغنى قصيدة «كليوباترا» فى مطلع شبابه أمام منيرة المهدية، وأبلغ الكاتب الصحفى «كمال الملاخ» ما جرى لعبدالوهاب، فانفتحت شهيته لاستدعاء ذكرياته مع عميد الأدب العربى، وكان أمير الشعراء أحمد شوقى قاسما مشتركا فى بعضها، حسبما يذكر الموسيقار الكبير فى حواره بالصفحة الأخيرة بالأهرام، 17 يونيو، مثل هذا اليوم، 1969.
سأله الملاخ: كيف ومتى كان اللقاء الأول مع طه حسين؟، فعاد عبدالوهاب إلى بعيد، قائلا: عرفته مع أحمد شوقى، كان «شوقى بك» متعودا أن يقضى سهراته ويروح السينما أو محل «صولت»، وبعدين يروح عند طه حسين فى الجورنال، كان رئيسا لتحرير «كوكب الشرق»، وكنت كثيرا ما آراه يملى المقال أمامنا.
يسأله الملاخ: «أكنت تلازم شوقى باستمرار؟، يجيب عبدالوهاب: طبعا، بعد الظهر أتغدى عنده، ثم أذهب معه، نروح «صولت» ليشرب هو قهوة، وأنا كازوزة، كان لا يذهب إلى المحل للقهوة وإنما خواطر الخلق بتاعته بتشغله طوال الوقت، كان يأخذنى معه نمشى فى الشوارع، كنت دائما بأحس امتى أكلمه، وامتى ما أكلموش، كان دائما يتهيأ لحالة «حمل» أدبى، حالة ولادة شعرية، أتركه ولا أشغله، وهو يخرج قلما وورقا من جيبه، ويروح كاتب ما تمليه عليه خواطره، وبعدين يروح إلى مطعم يطلب 3 أو أربع بيضات نيئة، وكنت كلما أسأله: تعمل ليه ده يا باشا، كان يرد على ساهما: أنا بأحرق فوسفور كتير من مخى لازم أعوضه، ووقت العشاء نتعشى ونروح أى سينما، أقعد أنا ورا، وهو قدام، الكرسى بقرشين، هو مش داخل السينما عشان يتفرج، أبدا عشان يختلى بنفسه.
يسأله الملاخ، عن إحساسه عندما رأى طه حسين أول مرة؟، يجيب عبدالوهاب: حسيت به من قراءتى له بموسيقية أسلوبه وجرأته وشجاعته، لفت نظرى أن تربيته الدينية لم تجعله متزمتا بل بالعكس، راح ينتقد الانتقاد الذى ثار عليه الرأى العام فى كتابه «الشعر الجاهلى»، ولما رأيته لأول مرة حسيت بموسيقية بيانه التى تهم فنانا مثلى، والشجاعة التى كانت تهم مراهق مثلى «16 سنة»، كلامه كبير، مش زى كلام العصر «أحبكها، اشبكها، ارخى الستارة» كلامه عال، فيه شجاعة التطور، وله أسلوب موسيقى.
يسأله الملاخ: هل حسيت إنه فاقد النظر؟، يجيب عبدالوهاب: «لا، لم أحس، مقالاته كانت بصيرة، أكثر من الناس اللى عندهم نظر 6 على 6، لدرجة أننى لما كنت أقعد كنت أحس بأنه باصص لى إذا كنت حاطط رجل على رجل، أو ماسك منديل، وكان كثيرا ما يقول ما تشرب اللى قدامك يا عبدالوهاب»، يسأله الملاخ عن رأى شوقى فى طه حسين؟، يجيب عبدالوهاب: «كان دايما يصفه بالعبقرى»، يسأله: هل تذكر له شيئا؟، يجيب: لن أنس حادثتين له حتى أموت، الأولى: عندما احتضن أول عمل لى فى قصيدة ملحنة تلحينا يختلف عن القصائد اللى فى ذلك العصر وهى «الجندول»، وعلى ما أعلم كان يحب ويقدر فن شاعرها على محمود طه، لأنه أيضا متطور، سافر وشاف وتثقف ثقافة منطلقة فى عوالم مختلفة أضفت على شعره الرشاقة والأناقة والدم الجديد، ولما عرف الدكتور طه أننى سأغنى له أغنية، كان سعيدا بذلك، فرجوت على محمود طه أن يدعوه أثناء تسجيل الأغنية، وكان فى الإذاعة القديمة فى «علوى»، ومفيهش أسانسير، وطلع طه حسين 100 سلمة، ويومها اعتبر تلحين «الجندول» علامة جديدة من علامات الفن العربى وانطلاقه، عندما سمع مقطع «ذهبى الشعر» توقف وأشار بالتعديل، ثم رأيت إيماءاته وأنا أغنى مقطع «يوم قابلته»، فأعدته مباشرة مضموم التاء، ولهذا تجده مكرر مرتين، مرة بالفتحة، ثم أعيدها بالضمة.
وعن الحادثة الثانية يقول عبدالوهاب: «كنت أصيف أنا وشوقى فى لبنان فى سبتمبر 1927، وكان طه حسين بيصيف أيضا، أعلنوا عن حفلة اتفق عليها المتعهد معى، يومها الصبح بفتح جريدة المقطم، قرأت خبرا صعقت له: «توفى المرحوم الشيخ عبدالوهاب الشعرانى، والد الأستاذ حسن عبدالوهاب ومحمد عبدالوهاب الموسيقار، أغمى علىّ، وسمع الناس فحضر المتعهد من تلقاء نفسه وعزانى، وقال لى: مايهمكش يا أستاذ حنأجل، كان الحفل فى أوتيل شاهين، ووضع المتعهد ورقة عند مدخله بالتأجيل، شوقى كان بيواسينى، قال لى: يا ابنى أنا زى أبوك، تعالى نغير جو، ونزور طه حسين، وعنده حكى شوقى حكاية التأجيل، تأثر طه حسين، وبعد لحظة صمت سألنى: ولكن لماذا لا تغنى، نعم ستكون منفعلا ومتأثرا، وهل الغناء إلا للانفعال سواء أكان حزينا أو فرحا، لا، لا، روح وغنى، غنى كما تحس فليست الموسيقى مقصورة على الفرح أو الحزن، الغناء هو مضمونك.
يضيف عبدالوهاب: «كان شوقى يهز رأسه إشارة بالرضا، وفى الساعة 6 جبت المتعهد وقلت له سأغنى، فرفع الورقة وأعلن أن الحفل سيقام، ورحت أغنى، أبكى، ودموع الناس تسيل، وغنيت ولم أحس لماذا كنت مجيدا، غنيت 3 قطع لشوقى».
Trending Plus