معارك "الفبركة" فى مجتمعات افتراضية

على مدى الأيام القليلة الماضية، كانت معارك الصواريخ المتبادلة بين إيران وإسرائيل هى المسيطرة على الرأى العام العربى والعالمي. لكن هناك معارك أخرى لا تقل فى ضراوتها عن الصواريخ التى سقطت على تل أبيب أو طهران. هى ببساطة معارك "الفبركة".
نعم "الفبركة" التى كانت هى الأخرى معارك محبوكة فى الصنع والتنفيذ والأدوات المستخدمة وخاصة "النيوميديا"، واستطاعت أن تشغل الرأى العام، وتقوده إلى سلسلة من الأباطيل والأكاذيب، بعضها مصنوع عن عمد ومنهج، بينما غالبيتها تسيطر عليه الفكاهة وخفة الدم.
ما بين التطبيقات الذكية التى شهدتها المواجهات والبيانات، وعمليات الاغتيال التى نفذت داخل الأراضى الإيرانية، وتحولات المجتمعات الرقمية، يبدو أن العالم دخل مرحلة جديدة من الحروب غير التقليدية، لم تعد فيها الساحة قتالية ميدانية فقط، بل أصبحت إلكترونية، تدار عبر إشارات الهواتف، وخوارزميات الذكاء الاصطناعى، وتطبيقاته فى المراسلة.
فى هذا السياق، يصبح أمن المعلومات، والسيادة الرقمية، والإعلام المسؤول، خطوط الدفاع الأولى لأى دولة تحرص على بقائها واستقلالها فى عالم لا يعترف بالحدود التقليدية.
هذه الأزمة تسلط الضوء على الأبعاد الأوسع للمجتمع الرقمى، الذى أصبح يمثل فضاء يتجاوز الحدود الجغرافية، ويشكل واقعا موازيًا للعلاقات الإنسانية.
فى هذا العالم تُبنى مجتمعات افتراضية أخرى حول اهتمامات وأفكار مشتركة بين الناس.
هذه المجتمعات تنشأ عندما يتبادل الناس النقاشات العامة عبر شبكة الإنترنت لفترة كافية، بما يسمح بتكوين علاقات حقيقية داخل الفضاء السيبراني.
ورغم ما تحمله هذه المجتمعات من فرص للتواصل والتعلم، إلا أنها أصبحت فى ذات الوقت تمثل ساحة لصراعات خفية لا يدركها المتلقى والمشارك، فهى تتخذ من البيانات والمعلومات وسيلة للحرب والتجسس والتأثير.
تواجه وسائل الإعلام فى بلدان العالم الثالث تحديات مضاعفة فى ظل هذه المعادلة المعقدة، نتيجة تعقيدات البنية الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن الهيمنة الإعلامية الغربية.
وللأسف العميق فإن دول العالم الثالث غالبا ما تُستخدم كسوق استهلاكية للمنتجات الإعلامية الغربية، دون أن تمتلك أدوات إنتاج بديلة تعبّر عن واقعها ومعاناتها الحقيقية.
هنا فإن تعزيز السيادة الإعلامية أصبح ضرورة ملحة، وهو لا يتحقق إلا عبر تطوير إعلام وطنى قادر على قراءة التحولات الرقمية، والتحرر من التبعية التقنية وربما الفكرية.
الإعلام واستخداماته فى الحروب على الواقع الافتراضى أصبحت علاقة حساسة، تتطلب توازنًا دقيقًا بين الشفافية والحفاظ على الأمن القومى للدول.
وكما كانت المجتمعات القديمة تعاقب الخارجين عن القانون فى الساحات العامة، أصبحت منصات الإعلام اليوم تؤدى وظيفة مزدوجة فى تكوين الرأى العام وتوجيهه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، والوعى بهذه الوظيفة المزدوجة، فى ظل التحديات التقنية والاختراقات السيبرانية، يشكل حجر الأساس لأى سياسة إعلامية رشيدة فى العصر الحديث.
واقعيا، فقد استخدمت وسائل "النيوميديا " فى خضم صراع إلكترونى واستخباراتى محتدم فى الشرق الأوسط. فقد اتهمت وسائل إعلام إيرانية خلال الساعات الماضية إسرائيل باستخدام تقنيات إلكترونية متقدمة لتتبع الهواتف المحمولة واستهداف شخصيات بارزة داخل إيران، من بينها علماء نوويون وقادة عسكريون رفيعو المستوى.
وسائل إعلام تابعة للحرس الثورى الإيرانى ذكرت أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلى اعتمد على إشارات الهواتف الذكية لتحديد مواقع المستهدفين وتصفيتهم، حتى فى الحالات التى كانت تُطفأ فيها الأجهزة!
تقارير أخرى تحدثت عن أن هذا الأسلوب قد استخدم مسبقا فى إغتيال القيادى بحركة حماس إسماعيل هنية بطهران، وهو ما اعتبرته طهران تطورا نوعيًا فى أساليب الاستهداف والاختراق.
رغم اتخاذ القادة الإيرانيين لاحتياطات أمنية – مثل التخلص من الهواتف أو إيقافها فى أماكن محددة – إلا أن عمليات الاغتيال استمرت، ما يشير- وفق الرواية الإيرانية - إلى اختراق عميق للدوائر العليا فى إيران.
وسط كل هذه العواصف، لا يملك المستخدم العادى سوى التمسك بثوابته الوطنية، والتأكد من صحة ما يتم نشره من معلومات.. فحروب العالم الافتراضى ربما يكون تأثيرها أعنف بكثير من الحروب الميدانية.
Sherifaref2020@gmail.com
Trending Plus