الحرب بـ"الوكالة".. من الميليشيات إلى "حلفاء الظل"

مفهوم الحرب بـ"الوكالة" كان العنوان الأبرز للصراع في منطقة الشرق الأوسط خلال سنوات، ربما قاربت العقدين من الزمان، مع صعود الحركات المسلحة، في العديد من الدول، لتعمل تحت مظلة قوى بعينها، على حساب دولهم، وبلادهم، وهو الأمر الذي ساهم في زيادة رقعة الانقسام، على مسارين، أولهما إقليمي، ذو طبيعة جمعية، يتجلى في حالة الاستقطاب الناجمة عن صعود المحاور، بين المقاومة والاعتدال، بينما تآكلت الحالة الوطنية داخل الدول، وبالأخص الدول العربية، جراء عمل الحركات المسلحة ضد مصالح بلادها لصالح القوى الإقليمية، الموالية لها، وهو ما بدا في لبنان، واليمن، وحتى في فلسطين نفسها، وهي الحالة التي وجدت انتشارا واسعا إبان ما يسمى بـ"الربيع العربي"، والتي أسفرت عن فوضى داخلية، دفعت نحو حروب أهلية، لم تنجو منها إلى القليل من الشعوب.
إلا أن مفهوم "الوكالة" بات يتخذ مسارات أخرى، تجاوزت الميليشيات، التي أصبحت تعاني بصورة كبيرة، منذ أكتوبر 2023، واندلاع الحرب الشعواء التي يخوضها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وما تبعها من تمدد جغرافي نحو لبنان واليمن وسوريا، والتي أسفرت عن تجريد الميليشيات من بنيتها الإدارية والعسكرية، أو على الأقل جزء كبير منها، بينما تجردت، بالتبعية، القوى الإقليمية الداعمة لتلك الحركات المسلحة، وهي إيران، من جزء كبير من نفوذها، لتصبح المواجهة بين تل أبيب وطهران بمثابة نتيجة حتمية، في إطار إعادة ترتيب القوى الإقليمية في ضوء المستجدات التي طرأت على المشهد الإقليمي، جراء التغيير الكبير في المعطيات على النحو سالف الذكر.
إلا أن التساؤل، الذي يثور إلى الذهن، مع قراءة المعطيات، يدور حول ما إذا كانت المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، والتي بدأت منذ عدة أيام، تحمل في طياتها بعدا جديدا من مفهوم "الحرب بالوكالة"، خاصة وأن ثمة أطرافا دولية تبدو متداخلة على خط الصراع، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي تمثل الحليف الرئيسي لتل أبيب، في ضوء التزامن مع مفاوضات نووية متعثرة، سبقت الهجمات المتبادلة، بينما تحظى طهران بدعم، وإن كان غير مباشر من الصين وروسيا، والأطراف الدولية الثلاثة يخوضون صراعا على النفوذ في المنطقة التي تعد أحد أكبر مناطق التأثير في العالم، بينما تبقى الأكثر اشتعالا على الإطلاق.
وبالنظر إلى الموقف الأمريكي، تجاه الحرب الراهنة، يمثل في جوهره جزءً لا يتجزأ من الصراع الحالي، فواشنطن، تحت إدارة ترامب، ترغب بممارسة أقصى قدر ممكن من الضغوط على طهران للرضوخ فيما يتعلق بتفكيك كامل للبرنامج النووي، حيث يبقى أي اختراق في هذا الملف بمثابة انتصار كبير للإدارة الحاكمة في البيت الأبيض، بعدما فشلت في تنفيذ وعودها، سواء في غزة أو أوكرانيا، في الوقت الذي نجد فيه مبادرة روسية للوساطة، بينما تبزغ إدانات بكين، ليس لإسرائيل، ولكن للولايات المتحدة، باعتبارها المسؤول الأول عن إشعال الحرب، وما قد تسفر عنه من تداعيات كبيرة، وغير محسوبة، ليس فقط على منطقة الشرق الأوسط ولكن ربما تمتد إلى العالم بأسره.
الحرب بـ"الوكالة" في تحولاتها نحو الصيغة الدولية، كبديلا للنهج "الميليشياتي"، ليس بالأمر الجديد تماما على المشهد الدولي، فقد وجد إرهاصاته، خلال الأعوام الماضية، في ظل احتدام النزاع في أوروبا الشرقية، عبر استخدام القوى الكبرى لبعض الدول لتصدير أزمات لمحيطها الإقليمي، وهو ما بدا خلال أزمة المهاجرين بين بيلاروسيا وبولندا في 2021، والتي استهدفت إلى تفجير الاتحاد الأوروبي من الداخل لصالح روسيا، بينما كانت أوكرانيا ورقة الناتو لاستفزاز موسكو، وهو ما عززته العملية العسكرية الروسية على كييف منذ 2022.
ويبقى المشهد في منطقة الشرق الأوسط، امتدادا منطقيا للحالة الدولية التي شهدتها أوروبا، ولكن في نطاق يبدو أكثر عنفا ودموية، في ظل الظروف الإقليمية، ما تعرفه من تراكمات ممتدة لعقود طويلة من الزمن، جراء الأزمات المتواترة، والانقسامات، التي هيمنت على المشهد، وهو ما أضفى المزيد من التعقيدات، التي تهدد بحرب إقليمية شاملة، على عكس الأوضاع في أوروبا التي شهدت قدرا كبيرا من الاستقرار منذ الحرب العالمية الثانية، ثم في أعقاب الحرب الباردة، خاصة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وصعود الاتحاد الأوروبي، والذي شكل بدوره جناحا مهما لدول المعسكر الغربي، مع الولايات المتحدة.
فلو نظرنا إلى المناوشات السابقة بين إسرائيل وإيران خلال العام الماضي، نجد أنها لم تتجاوز عمليات محدودة، زمنيا وعملياتيا، حيث لم تكن إدارة بايدن تكن العداء نفسه الذي يحمله ترامب تجاه طهران من جانب، ناهيك التفات واشنطن للصراع مع روسيا بصورة أكبر من الإدارة الحالية التي تتجه نحو مهادنتها بصورة كبيرة على حساب الغرب الأوروبي، وهو ما أضفى أبعادا جديدة للمعركة بين طهران وتل أبيب، تتجاوز الإقليمية المحدودة نحو الحالة الدولية الأكثر اتساعا.
وهنا يمكننا القول بأن حرب طهران – تل أبيب هي بمثابة انتقال من الوكيل المحلي في صورة ميليشيات، إلى وكيل دولي، تعتمد فيه القوى الكبرى على حلفائها في أقاليم بعينها لتنفيذ أهدافها، مقابل منحها القيادة الإقليمية، أو على الأقل المشاركة بها بدور فعال، أو في إطار صفقة يمكن من خلالها تعزيز مصالحها، وأهدافها، وهو ما يبدو في الحالة الإسرائيلية، عبر المماطلة الدولية – وخاصة الأمريكية – فيما يتعلق بوقف إطلاق النار في غزة، ولكن أخطر ما في الأمر، أن هذه "الحرب بالوكالة" في صيغتها الجديدة، لم تعد تملك خريطة نهاية واضحة، بل أصبحت مفتوحة على كل السيناريوهات، من التهدئة المؤقتة إلى الاشتعال الشامل، ومن التفاهمات المتأخرة إلى الانهيارات المفاجئة، وهذا تحديدًا ما يجعل اللحظة الراهنة، في جوهرها، أكثر من مجرد اشتباك إقليمي — بل لحظة مفصلية في إعادة تعريف النظام الدولي نفسه.
Trending Plus