أوهام ودعايات وحفلات شواء.. ورقة ويتكوف وحال غزّة بين عجز المقاتل وعناد المفاوض

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

ما أكثر الفخاخ فى غزّة، الآن وفيما مضى أيضًا. ورقةُ المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف المُحدَّثة للهُدنة من تلك النوعيَّة دون شَكٍّ؛ لكنها حلقةٌ فى مسلسل طويلٍ ابتكرته إسرائيل، وفرضَتْ قانونَه الدرامىَّ الكئيب على حماس.

وبالمعنى نفسه؛ يُمكن النظر إلى خطوة «فكّ الارتباط» قبل عقدين كاملين، ثمَّ تحفيز بواعث الانقلاب على السلطة الوطنية، ورعايته، والاجتهاد بكلِّ السُّبل لتمكين الحركة وتدعيم حكمها الانفرادى للقطاع.

دائما ما كانوا يخرجون من محنةٍ إلى أصعب منه؛ وبأثر التقدير المُبالَغ فيه للذات لا يستوعبون الدروس، ويعُدّون الخروج انتصارًا فى كلِّ مرَّة، ولا يرون الانزلاق التالى مُؤشِّرَ خطرٍ، أو داعيًا إلى التمعُّن والفحص، وابتكار مُقاربةٍ من نوع جديد.

قدّم الحماسيِّون ردَّهم على مُقتَرح واشنطن، وجاء مشمولاً بما يُشبِه الرفضَ؛ كما كان مُتوقَّعًا. صارت التجربةُ عِبئًا على أصحابها، وكابحًا لحركتهم فى مجال المأساة.

يحكُم السنوارُ قاعدته المباشرة وجمهورَه العريض من القبر؛ مثلما كان يحكمُهم من نفقِه الغائص فى بطن القطاع. أفاضَ الرجلُ فى أحلامه، ولم يُنبئهم بالبديل حال الإخفاق؛ فظلّوا وُقوفًا على أطلال الطوفان، طامحين لصَرف ما تعذّر عليهم فى الميدان، وعاجزين عن احتواء ما تُلقيه السياسة على كواهلهم فى غُرَف القتال بالكلام.

عينان فى النار، وخيالٌ يُلامس الوهمَ بإمكانية النجاة الكاملة، والعودة بالجماعة إلى سيرتها الأُولى. لا أحدَ يجرؤ على تخطئة القائد الشهيد، ولا على المُبادرة بمحاولة إصلاح ما أتلفَه الهوى؛ كأنهم مَنذورون لتراجيديا يعرفون أقدارَها السوداء يقينًا، ولا يسعون للفِكاك من نهاياتها بأقلِّ الأضرار المُمكنة.

لعبةُ القطّ والفأر ما زالت صالحةً بعد عشرين شهرًا من المُطارَدة. تقبَلُ الفصائل شيئًا فيرفضُه الاحتلال، والعكس، وتعودُ الجولة إلى نقطة الصفر ظاهريًّا؛ غير أن القاتل يزدادُ قوَّةً، فيما تتآكَلُ مُقاومة الضحايا وآمالهم وقدرتهم على الصمود.

والحلقةُ الجُهنّمية إن استمرَّت على حالها؛ فلن تصُبَّ إلَّا فى صالح الصهاينة دومًا. وكان لافتًا أنَّ الأخيرين وافقوا على الصفقة المطروحة سريعًا؛ ربما لأنها تتلاقَى مع أهدافهم القريبة والبعيدة على السواء، أو لانعدام فُرَص المناورة والاعتراض اتّصالاً بضغوطٍ جادّة من إدارة ترامب؛ لكنَّ الأخطر على الإطلاق يعودُ لاطمئنانه إلى مَوقف الطرف الآخر، بما لا يجعلُه فى حاجةٍ للتمسُّك بخياراتٍ يحرسُها الخصوم، ويتشدَّدون فيها أكثر منه.

وهذا ما يُحقِّقُ له هدفًا مُزدوجًا، أن يدخُلَ فى أجواء التفاوض بدماغٍ بارد، ويبدو توافُقيًّا يُقدِّم الِّلين على التصلُّب، فيما يظلُّ بإمكانه أن يعود لاستدراك شروطِه فى صورة الردِّ على الردّ؛ أو الاحتفاظ بالورقة مطويّة وراء ظهره مع ابتسامةٍ باهتة.

الحربُ ظالمةٌ بطَبعها، ولا تنشأ إلَّا من اختناق السياسة وتضييق هوامش التسوية الهادئة. وانطلاقًا من خشونتها؛ فإنها لا تحفَلُ سوى بالقوَّة، ولا تُجيد إلَّا لُغة النار. وقانونها يُفضى طوال الوقت لتقوية القوىِّ وإضعاف الضعيف؛ لهذا يتوجَّبُ الهروب منها كلَّما كان مُتاحًا، وعدم الاندفاع إليها من دون ضرورة قاهرة، ولأهدافٍ يكون المطروح منها سِلمًا أخطرَ من أسوأ ما يُبشِّر به القتال.

ولا تنطَبقُ الوقائعُ هُنا على أحداث السابع من أكتوبر وتداعياتها، أو بقاء الحماسيِّين فى أجوائها، مع كلِّ ما ينزفونه بين الجولة وتاليتها. فالمُفاضلة لم تَعُد بين نصرٍ وهزيمةٍ حُسِمَ الجدالُ فيهما منذ أمدٍ بعيد؛ بل بين الخروج بساعدٍ مكسور، أو البقاء حتى تُبتَرَ الأطرافُ جميعًا.

فقدَتْ ورقةُ الأسرى كلَّ ما لها من وهجٍ وفاعلية فى فاتحة الصدام. خبرةُ الحركة أعادتها إلى زمانٍ عتيق، ولم يَعُد صالحًا للاستدعاء مُجدَّدًا للأسف.
فتّشت فى أوراق الذاكرة؛ فوجدت حكايةَ جلعاد شاليط، الجندىِّ الذى أدارت عليه مفاوضاتٍ ماراثونيَّةً لخمسِ سنوات، واستبدلَتْه بألفٍ منهم «السنوار» نفسه. لكنها اضطُرَّت فى ثُلث المُدَّة فقط إلى تبديد ثلاثة أرباع مخزونها تقريبًا، لشراء ما يزيد قليلاً على شهرين من الهدوء الحَرِج، وبضعة آلاف من شاحنات الطعام والإمدادات الحيوية.

وما يتبقّى حاليًا يكفى بالكاد، وفى ضوء مُعادلات الماضى، لتبييض السجون وإنعاش مسار التسوية السياسية، ولا يُحقِّق بمُعاملات الحاضر ومفاتيحه أكثر من أسابيع رماديَّةٍ، تتجدَّدُ المَقتَلةُ بعدها، فيما يتحرَّرُ مئاتٌ كانوا أحرارًا أصلاً قبل الطوفان، ولا مانعَ من إعادتهم وغيرهم للسجون بعدما يسقط الاتفاق لاحقًا.

تخطَّت المسألةُ نطاقَ المُقايضات المعهودة، وأربعَ حروبٍ سابقة على القطاع، كانت الحركةُ تخرج منها بأنفٍ نازفٍ ورأس مرفوعة، وفيضٍ من المشاعر الصاخبة واستشعار المَنعَة والبأس. تخشى، على ما تقول، من أن يتبدَّد خزَّانُ الرهائن، آخر ما تملكُ من أوراق، وأن يعود العدوان شرسًا من دون جدارٍ لاتِّقائه أو ترويض وحوشه الجائعة.

غير أنَّ ما يحدثُ فعلاً، ومع وجود الأسرى، لا يختلف عمَّا يخشَونه فى خيالاتهم المُستقبلية. الجغرافيا خراب، والديموغرافيا مُشرّدة وتتوّزع بين جائعٍ وقتيل، والحربُ مُتأجِّجةٌ بلا سقف أو رادع.

كأنَّ «الحيّة» وفريقَه المُفاوِض يُحذّرون الناس من الجحيم بعد التفريط؛ فيما القطاعُ بساكنيه يُقيمون فى أعمق حفرةٍ من جهنم بالفعل، ولا يتوقّف وُلاةُ أمرهم عن الحَفر، كما أنَّ الشروطَ تزدادُ تعقيدًا بعد كلِّ رفض، والبدائل غير مطروحةٍ على الإطلاق.

وما فاتَ وصفةٌ مثاليَّةٌ لِمَا يتمنّاه نتنياهو ويسعى إليه، بغَضّ النظر تمامًا عن فارق القوَّة وبجاحة الانحياز الأمريكى؛ لأنهما من طبائع الأمور، ومَعروفان سَلَفًا فى تركيبة الصراع مع الصهاينة، بمَنطق المعلوم من الدين بالضرورة؛ على الثابت الذى لا يغيبُ عن أذهان الأُصوليِّين مُعتَقدًا ومُمارسة.

فى الأثر؛ أنَّ طارق بن زياد لَمَّا وَصلَ الأندلس أحرقَ المراكب التى أقلّت جنوده، وقال لهم: «العدو أمامكم والبحر من خلفكم»؛ غير أنه استبَق الإذعان بالإعداد، وفرضَ قانونَه الانتحارىَّ على مُقاتلين خرجوا تحت ظلِّ لائحةٍ يقعُ الموتُ فى رأس بنودِها. القصّة غير ثابتةٍ على وجهٍ قاطع؛ لكنها صالحةٌ للتمثُّل والاستشهاد دلاليًّا.

والسنوار على ما يبدو تقمَّص صورةَ المُجاهد البربرىّ العنيد؛ من دون كفاءته وجاهزيته، وأطاح بمليونَى مدنىٍّ فيما لم يُعَدّوا له أو يختاروه. والمُؤكَّد أنه عندما اختار الاشتباك من الذروة، ومع أسوأ نكهةٍ من اليمين الصهيونى المُتطرَّف، كان واعيًا بأنه لا يذهَبُ إلى نُزهةٍ، أو يُناوش الضِّباعَ من خارج الأقفاص مُحكَمَة الإغلاق.

أعَدَّ رصاصتَه الافتتاحيّة، وكدّس الرجالَ والعتاد بين مصارين الأرض، وتركَ العوام فى العراء لرَبٍّ كريم. ماذا بعد الغزو إنْ نجحَ؟ لا شىء على الإطلاق. وماذا عن الإخفاق؟ سنكونُ وديعةَ الآخرين وذنبَهم الساخن طوال الوقت. وهل أعدَدتَ مسارًا جانبيًّا للانفلات إذا تعقَّدت المسارات؟ هُنا تقمَّص رُوحَ أسماء بنت أبى بكر إزاء ابنها عبد الله بن الزبير: يا بُنَىَّ لا يَضُرّ الشاةَ سلخُها بعد ذبحها!

مات القائدُ الصنديد؛ لكنَّ مُقامرته ليست من نوعيَّة الأعمال التى تُدفَن مع أصحابها. طُعِنت «أوسلو» باغتيال رابين، وشُيِّعت جنازتُها مع عرفات فى تابوتٍ واحد، أو ربما قبل حصاره وتسميمه بوقتٍ طويل.

هكذا السياسةُ، تُنجز بهدوء، وتفشل أيضًا بهدوء. أمَّا الحروب فتَستَولِدُ منافعَها بأعباء باهظةٍ، وتُضاعِفُها على الخاسرين كذلك.

والحركةُ على ما يبدو خلطَتْ بين الطبيعة والدور، ووظّفت كليهما فى غير مدارهما القويم: سلاحُ المقاومة كان أداةً لإرعاب بيئتها وتطويعها قبل الآخرين، وسُلطةُ الحُكم يسّرتْ لها أن تنفَرِدَ بقرارات التصعيد والتبريد، وبعدها عادت فصيلاً يلعَبُ بالسلاح ولا يُسأَل عن المآلات.

حالةٌ من الاحتيال على الجمهور، تتبدَّلُ فيها الأقنعةُ والأدوار حسب الهوى؛ فإنْ طلَبْتَ تأطيرَ الميليشيا، حجمًا وأثرًا؛ تُفاجأ بأنك إزاء حكومة، وإن دَعوتَها للاضطلاع بمهامِّها تجاه الحياة لا الموت، أجابك مُقاتلٌ من الأنفاق بأنهم مَعنيّون بالنضال لا الإدارة.

والخَلطُ الذى وحَّد المادَّتين فى رأسٍ واحد؛ يُعَطِّل فلسطين منذ عقودٍ عن أن تكون فعّالة بالبندقية أو الدبلوماسية، وكذلك عن استبقاء المَظلَمة صافيةً وخالصةً لوجه أصحابها من العُزّل المنكوبين.

الحربُ الجارية أفدح خطايا حماس؛ لكنها ليست أسوأها على صعيد الآثار العميقة، والإضرار بفلسطين حتى النخاع. استيلاؤها على القطاع خلقَ وضعًا هجينًا تنبِضُ فيه القضيّة على إيقاعين مُتنازِعَين، ويُحتَجُّ بأحدهما على الآخر كلَّما حَلَّ أوانُ الكلام الجاد.

وما كان مع «رام الله» لسنواتٍ خَلَت؛ يبدو كأنه يتكرَّرُ فى أروقة الحركة اليومَ. تقولُ الفنادق فتعترض الخنادق، أو العكس، وكلاهما ليس على الموجة ذاتها؛ لأنَّ فريقًا يتنفَّسُ من رئةٍ إخوانية، والآخر يُداخله الهواء من خاصرةٍ شيعيَّةٍ مَطعونةٍ بخنجر المُمانَعة الصدئ، وخذلانِها أيضًا.

عرفَتْ حماس مُبكّرًا أنها أطلقت الرصاصَ على نفسها. تضخَّمت عمليَّةُ الغلاف بأكثر مِمَّا يفوقُ قُدراتها، وقضَمَتْ ما لا تستطيع مَضغَه أو ابتلاعه.
والأيَّام الأُولى كشفَتْ لها أنَّ المحور لن يقفز عن مقاعد المُتفرِّجين، وغاية ما يُمكنه الإسهام به أن يُفعِّل ورقةَ الحزب فى نطاقٍ محسوب، تحت عنوان «الإسناد والمشاغلة»؛ ولولا أنَّ إسرائيل سرّعت التروس وسَعَتْ لحَسْم الاشتباك؛ لبَقِيَت الأوضاعُ على حالها حتى الساعة.

لا مُساندةَ ولا إشغال، وضَررٌ يفوقُ المَنافعَ الحاضرةَ والمأمولة، مع فيضٍ من الذرائع والدعايات المُدَعِّمة لسرديَّة العدو، فيما يرتاحُ النوّاب عن المنكوبين إلى تعثُّر الضمير العالمىِّ بين غمضة عَينٍ وانتباهتها، ويكتفون بالوَصْم وتلطيخ وجه الصهاينة بالدم، دون بحثٍ حقيقىٍّ وجادٍّ عن كَىِّ الشرايين المفتوحة، وإنقاذ ما تبقَّى لها من فُرَص الحياة والأمل.

مُنِحَ نتنياهو فُرصتَه الذهبيَّة؛ وقد اغتنمها على أحسن ما يكون، بما يليقُ به ولا يختلف عن طبيعته النازية التى نعرفها. استدرجَ الحركةَ لمُقامرتها منذ البداية، ووظَّفَها للهروب من ضغوط الداخل، وإعادة بناء مَظلَّة الإجماع؛ ثمَّ أخذ يلعَبُ بالفريقين بمهارةٍ ظاهرة.

حماس تستفزُّ الكرامةَ العِبريّة المُهدَرة وتُغذّى لديهم نزعةَ الثأر؛ فيصخبُ اليمين على إيقاع نتنياهو أو يتخطَّاه، وعلى هذا المنوال أُدِيْرَت شُهور البداية حتى تثبَّتَتْ قواعدُ الجولة؛ وما عاد ترقيقُ خطاب الفصائل أو تصعيد غضب الشارع العِبرىِّ فعّالاً أو مُنتجًا.

امتطى عجوزُ الليكود موجةَ الطوفان، وقادها؛ حتى انفرد بالمشهد تمامًا، وصار عَصيًّا على الترويض محليًّا أو خارجيًّا؛ وحتى من الحليف الأمريكى.
يُجاريه البيتُ الأبيض بغَرَض الاحتواء، ويسعى لتمرير الوقت إلى حين استنفاد إمكانات البقاء فى الميدان بنعومَةٍ وتدرُّج، أو الوصول لمحطَّة التغيير السياسى؛ دون أن يبدو انقلابًا على إسرائيل فى محنتها.

وفيما لا تخلو «صفقة ويتكوف» من انحيازٍ واضحٍ لا يُنكَر، وتجور على فصائل غزَّة دون أن تمنحَ عوامَّها ضمانةً حقيقية بالهدوء المُستدام؛ فربما يصحُّ النظر إليها من زاوية الاستراق، ومحاولة تطويق حكومة اليمين والالتفاف على ضجيجِها العالى. لا سيّما أنَّ الجوهر واحدٌ فى كلِّ الأحوال؛ بمعنى أنَّ واشنطن لا تختلفُ مع تل أبيب بشأن إزاحة الحماسيِّين، وإخراجهم من القطاع ماديًّا أو مَعنويًّا.

وهذا ما تكشّف بوضوحٍ للفاعلين داخل التنظيم، ورُعاتهم الخارجيين، منذ شهور طويلة، وما يناورون بكلِّ السُّبل لإرجاء تداعياته أو تحجيم أثرها على البناء والأيديولوجيا؛ ولو كان المقابل أن تستطيل المُنازَعة فى فضاءٍ ضبابىٍّ، على أمل أن تتحسَّن الظروفُ أو تتبدَّل التوازُنات؛ فتسقط الحلول الورديّة من السماء.
لكنَّ الواقع يُغلِقُ حدودَ الدراما على ما نرَاه الآنَ. المُمانَعة خرجت من الصورة تقريبًا؛ ويتبقّى أن تُوقِّع عقد الانسحاب إلى أجلٍ غير مُسمَّى. والاستفاقةُ الدولية تخصِمُ من الصهاينة فى السياسة، ولا تُقوِّض جنونَهم فى الميدان.

وباختصارٍ؛ ليس لدَى خليل الحيّة وفريقِه ما يُراهنون عليه عند العدو أو الصديق أو المُحايدين المُتردِّدين جيئةً وذهابًا. كلُّ ما يُدَان به الاحتلالُ لا يصُبُّ إطلاقًا فى خزانة المُقاومة، إذ يتوجَّه بالأساس إلى المدنيِّين، مع إمكانية تصريفه لحساب النضال الوطنى على صورته السلميَّة، وهذا ما يُشاغِبُ فيه الحماسيِّون قبل غيرهم، ويُعطّلونه عَلنًا أو فى الغُرَف المُغلقة.

ولا يُفهَم من أىِّ وجهٍ لماذا يُربَطُ الشِّقُّ الفلسطينى من مستقبل القطاع بالتفاوض مع الاحتلال على إنهاء العدوان. بمعنى أنَّ قادة الحركة لم يُبادروا إلى الخروج من أزمنة الفُرقة والانقسام، ولم يَستدعوا السُّلطةَ الوطنية للاضطلاع بدورها فى الموقف الراهن، أو يُشركوها فى المُداولات ويُفوِّضوها بإدارة «اليوم التالى» صراحةً؛ دون اشتراطاتٍ مُسبَقَة أو حساباتٍ فصائليَّة غير مُصرَّح بها.

وإذا كان المُعلَن صحيحًا فعلاً، أىْ أنَّ حماس جاهزةٌ للتنحّى عن الحُكم، وتَقبَلُ على ما تردَّد بأن يُوضَع السلاحُ فى المخازن تحت رقابة إقليمية ودولية؛ بل تطلُبُ هُدنةً طويلةً نسبيًّا، من خمسٍ إلى سبع سنوات، بحسب رَدّها على مُقتَرح ويتكوف؛ فلماذا يُقدَّمُ ذلك لتل أبيب قبل رام الله، أو دونها.

وما الصيغة التى تُحقِّقُ الانسحاب دون إشراك مُنظَّمة التحرير؛ اللهم إلَّا أنْ تتغيّر اللافتةُ فحسب، وتستبقى الجماعةُ مفاعيلَ الماضى دون عنوانِه المعهود.
والقصد؛ أنهم يقولون ما لا يفعلون، وعينُهم على البقاء المُتاح بِنِيّة التسرُّب من الشقوق مُستقبلاً لاستعادة الكثير الضائع. فكأنَّ الحرب كانت فاصلاً بين حقبتَيْن حماسيِّتَين، والقائمون على مُفاوضة إنهائها لا يرون السياقَ خارج استبقاء الأيديولوجية رافعةً لإعادة بناء الهياكل التنظيميَّة لاحقًا.

والخفىُّ فى هذا الموقف؛ أن غزّة لا معنى لها من دون الحركة، والصفقة لا فُرصةَ لإنجازها طالما تقطَعُ الطريقَ على الآمال المطمورة فى صدور أصحابها. فالرَّفض هُنا ليس دفاعًا عن القضيَّة فعلاً؛ بقدر ما يختزِلُها وأهلَها ضمن مشروعٍ فصائلىٍّ يعلو على فلسطين، ولا يُعلِيها كما يدّعى أو يُتاجِر.

صرّح «الزهَّار» من قبل بأنَّ فلسطين ليست أكثر من مِسواكٍ فى فَمِ التنظيم، وعَدَّ خالد مشعل كُلفةَ الحرب الباهظة مُجرَّد خسائر تكتيكية، والشواهد فى هذا عديدةٌ وتفوق الحصر. وبهذا تتلاقَى الحركةُ الإخوانية مع مُعادلِها اليمينىِّ الصهيونى، بشِقّيه التوراتىِّ والقومى، فى تقزيم الصراع وتلزيمه إلى عناوين طائفية، بعدما استُثِمَر عقودًا فى سياق الشَدِّ والجذب بين القوميَّة العربية والأُمَميَّة الدينية.

لا يُحبُّ نتنياهو أن يجِدَ شريكًا صالحًا للحوار وقادرًا عليه، ولديه نفاذٌ إلى العالم ومَنطقِه، وطاولاته المحكومة باعتباراتٍ غير عادلة غالبًا. يُطربُه الانقسام ويُحقِّق تطلُّعاته، وقد استثمرَ فيه وما يزال، وبعدما أخرج غزَّة من تحت عباءة السلطة، صوَّبَ على الأخيرة ويسعى لإطاحتها من المشهد.

ومع كلِّ ما فى مُنظّمة التحرير ومرافقها من ضعفٍ أو عوار؛ فإنها حُورِبَتْ ببنادق القسَّاميِّين أضعافَ ما حاربَها الاحتلال، وأفضى إضعافُها سريعًا إلى تأطير القطاع وابتلاعه، وما عاد بإمكان الحركة أن تُصحِّح أخطاءها إلَّا بالاندماج فى الكيان الذى تراه باهتًا، بعدما ذاب كيانُها الصاخبُ وتفتَّت، ولم يَعُد صالحًا أو قادرًا على الاضطلاع بأيَّة أدوار حقيقيَّة فاعلة.

ما قدّمته حماس يكاد أن يكون مُقتَرحًا مُغايرًا لنسخة ويتكوف. فيما لا تملكُ الحركةُ إمكانيَّةَ تمرير رُؤاها، واختبرت الموقفَ ذاتَه سابقًا ولم تفلح فيه. ونتنياهو من جانبه، تركَ مهمّةَ التعقيب للمبعوث الأمريكىِّ، فقال الأخيرُ إنه تلقّى الردَّ وهو غير مقبولٍ بتاتًا.

وإن كُنتُ شخصيًّا لا أُخفى انحيازِى لغزّة وأهلها؛ فالواقعيَّةُ تقضى بقبول الصفقة أو الاستعداد لجولةٍ جديدة من التصعيد، وتفعيل الآليَّة المُحبَّبة للنازِّيين الصهاينة فى التفاوض تحت النار؛ وما من خيارٍ ثالثٍ للأسف.

لا أُفقَ لإحراز أيّة مكاسب مع الانفراد بالصورة؛ والهامش البديل أن يدخُلَ الحماسيِّون بقَضّهم وقضيضهم فى حاضنةٍ وطنية وإقليمية؛ بعدما يخرجون من عقائد الأخوَنة والمُمانَعة، وأن يشتَغلوا على بناء الإجماع؛ بعدما أورثتهم الذاتيّةُ هزائمَ تتناسَلُ من أرحام بعضها.

ما تحرّرت فلسطينُ كما بشّروا فى الطوفان، ولا بَقِيَت على حالها البائسة؛ بل زادت بُؤسًا. السلاح تضاءل أمامَ النكبة الثقيلة، والأسرى فَقَدوا القيمةَ والفاعليَّة عَمليًّا. يُذبَحُ الناسُ على فواصل بين الصفقات؛ ثم يُعاد الرهائن أصحَّاء مُعَافين، وتتجدّد المِحنةُ على صورةٍ أبشع.

العُقدةُ فى حماس نفسِها، وهذا ما تعلَمُه الحركةُ وتستميت فى إنكاره. عند نقطةٍ مُعيّنة يتوجَّبُ أن يكون المرءُ عاقلاً، وأن يُوفِّر نفسَه من باقة الذرائع والأهداف التى لا تَفقِدُ صلاحيَّتَها، وتُولِّدُ المآسى بأكثر مِمَّا تُبرهِن على الصلابة والاستقامة المبدئيَّة.

ستعودُ الورقةُ للأسفِ فى نسخةٍ أسوأ، أو يعود لها فريقُ الحيّة بعد لائحةٍ إضافيَّة من الضحايا والضغوط المُشدَّدة. هكذا درجت العادة، وبهذا تسيرُ المُغامرة التى افتتحوها ولم ينشغلوا بما تستجلبه عليهم، وتُحمِّل به الأبرياء ما لا يُطيقون.

لن يُحكَمَ القطاعُ بمَنْ كانوا يقبضون على خناقِه سابقًا؛ لا العدوُّ وحلفاؤه يقبلون، ولا الغزّيون أنفسُهم سيُرحّبون، ولا المصلحة تسمح باستمراء الكذبة والعَيش فى أسرِها ثانيةً.

وإذا عُرِف الثَّمَنُ المطلوب، وكان فى المُتنَاوَل وأقلَّ من ثِقَل الوقائع ونكباتها؛ فلا معنى للتأخُّر عن دَفعِه إلَّا أنَّ المُكلَّف به يُقارِبُ المسألةَ من زاويةٍ شخصية ضيّقة، ويُحمِّلُه للمجموع بدلَ أن يدفعَه من الرصيد الخاص، ويُفاوِضُ بعقلٍ باردٍ على اللحم الحىِّ؛ فيما لا تتوقَّف حفلاتُ الشواء أمامَ عينيه؛ ولا يسترعيه أنه يبدو كَمَن يرعَى النار ويحمِلُ الحَطَب. العالم ظالم، والأعداء أيضًا؛ لكنَّ ظُلمَ ذوى القُربى أشدّ مضاضةً؛ كما قال الشاعر.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

4 رسائل مؤثرة فى وداع نجوم تونس والجزائر لجماهير الدوري المصري

الدقهلية تستعد لبدء المرحلة الثانية من "حياة كريمة".. إنشاء وتطوير شبكات المياه والصرف.. بناء وتجهيز المدارس والوحدات الصحية.. رفع كفاءة الطرق والشوارع الداخلية.. مشروعات "سكن كريم" ودعم للأسر الأولى بالرعاية

المطابع غير المرخصة.. مصانع التزوير في قبضة الأمن

مواعيد القطارات على خط القاهرة أسوان والإسكندرية أسوان والعكس

رامى إمام يحتفل بعقد قران ابنه حفيد الزعيم عادل إمام


مقتل شخصين فى إطلاق النار على رجال إطفاء بولاية أيداهو الأمريكية

المصري يفاوض توفيق محمد لاعب بتروجت لضمه فى الميركاتو الصيفي

غداً.. الإعلان عن الجدول الزمني لانتخابات مجلس الشيوخ

اعترافات لصوص الهواتف المحمولة بالقاهرة: نفذنا 4 جرائم بأسلوب المغافلة

منتخب الشباب يستقر على مواجهة الكويت ودياً 17 و20 يوليو


قوات الاحتلال الإسرائيلى تقتحم مخيم بلاطة شرق مدينة نابلس

خلاصة مادة الجغرافيا لطلاب الثانوية العامة × سؤال وجواب

هارى كين يتوج بجائزة أفضل لاعب فى مواجهة البايرن ضد فلامنجو

ترامب يتهم جيروم باول بإبقاء معدلات الفائدة مرتفعة بصورة مصطنعة

استخراج جثة سيدة بعد تقطيع السيارة إثر سقوط ونش عليها بطريق الأوتوستراد

أحمد حسام: هعرف أثبت نفسى فى الزمالك.. ومابلولو وماييلى أصعب مهاجمين

وزير الخارجية يزف بشرى للمصريين بالخارج: بحث تجديد مبادرة استيراد السيارات

اشتعال الأحداث فى السودان.. الجيش السودانى يقصف مواقع للدعم السريع فى نيالا بجنوب دارفور ويعيد فتح طريق حيوي بعد معارك عنيفة مع "الشعبية".. والأمم المتحدة تكشف: الدعم السريع تُجنّد مقاتلين داخل أفريقيا الوسطى

باريس سان جيرمان يهزم إنتر ميامى برباعية فى حضور ميسى بكأس العالم للأندية

بعد منافسة شرسة..بيع ممتلكات نابليون بمزاد دار سوثبى بـ 9.6 مليون دولار.. جواربه وملابسه الداخلية تتخطى 155 ألف دولار وقبعته بـ416 ألف.. بيع لوحة بونابرت مقابل مليون دولار.. وكرسى مطلى بالذهب يحقق 470 ألف دولار

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى