ديجا فو الشرق الأوسط وحوادثه.. عن تراجيديا لا تمل التكرار وتركة أبدية تُفنى الوارثين

حازم حسين
حازم حسين
بقلم : حازم حسين

يبدو المشهدُ مألوفًا بدرجةٍ ما؛ وكأنَّ الوقائع تتكرَّر، يتبدَّل اللاعبون ولا تختلف اللعبة على الإطلاق: عداء هائج؛ فاستدراج مقصود، يتبعه تورُّط كاسح وغير محسوب.

وفيما العدو واحد فى الحالين، وأهدافه مُعلَنة بالمناسبة، أو غير خافيةٍ على الأقل؛ فعِلّةُ التكرار تقع على عاتق المتواترين تِباعًا إلى المُنازلة، من دون جاهزية أو مصلحة حقيقية.

كأنهم مُسيّرون لا مُخيّرون، أو يسيرون مُنَوّمين إلى تراجيديا سابقة التجهيز، ومعروفة المآلات مُسبَقًا.

وبينما يغيب الضمير الإنسانى والحميّة الطبيعية عن أيَّة مُطالبة للضعيف بالصبر والاحتمال، يغيب التعقُّل والحصافة أيضًا عن كلِّ حشد على طريق المجهول.

الكرامة تأبى إلَّا أن ترُدّ الصفعة بمِثلِها، وكبرياءُ الدول فى أن تبقى، لا أن تزول بمُغامرةٍ مُندفعة. ولا مُبرِّر على الإطلاق للسقوط فى فخٍّ معلوم؛ لا سيَّما وقد عاين الوافدُ الجديد ما كان مع سلف قديم!

صعد صدّام حسين إلى السلطة فى العراق بالتزامن مع عودة الخمينى من منفاه فى باريس؛ ليتسلَّم لواء انتفاضةٍ شعبية كان أحد صُنَّاعها، لكنه ليس المالك ولا المُتصرِّف الوحيد فيها.

أُخلِيَت طريقُ الأوَّل بما قيل إنها استقالة لأحمد حسن البكر، فتمّت له الولاية الكاملة بعدما كان سيّدًا فِعليًّا من وراء ستار. وأخلى الثانى طريقَ سُلطته الدينية بالبطش والترويع، وتعليق شركاء الثورة على أعواد المشانق.

ولأسبابٍ مُتهافتة؛ مهما أفرط فيها الطرفان، وقعَ الاشتباك بينهما فى السنة التالية مُباشرةً، وامتدَّ من فاتحة العقد إلى قُرب مُنتهاه، وبدا ظاهرًا أنه مُناكفات جيران ومشاريع وذوات مُتضخِّمة، فيما كان فى الجوهر صدامَ أعراقٍ ومذاهب، وتاريخٍ يتنفَّس رغمًا عن الحاضر.

كان بحثًا عن مكاسب سريعة وبطولات سهلة، وعن فوائض قوّة وعاطفة تُعوِّض الإحساس بالشرعية المنقوصة.

كانت بغداد العباسيين تُفتِّش عن ثأر الأمين من شقيقه المأمون وحُلفائه فى خراسان، وتقتفى طهران الفارسيَّةُ أثرَ نكبة البرامكة على يد أبيهما هارون الرشيد، وتُقلِّبُ الأرضَ بحثًا عن الامبراطورية الضائعة.

حُفِّزَ المُفدّى صدام من لاعبين خارجيين، واستُثمرت ورقة الجمهورية الإسلامية ضدّه بإسناد أمريكى إسرائيلى. انتهت الحرب بخسائر فادحة للفريقين، وتعادُليَّةٍ يصحُّ أن تُحمَل على النصر والهزيمة بالتساوى.

لكنَّ المُرشِدَ الأعلى التجأ مُضطرًّا للتسوية، ووصَّفَها بأنه «يتجرّع كأس السم». ما أغرى مُنافِسَه المُتأجِّج بَعثِيًّا وقوميًّا وفُتوّةً تكريتية هائجة بالمزيد، وللمرَّة الثانية يخدعه الأمريكيون عبر سفيرتهم أبريل جلاسبى، فيغزو الكويت، ويبدأ رحلة التصدّع وصولاً إلى الانهيار.

وعندما أُطِيْحَ فى ربيع العام 2003، اصطحب معه توازناتٍ عرقيَّةً ومذهبية كانت حرجةً أصلاً فى بلاد الرافدين، ويبدو أنه ترك لعنَتَه للجيران.
ورثت إيران تركة غريمها السابق فى كلِّ شىءٍ تقريبًا: الطموح، الاندفاع، الحنجرة، والغباء أيضًا.

تمدَّدت بطُول العراق وعرضه استغلالاً للهدية الأمريكية المجّانية، ولم يسترع انتباهها ما وراء إخلاء الساحة وتيسير الهيمنة على جغرافيا قلقةٍ بطبعها، وهادرةٍ وشديدة التقلُّب على امتداد التاريخ.

وبالوصفة ذاتها؛ سارت على الدرب، ولعبت فى الخرائط والمجتمعات، واكتفت بالمنابر عن القوة ورباط الخيل، وبالعاطفة عن العقل، جريًا إلى مصيرٍ شبيه، وبكيفيَّةٍ مُطابقة تمامًا.

قصفَ صدّام تل أبيب إبّان حرب الخليج الثانية، ثأرًا لمُفاعله النووىِّ المغدور، أو طمعًا فى تفكيك التحالف الدولى لتحرير الكويت. لا فارقَ إطلاقًا؛ فقد ولّد الذرائع الكافية لاستصدار الحُكم بالإعدام؛ ولو أُرجِئ التنفيذ.

واليومَ، تعتدى إسرائيل كعادتها، والعدالة فى صف خامنئى ورجاله؛ لكنَّ العالم ليس عادلاً دومًا، خصوصا إزاء الدولة العِبريَّة، وعندما تجتمع قوَّةُ السياسة والسلاح معًا لطرف واحد.

يبدو زمانُ المنطقة دائريًّا، ويتعالى أهلُها على قطع اتّصاله المُغلَق، أو فضّ تشابُكات الأصيل والدخيل فيه. ليُعرَفَ الطبيعىُّ والبنيوىُّ، من المُستجَدَّ وما فرضته الظروف وأيادى الخارج.

ندور فى دوَّامة الأعراق والمذاهب لألفِ سنةٍ وأكثر، ولم نحسم بعد جدالات السقيفة والفتنة والأمويين وكربلاء. وما كُنّا فى حاجة لمُعطّلٍ فوق هذا الإرث؛ لكنَّ قُرّاء الزمن الآتى أضفَوا عليه ما يُناسب المستقبل، ويُؤبِّدُ صلاحية الشقاق واستدامته، بمَعزلٍ عن أيّة مُحاولة مُحتَمَلَة للنهوض والتحديث.

لم تكن إسرائيل مجرّد حلٍّ للمسألة اليهودية فحسب؛ بل أُرِيد منها ما هو أكبر، اتّصالاً بالعتيق والمُصنّع حديثًا.

كأن الغرب قد رأى موجةَ الاستقلال مُبكّرًا، واستشرف تجربة القومية، فاستحدث الكيان ليكون بديلاً عن الامبريالية المُنسحبة بحُكم الزمن والوقائع، وكفَّةً وازنة مُقابل العناوين الكبرى، ومدخلاً دائمًا للتسرّب بين مصارين الهُويَّات، وتأليبها على بعضها، وإعادة تكييف المُعادلات حينما يتبدّى أنها أقربُ للانضباط الدقيق أو الانفلات الكامل.

كان عليهم أن يُصفّوا قضيتهم مع اليهود، خلاصًا منهم أو تعويضًا لهم. تعدّدت البدائل؛ لكنَّ حاجة الغرب لا رغبة الصهاينة أوصلت المشروع إلى فلسطين.

أُريد من أصحاب القرار وقتها استبقاء مَوطئ قدم، وتأطير الإقليم ضمن صياغة جديدة، بحيث لا يعود امبراطوريَّةً كالسابق، ولا ينطلق على طريقة مُقارعة المركزية الأوروبية ومنافستها؛ لا سيّما أنه يمتلك عناصر القوّة كلّها، من جغرافيا وموارد وبشر وظهير حضارى وفوائض مالية، والأهم خبرة سابقة فى الإقلاع والتمدُّد والابتلاع، من القرن السابع الميلادى إلى تجربة محمد على فى القرن التاسع عشر.

كانت إسرائيلُ اعترافًا استباقيًّا بتحرُّر الشرق وانعتاقه، ورفضًا مُضمرًا للتلاقى معه والتصالح على الفكرة من الأساس.

تُنسَب الشرارةُ الأولى إلى سايكس بيكو، الاتفاقية التى وقَّعها دبلوماسيَّان بريطانى وفرنسى فى العام 1916، وحملت اسميهما معًا.

والواقع أنها كانت أقربَ إلى إعلان مبادئ، وتعاقدٍ ثنائىٍّ على المستقبل. رسَّمَت الملامحَ الأُولى؛ لكنها لم تتجسَّد فِعليًّا إلّا فى مؤتمر سان ريمو بإيطاليا 1920، وبين التاريخين منح وزير خارجية المملكة المتحدة، آرثر بلفور، وعده الشهير للصهاينة، واستسلمت السلطنة العثمانية فى الحرب العالمية الأُولى، وأسلمت رقبَتَها للذبح واقتسام المغانم والأُصول.

وقع جبل لبنان وسوريا فى حظِّ فرنسا، واستحوذت شريكتُها على العراق وفلسطين، ثم أُعلِنَ الانتدابُ على الأخيرة بعد عامين، وبدأ التحضير لتحريك الخطة من النظرية إلى التطبيق.

وفيما يبدو أن القسمة كانت نتاج صراعات بين المُستعمرين أنفسهم؛ فالنتائج تقطعُ بأنهما عَمَلا معًا على التوازى والتوالى، كأنهما يشتركان فى برنامجٍ واحد.

سعى الفرنسيون لأن يكون لبنان دولةً للمسيحيين، ورعوا عِدّة دويلات حَوالىّ دمشق. واكتفى البريطانيِّون ببعض العراق ليكون نواةً لمملكة، وتركوا ما بين النهر والبحر سائلاً وجاهزا للتقطيع.

عمل الأوائل على الطائفية، ودعَّم الأواخر فكرةَ القومية؛ كما لو أنهم يتقصّدون اللعب بالشىء ونقيضه، ومُؤاخاة قُطبَى مغناطيس مُتنافِرَين.

والموقف من القومية إنما كان استشرافًا، لا رغبة ولا ترحيبًا. عرف المُستعمِر أنَّ خروجه سيُجدِّد مخزون المشاعر الجامعة، ويُعيد الناس للماضى حالَمَا تُفاجئهم فداحةُ الحاضر.

دعموها على نِيَّة تفكيكها، واستعدّوا بالورقة الصهيونية لها، ولِمَا بعدها من تبلور الهُويَّات الوطنية، والتئامها فى دولٍ ومشاريع ناضجة.

اختُرِعَت إسرائيل فى الزمان والمكان لضرورةٍ وظيفية، وما كان مُهمَّةً مُوكلة إليها فى السابق، صار شرطًا وجوديًّا لصلابتها، واستدامة حضورها وتأثيرها، وأولويتها لدى الغرب.

دخلت إسرائيل للمنطقة من خاصرةٍ رخوة، سيولة الشطر الأخير من الحقبة العثمانية السوداء، ثمَّ فوضى استيلاد الاستقلال من مخالب الاحتلال، وافتقاد الهُويّات الوطنية مع عدم تبلور مشروعٍ جامع.

وخاضت المنطقة فى سبيل ذلك نزاعاتٍ داخلية مُرهقة، وحروبًا مُكلّفة خارجيًّا، وتكفّلت بإضعاف بعضها البعض؛ بأكثر مِمَّا أضعفها المترصّدون وحابكو المؤامرة.

تحرّك الإقليم وابتكر مشاريعه السياسية، وتلاقت مع بعضها؛ فكان على إسرائيل أن تتصدّى للمرّة الأُولى لفكرة كُبرى حقيقية، وليست واهنةً كما كان فى حرب 1948، المأخوذة بشىء من العاطفة الدينية، وأشياء من التوظيف السياسى وطموحات البعض لإعلان الجاهزية وصلاحيتهم لإحياء إرث الخلافة، أو ما ينتمى إليه فى الظلِّ والأثر على الأقل.

تبلور الصراع بوضوح أكبر منذ الخمسينيات، ومن يومها أخذت تتوالى الحلقات، وتُسلِّم إحداها للأخرى، تحت سقف ألَّا تطرأ فكرةُ ضخمة بديلة وجامعة، ولا أن تتفتَّت الأفكارُ الصغيرة لدرجةٍ يستحيل ضبطها أو السيطرة عليها تمامًا.

والخلاصة؛ أنَّ كلَّ حيود عن الدولة الوطنية يزيد الجبهة هشاشةً، وكلَّ انصراف عن الجماعيّة الموضوعية المُنسجمة والمُثمرة، يُمكِّن للعدوِّ أن ينفُذ من الثغرات المُتّسعة.

إنه بحث فى التكامل دون اندماج، والتمايز دون قطيعة، والإفلات من حقيقة أن اجتماع الضعفاء لا يزيدهم إلَّا ضعفًا، وأنَّ تفرّقهم يُغرى الطامعين بهم، ويقضى عليهم بالتهاوى واحدًا تلو الآخر.

وُظِّفَت القومية العربية فى البداية لقَطع الطريق على أىِّ طموح أو خيال أو احتمالية لإحياء صيغة الامبراطورية الدينية، أو ذات النكهة والخطاب الدينيين.

وبالمثل؛ لعب استنهاض الدول الوطنية دورًا فى إحباط المظلَّة الجماعية، وتكفَّلت الشموليَّةُ والنَّزَعات الفردية بتقويضها من الداخل، إضعافًا ذاتيًّا وصراعاتٍ بينيّةً، ثمَّ استُخدمت المذهبية مخلبَ قطٍّ ضدَّها جميعًا، من مسار الجماعات الأُصوليَّة السُّنيّة وحركتها وراء الخطوط، أو الأخطر من جهة فارس ومشروعها للشيعية المسلحة، القافز على خرائط الحاضر، والمُحمَّل برواسب الماضى، وهواجس الخلافات العقائدية ومعاركها التى لا تقبل التسوية أو التصفية.

تجلّت الثغراتُ مُبكِّرًا فى نطاقٍ بعيد للغاية، عندما انقلبت الأُصوليَّاتُ العنيفة على رُعاتها الأمريكيين فى أفغانستان، وتمدَّدت اللوثة بزحفِ «القاعدة» العكسى نحو المنطقة العربية، وتشظّيها إلى تنظيماتٍ ومسلكيَّات إرهابيّة شتّى، كان أخطرها وأشدّها إزعاجًا تنظيم الدولة الإسلامية «داعش».

انكسر مشروع الإخوان فى الربيع العربى، وتعاظمت قوّة النموذج الشيعى وانفلاته من سوريا ولبنان إلى العراق واليمن.

أمَّا الأفدح بالنسبة لكُتَّاب السيناريو وحرّاسه؛ فتمثّل فى المحاولات الحثيثة لجَبر التناقُضات، وتنقية الأجواء بين الفُرقاء المُتضادِّين، والذين ما كان تضادّهم أصلاً؛ إلَّا لتظل أجواؤهم غائمةً ومُعبَّأةً بالغبار والروائح السامة.

عبَّدتْ أنقرة طُرقَها المقطوعة مع الجوار العربى، وبدا أن ورقة الإخوان تتآكل لآخر سطر فيها. استُعِيد «بشَّار» إلى الجامعة العربية بعد غيابٍ طويل، وعلى ما خالط العودة من تحدّيات، كانت فى الأمر بشارةٌ بمُداواة الاعتلالات وترميم النسيج المُهترئ.

وثالثةُ الأثافى أن تسعى إيران بعد طولِ عداوةٍ لمُصالحة خصومها، فتُبرِمُ اتّفاقًا مع الرياض فى بكين، ثمّ تُوطِّد العلاقات مع الإمارات، وتتسامى على أطماعها فى البحرين، وتُغازِلُ القاهرة من طرقٍ عِدّة، آخرها إعادة تسمية الشارع الذى يحمل اسم قاتل السادات فى قلب العاصمة.

بدا أنّ تطبيع العلاقات يُهدِّد الميكانيزم المقصود من تقطيعها سابقًا، وأنَّ تجانس مواقف القوى الإقليمية يُمكن أن يُشكِّل جدارًا مُضادًّا لفكرة إسرائيل ودورها، وما خلفها من أجنداتٍ خفيّة ومُعلنة. لن تكون التجربة سهلةً طبعًا؛ إنما لا تجوز المُخاطرة.

سُمِح لإيران الخُمينية بهامش حركة واسع؛ عندما خاصمت العرب وكانت خنجرًا فى خاصرتهم. ما يعنى أنها كانت دولةً وظيفية؛ ولو من دون قَصدٍ، وحدودها أن تكون عاملَ تأجيج لا تهدئة.

وعندما بدا أنها فى سبيل التحوّل جزئيًّا عن ذلك، عن قناعةٍ أو بغرض اتّقاء الشرور بعد كلِّ ما أصاب محورها وأذرعه؛ فإنها لم تعُد صالحةً للبقاء على صورتها القديمة.

باختصار؛ كانت إسرائيل تحتملها على مَضَضٍ عندما لَعِبَت إلى جوارها، باتّفاقٍ ومن دون اتفاق، وما عادت مُستعدّةً للاصطبار عليها الآن، بعدما أنجزت المُتاح من أدوارها، أو تفوّق العبء منها على المزايا، وتغيّرت بوصلتها باتّجاه الوفاق مع محيطها، والتفرّغ لمُعاداتها حصرًا.

يعرف الصهاينةُ أنَّ الصراع ذهب لنقطة اللا عودة، وأنَّ السياسة لم تعُد صالحةً لإعمار ما هدّمته الحرب. حتى الصفقة النووية لن تُغيِّر شيئًا، سواء كانت سيئةً أو جيدة؛ إذ يُمكن أن ترتدع إيران ظاهريًّا، وتنضوى تحت السقف المرسوم لها، لكنها لن تنقطع عن محاولات ترميم قواها، وتجديد مشروعها.

وبالتأكيد لن تتوقَّف عن النفخ فى جمرة الثأر المُتّقدة فى صدرها، وإن عجزت عن تحويلها نارًا حارقةً بالصواريخ والمُسيّرات؛ فما يزال مُمكنًا التعويض عن الهزيمة المُباشرة ببدائل غير تماثُليَّة، وعمليات صغيرة مُتفرّقة، وضرباتٍ تحت الحزام فى المنطقة وخارجها.

وفصل المقال؛ أن تلَّ أبيب قطعَتْ تذكرةً باتجاه واحد، وكما لم تحتمل التعايش مع عدوٍّ تراه جارحًا ويُرقّى قدراته بلا هوادة؛ فلن تتقبّل مُساكنَتَه بعدما صار جريحًا ومطعونًا فى كرامته وكبريائه المُقدّسة.

لُعبة الابتلاع بعد إنجاز الأدوار لها سوابق مُتعدّدة. يُمكن قراءة حال «حماس» الراهنة من الزاوية نفسها، وحزب الله فى لبنان، بل بشار الأسد نفسه بإحلال الجولانى بديلاً عنه، على أن يكون الأخير حلقةً جديدة فى ذات المسلسل، ويتحدّد دوره ومدى حركته على مسرح الأحداث، بما يُحقِّق من أهدافٍ أو يصطدم بثوابت، وعند حدٍّ مُعيَّن سيُستعاض عنه ببديلٍ أكثر جاهزية أو طزاجة.

كان عبد الناصر خطأ غير محسوب فى البرمجة. حالته آخر المُراد قطعًا، أمَّا ما قُصِد من القومية فأن تكون على نموذج البعث بأجنحته المُتصارعة، لا وفقَ مشروع نهضوى تحرُّرى، كان قابلاً للحياة والتمدد؛ لولا الانتكاسة الناشئة عن خطأ فى الحساب والسلوك.

وحُورِبت التجربة مُبكّرا بحلف بغداد، ثم بإفشال مشروع الوحدة، وصولاً إلى النكسة وأيلول الأسود وتصدير الأزمة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان.

حمل السادات بديلاً أكثر تكيُّفًا مع السياقات، أنجز الانتصار الوحيد على الاحتلال، وألقى حمولته على طاولة التفاوض؛ استشعارًا لثِقَل المواجهة مع واشنطن.

ومن جديد كان التشغيب بجبهة الصمود والتصدّى، ومقاطعة مصر وطردها من الجامعة العربية، ومحاولة ابتكار مراكز بديلة لا تستند إلَّا لصخب الحناجر أو سطوة المال.

وكان مُتاحًا درء المفسدة وإعادة تأهيل الإقليم بكامله؛ لو التَحَقَ المجموعُ الهادر بالمسيرة المصرية، بدلاً عن انتظار أربعة عقود أو يزيد قبل التمنّى على ما كان مُمكنًا وصار مستحيلاً.

فُكِّكَت القوميَّةُ بالهزيمة، وأجهَزَ المُمانعون على إرثها بالشعبويَّة البعثية أوّلاً، ثمَّ بالإمامية الشيعية لاحقًا.

كلُّ مرحلة تستدعى الأسوأ، وكلُّ تركةٍ تُصَفَّى يتعيَّن تلزيمها إلى وارثٍ جديد.

وفيما ورثت إيران ما كان قبلها، فإنَّ إرثَها الآن معروضٌ على التداول والتجزئة. يُحتَمَل أن تتلقّاه العثمانية الجديدة بامتدادها الطارئ فى الشام، أو تتنافس عليه دول السلام الاقتصادى، بمشروعها التنموى المُراهن على ترويض الغرب بالمنفعة والمصالح المشتركة.

والسباق بين الجناحين سيظلّ مطلوبًا من الغرب، وآمنًا أيضًا؛ ما لم يُظهِرَا من التكامل ما يُهدِّد إسرائيل أو يُناطح هيمنة واشنطن.

وستكون المرحلةُ المُقبلة فاصلاً انتقاليًّا؛ لحين المُفاضلة والانتقاء وضبط المساحات والأدوار، أو انتداب بديل أكثر صلاحية ونفعًا، وربما إعادة تفعيل اللعبة ضد الرابح منهما، أو ضدهما معًا.

صحيحٌ أنَّ التشابُك مع العالم الأوَّل يُغيِّر كثيرًا فى المُعادلات القائمة، ويُحقِّقُ حصانةً نسبيّة بربط الفاعلين الإقليميين عضويًّا مع السادة الخارجيين؛ لكنَّ الأخطاء العارضة تظلُّ واردة طوال الوقت، وتضخّم الطموحات أيضًا، ومن دون الانضواء فى المسار الصهيو-أمريكى بتسليمٍ كامل؛ فالمصير الخَطِر يُحلَّقُ فى سماوات الجميع طوال الوقت.

«الديجا فو» ظاهرة شائعة، تتّصل بخَللٍ فى الوصلات العصبية أو آليات حفظ الذاكرة واسترجاعها. وهى عبارة عن شعور بسَبْق الرؤية؛ كأنْ تشهدَ الحدثَ فتعتقد أنك مَرَرتَ به سابقًا.

تُعرَّف بصِفَة الوهم؛ غير أنها فى المنطقة العربية، وربما الشرق إجمالاً، تبدو أقرب إلى الحقائق من التخيُّلات، وأشبه بدراما دائريَّة تتكرَّرُ فى مُتواليةٍ تراجيديّة لا تنقطع.

نُراقب الاشتباكَ اليومَ كما كان قبل ما يزيد على عقدين، وتُخيّم أجواء الخراب على فضاء طهران كما احتلّت سماء بغداد. خامنئى يتحدَّث أمس بما لا يختلف عن صدّام، وبيانات الحرس الثورى تستدعى صورة محمد سعيد الصحاف.

الصهاينة كما كانوا دائمًا، والأمريكيون أيضًا، والمآسى تتناسل من بعضها دون انقطاع؛ كأننا ما عشناها سابقًا، ولا تعلّمنا من دروسها شيئًا.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

القانون ينظم ضوابط فحص الطلبات بعد غلق باب الترشح بانتخابات الشيوخ

اتحاد الكرة يستقر على إقامة السوبر المصري بمشاركة 4 فرق

بالأرقام.. مودريتش يودع ريال مدريد بعد مسيرة أسطورية

باراك: واشنطن لا تدعم إنشاء دولة لـ"قسد" فى سوريا

غادة عبد الرازق تكشف عن تعرضها للإصابة وتجلس على كرسى متحرك


انفجارات عنيفة تدوي في مدينة جبلة السورية

طلاب الهندسة الحيوية بالإسكندرية ينجحون فى تصميم ذراع روبوت بـ6 درجات حرية.. "6-DOF" يُستخدم كمساعد لأطباء الجراحة فى المستشفيات.. تنفيذه يكلف نحو 22 ألف جنيه.. وأعضاء هيئة التدريس يشيدون بالمشروع.. صور

مانشستر سيتي: هالاند يستمع إلى ألبوم عمرو دياب الجديد

تسونامى المخدرات يهدد أمريكا اللاتينية.. الكوكايين ينتشر فى البرازيل ويضرب 11 مليون متعاطى.. السباق التكنولوجى للتجار فى كولومبيا يؤجج المخاوف.. "مخدر الزومبى" يثير الرعب فى المكسيك.. والفنتانيل ينتشر فى تشيلى

هل سيتم تخفيض تنسيق الثانوي العام بالقاهرة ؟.. اعرف التفاصيل


موعد مباراة تشيلسي ضد بي إس جي فى نهائى كأس العالم للأندية 2025

السيطرة على حريق مصنع منظفات وكيماويات مدينة بدر وبدء عمليات التبريد

عداد صفقات الميركاتو الصيفى.. الأهلى الأكثر حضورا والزمالك وبيراميدز "اختفاء"

25 سيارة إطفاء تكافح حريق مصنع منظفات وكيماويات مدينة بدر

الأسترالي علي رضا فغاني حكما لنهائي كأس العالم للأندية

الهيئة الوطنية تنشر آلية استعلام المواطنين عن مقر اللجان بانتخابات مجلس الشيوخ

وادى دجلة يهزم غزل المحلة 3 - 0 وديا استعدادا للموسم الجديد

محمد ثروت يهنئ ابنته داليا بعد حصولها على درجة الماجستير من بريطانيا

سر تجدد اشتعال النيران في سنترال رمسيس.. مدير الحماية المدنية الأسبق يوضح

أحمد الرافعى يستعد لتصوير دوره فى حكاية ديجافو بهذا الموعد

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى