قراءة استراتيجية وسط فوضى الإقليم

تشهد منطقة الشرق الأوسط حالة من الغليان السياسي والعسكري والاستراتيجي، تنذر بإعادة صياغة موازين القوى، وإعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات، في ظل تصاعد التوترات وصدام المشاريع الإقليمية والدولية وفي قلب هذا المشهد المضطرب، تقف مصر بثبات الدولة ورؤية القيادة الواعية كدولة محورية تراقب وتقدر بحكمة وتمارس دورها التاريخي بوعي استراتيجي، ومناورة محسوبة، توازن بين متطلبات الأمن القومي ومقتضيات السيادة الوطنية، حيث تدرك أن استقرارها الداخلي لا ينفصل عن أمن الإقليم، وأن حدودها الجغرافية امتدادات لقوس أزمات يشتعل من غزة إلى جنوب لبنان، ومن اليمن إلى ليبيا، ومن إيران إلى تل أبيب، حيث تختبر الإرادات والسياسات.
فالشرق الأوسط أضحى مسرحًا مركبًا لتقاطع مشاريع إقليمية ودولية كبرى، تتصارع على النفوذ والسيادة بأدوات متعددة، وأثمان تُدفع غالبًا من أمن الشعوب واستقرار الدول، فالمشروع الإيراني الشيعي التوسعي يسعى لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية عبر أذرع مسلحة تتجاوز الحدود الوطنية؛ والمشروع الصهيوني الاستيطاني الاحتلالي لا يزال يتمدد على حساب الحق الفلسطيني، بينما تتجدد المشاريع الغربية بثوب استعماري ناعم، قائم على تفكيك الدول من الداخل باسم الديمقراطية أو حقوق الإنسان مستثمرة في الفوضى والفراغ السياسي وفي قلب هذا المشهد يتموضع الحضور الروسي والصيني والأمريكي، كل وفق مصالحه الاستراتيجية، ورؤيته الخاصة لإعادة تشكيل النظام الإقليمي، بما يكرس لتوازنات هشة وقابلة للانفجار والتغيير في أية لحظة.
ويشهد الإقليم تصاعدًا حادًا في منسوب التوتر بين إسرائيل وإيران فاندلاع المواجهة العسكرية بين تل أبيب وطهران يمثل نقطة تحول استراتيجية، تُلقي بظلالها على عموم الإقليم، بما يتجاوز حدود الدولتين ليطال البنى الأمنية والسياسية في المشرق العربي والخليج والقرن الإفريقي، فلقد خرجت الحرب من الظل إلى الضوء، متجاوزة نمط الاستنزاف عبر الحلفاء إلى صدام مكشوف بين قوتين، لكل منهما شبكة نفوذ متغلغلة في ساحات ملتهبة من لبنان وسوريا، إلى العراق واليمن، فإسرائيل التي تجد نفسها في مواجهة متنامية مع ما تسميه محور المقاومة المدعوم إيرانيًا، تسعى لجر الولايات المتحدة إلى معركة شاملة، وتدفع نحو تأزيم الموقف الدولي من البرنامج النووي الإيراني، الذي تعتبره تهديدًا وجوديًا، وفي المقابل تبعث إيران برسائل واضحة عبر أذرعها المسلحة بأنها مستعدة لتوسيع رقعة المواجهة ونقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي عبر مساحات جغرافية متعددة.
ولعل الخطير في هذا التصعيد أن تداعياته لا تنحصر في المسار الثنائي بين طهران وتل أبيب، بل تهدد بانفجار شامل في نقاط ارتكاز حساسة مثل لبنان وسوريا، فضلًا عن احتمالات توريط الخليج في صراع إقليمي مفتوح ولا تقف حدود التهديد عند النطاق العربي، بل تمتد لتطال أمن الملاحة في المضائق الحيوية، وعلى رأسها مضيق هرمز وباب المندب، الأمر الذي يضع أمن الطاقة العالمي واستقرار الأسواق الدولية على المحك، ويجعل العالم بأسره معنيًا بدرء هذا الانفجار.
ومن زاوية الأمن القومي المصري، فإن هذا التصعيد المتسارع يُنذر بانفلات إقليمي قد يضع الشرق الأوسط على أعتاب فوضى عارمة، لا سيما إذا تحول الصدام إلى حرب شاملة تخلط الجغرافيا بالمصالح، والأمن بالوجود وفي ضوء ذلك تبرز مسؤولية الدولة المصرية في رفع مستويات الجاهزية الاستراتيجية، وتفعيل أدوات القوة الشاملة بما فيها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية وتثبيت توازنها الخارجي بعناية، بما يحفظ مصالحها الوطنية، ويحمي استقرارها الداخلي، من أي اختراق أو ارتباك ناتج عن التداعيات الخارجية هذا التحدي يتطلب يقظة وطنية شاملة، تبدأ من الوعي المجتمعي وتنتهي بتشكيل رأي عام مدرك لخطورة المرحلة.
ولقد أصبحت معركة الوعي أحد أبرز ميادين الأمن القومي، إذ تسعى القوى المتصارعة إلى صياغة روايات متضادة، تطوع من خلالها الوقائع وتهندس بها الرأي العام وتعيد تشكيل خرائط الإدراك الجمعي، وهذا يتطلب اصطفافًا معرفيًا وروحيًا وأخلاقيًا وإعادة بناء الثقة المجتمعية، وبلورة خطاب وطني عقلاني، قادر على تفكيك المقولات التضليلية، واستنهاض الوعي الجمعي تجاه ما يجري، وتثبيت بوصلة الانتماء في زمن التيه الإعلامي، حيث أضحت الحروب اليوم تخاض على جبهات جديدة أشد خطورة وفتكًا جبهة الوعي والإدراك، وحروب الأفكار والمعلومات والشائعات، حروب تشكل العقول قبل أن تنطلق في الميادين، يستخدم فيها سلاح الإحباط والتشكيك في الثوابت وضرب الرموز الوطنية وتشويه الإنجازات وبث الفرقة بين الشعوب ومؤسسات الدول، في محاولة ممنهجة لاحتلال العقول قبل الأراضي.
وتمثل حروب الجيل الرابع والخامس أداة استعمارية جديدة تستهدف تفكيك الوطن من داخله، عبر تفجير التناقضات، واستثمار الثغرات، وتحويل المشكلات الطبيعية إلى أزمات وجودية، ولعل أخطر ما تواجهه الدول في هذا النوع من الحروب هو ضرب التماسك الوطني، وزرع بذور الانقسام النفسي والفكري والاجتماعي بين الشعب، مما يجعل معركة الوعي خاصة في مصر معركة مصير والتصدي لها يستدعي منظومة وطنية متكاملة، يكون في طليعتها إعلام مسؤول، وتعليم نوعي متجدد، ومؤسسات دينية وثقافية تتكامل أدوارها في بناء مواطن يمتلك القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والإدراك العميق للمخاطر، والانتماء الواعي للوطن، فالواعي الجمعي للشعب هو الحصن الأول في مواجهة الحروب الحديثة والضامن الحقيقي لاستقرار الدولة وقوة مناعتها في وجه العواصف الفكرية والنفسية العابرة للحدود.
والاصطفاف المطلوب اليوم هو اصطفاف الوعي الشامل، وعي بالمخاطر المحدقة، ووعي بقيمة الدولة ومعنى السيادة، ووعي بأهمية وحدة الصف وتماسك الجبهة الداخلية، وهذا هو السلاح الأول في المعارك الصامتة والمعلنة، والشرط الجوهري للنجاة من فوضى الإقليم وتحديات اللحظة الراهنة، فالنجاة اليوم تبنى على أساس الشراكة الحقيقية، والمسؤولية المتبادلة بين الدولة والمجتمع، فبقاء الدولة ضرورة وجودية، وحماية الوطن لا تتحقق إلا بتكاتف الشعب شريكًا أصيلًا في الدفاع عن وعيه، وهويته، ومقدراته، وفي ظل هذا السياق المشتعل، يبقى الرهان على مصر، دولةً وشعبًا وقيادة أن تحافظ على تماسكها، وتسبق التهديدات بالرؤية، وتواجه التحديات بالوعي والعمل والانتماء الحقيقي فلا أمن بلا وعي، ولا وطن بلا دولة، ولا مستقبل بلا اصطفاف وطني يقوده العقلاء ويشارك فيه الجميع، فلنحمل معًا مسؤوليتنا في حماية هذا الوطن، بالاستباق، وبالاتحاد، وبالصدق مع ذواتنا وتاريخنا، فإن مصر، بإرادتها ووحدة صفها... لا تقهر.
Trending Plus