نظرية البقدونس والهبد والمهدى الاستراتيجى وضحايا «الانحياز» العاطفى

هناك دائما فرق بين ما نريده وما يحدث فعلا، وفى حالة الصراعات والحروب المجنونة التى نشهدها فى الإقليم والتى بدأت بعدوان إسرائيلى على إيران، ورد فعل صاروخى من إيران، دائما ما يقع المتابع العادى فى «حيص بيص» وسط كم هائل من الكلام والتقارير بعضها حقيقى والبعض مفبرك أو مجرد شائعات وهبدات، وبناء عليه يفاجأ المواطن الطبيعى بأن ما يتم من نتائج إنما هو مختلف عما يتوقعه كبار المتوقعين، ومن زعماء ونشطاء وعمقاء الكلام الافتراضى الاستراتيجى التكتيكى، بينما المختصون والخبراء فعلا دائما ما يرافقون كلامهم «أعتقد، إذن، ربما، قد، بناء عليه» لكن العمقاء الفاهمين، ينطلقون من «إن، ولا شك، والحقيقة»، وينطلقون من آرائهم الشخصية ولا يقولون إنها آراؤهم، وإنما يتعاملون على أنها الحقيقة فيقعون فى التضليل والخداع، بينما هو يظن أنه يرضى نفسه ويرضى جمهورا متعطشا للتصفيق.
ونعتقد أن ما يجرى فى سياقات الحرب بين إسرائيل وايران، وحجم الدعاية والتضخيم والمبالغة يجعل من الصعب فى ظل «الحرب الألتراسية السيبرانية» أن يحتفظ المرء بعقله فى ظل زحام التقارير واندلاع الكثير من الهبد والادعاءات، وأظن أنه يمكن أن تكون هناك طريقة للحفاظ على العقل وبعض المنطق فى زحام المعلومات والدعاية، والانحيازات التى تصل أقصاها.
لم أكن أسخر عندما ذكرت حكاية صديقى الذى لجأ للذكاء الاصطناعى ليعرف الفرق بين الكزبرة الخضراء والبقدونس، وبالرغم من هذا فقد فشل فى أول اختبار، وقال إنه يفضل الحديث فى الأسلحة النووية والتحليلات الاستراتيجية والحرب الإيرانية الإسرائيلية، بل ويصل إلى نتائج دقيقة فى تحديد الفائز فى مباراة «الطائرة والصاروخ».
صديقى هذا بالطبع رجل عاقل بالغ رشيد، وحسن النية لكنه منحاز ومتعصب كرويا، لدرجة أنه يشجع فريقا اعتاد الخسارة والفشل، ويصر على الجزم والحسم أن إيران هى الفائز فى هذه الحرب، وأن الاحتلال الإسرائيلى يخفى خسائره، ويرد على زميل آخر يقسم بأغلظ الاستراتيجيات أن إيران مخترقة وفاشلة وضعيفة وفاقدة للقدرة وأن ما تعلنه هو نوع من الدعاية.
ونحن نعلم طبعا أن إسرائيل كيان عدوانى استيطانى معتد، يشن حرب إبادة ضد غزة، ويقتل الأطفال وأنه فى عدوانه مدعوم من الولايات المتحدة، والنظام الدولى المختل، ويرتكب الاحتلال جرائم حرب، يفعل ذلك وهو يزعم أنه يدافع عن نفسه، بينما خصومه يتلقون الضربات وهم يزعمون أنهم ينتصرون، وإذا اعترض معترض على ما تم يوم 7 أكتوبر فسوف ينط العمقاء الاستراتيجيون فى «كرشه» ويقولون له خسئت لقد انهزم العدوان، وهنا نرجع إلى أهمية التفرقة بين الواقع وما نريده.
نفس الأمر فى القصف الإسرائيلى والصواريخ الإيرانية، هناك تعتيم متبادل، وإصابات متبادلة، فالطيران الإسرائيلى يستبيح الأجواء الإيرانية، والصواريخ الإيرانية تصل إلى مناطق دقيقة وأمنية وتسبب خسائر وحرائق، ولا يمكن لأى خبير حتى الآن أن يزعم أنه يحدد الفائز، لكن طبعا العمقاء المنحازين مشجعى « المباراة الاستراتيجية يتبنون آراء حاسمة وجازمة وعميقة».
حاولت العودة إلى نظرية البقدونس، حتى لا أفقد التركيز، وأنا أتفرج على مباريات من « الهبد» التكتيكى، والخلط الاستراتيجى، بين ما يريده المرء وما يحدث بالفعل، ولا شك أن أى شخص يتابع العدوان الإسرائيلى والإبادة على غزة، المستمرة من 18 شهرا، يدينها وهو يعرف أننا فى ظل نظام دولى مختل ومزدوج وفاقد للعدالة، ويحتاج إلى إصلاح، وأن العدوان يجب أن يتوقف، لكنه لا يتوقف، وأن أمريكا تدعمه وأوروبا منحازة، وأن إسرائيل هى التى بدأت قصف إيران، بزعم أن إيران هى التى رعت عملية 7 أكتوبر، بل إن نتنياهو وهو يخطب يشير إلى أن إيران تقصف المدنيين والأبرياء، متجاهلا أن طائرات الاحتلال تقتل الأطفال طوال 18 شهرا، وأن ما تقصفه طائرات إف 35 هم مدنيون بجانب اغتيالات وهدم وقتل وتعد على السيادة.
الشاهد أن كل الجماهير العربية والإقليمية وأغلب سكان العالم يعرفون أن إسرائيل تمارس حرب إبادة ويتمنون فوز إيران، لكسر الصلف والغرور الصهيونى، لكن هذا لا يعنى أن إيران هى «المهدى المنتظر» العالمى، ولم تكن من حركات التحرر، بل إنها ساهمت فى إشعال حروب وإضعاف دول وتجنيد أخرى، لكنها أيضا جزء من لعبة الأمم فى صناعة وتجارة الخوف والسلاح، وأن كل الدول الكبرى تبيع سلاحا وتحقق أرباحا، ولهذا فهى لا تتدخل فى الحرب كما يحلم « زيد أو عبيد» وبالكثير سوف يصدرون بيانات ويتحدثون فى التليفون.
ونعود إلى نظرية البقدونس، ونقول إن ما نريده، يختلف عن واقع نظام دولى معقد ومختل، والأهم هو مدى قدرتنا على قراءة الأحداث كما هى لا كما نريدها، وللحديث بقية.
اليوم السابع
Trending Plus