أنامل تحرس الإيقاع وتأبى النسيان.. الطبلة والرق الخشب حاضر يجسد تاريخ الحرف اليدوية.. صناعها: عمرنا كله بالصنعة وورشتنا عمرها يزيد عن 100 سنة.. شغلنا قائم على الفن والإبداع.. وبنمثل المنتج المصرى عالميا.. صور

في زقاق ضيق من أزقة الدرب الأحمر، لا شيء يوحي من الخارج بأنك على وشك دخول معمل موسيقى لا يُصنع الألحان، بل يصنع أدواتها نفسها، إذ تقع ورشة عتيقة لم يطفئها الزمن، تبعث من قلب الماضي أصداءً موسيقية تنبض بالحياة، جدرانها الداكنة تروي بصمت حكايات أجيالٍ مضت، جدرانها مكسوّة بالغبار، وسقفها المنخفض تآكلت أطرافه من الزمن، لكن داخلها ينبض بالحياة والعمل، كل زاوية تحكي قصة، وكل أداة تحمل أثر يد خبيرة عرفت الصنعة وأخلصت لها.
في هذه الورشة، حرفيون متمرسون يحيكون بين يديهم روح الموسيقى، كل حرفيّ يحكي قصته بيديه، وينسجها على طبل، نتاج تعاون جماعي يتقاطع فيه الشغف مع الإبداع، والحرفة مع الحب، ليُعزف صوت ينبع من قلب الصناعة اليدوية؛ فكل طبل يمر بمراحل دقيقة، من اختيار الخامات، إلى التقطيع، والشد، والتزيين، وكل مرحلة تتطلب يدًا خبيرة وعينًا عاشقة للفن.
ورشة صناعة الطبول
تصنع عائلة سلامة الطبول منذ أكثر من قرن. التاريخ محفور في الجدران، وفي الوجوه، وفي تفاصيل الطبلة ذاتها. يقول محمد سلامة، أحد أعمدة الورشة التي تحمل اسمه، وقد ورثها عن أجيال سبقت: "الورشة دي بقالها أكتر من 100 سنة، من أيام جد الجد، مرت من جيل لجيل، وكل واحد فينا سلمها للتاني، بنحاول نورثها لأولادنا ونطور فيها".
ورشة التصنيع
لم تكن الورشة يومًا مجرّد مكان للعمل، بل بيتًا كاملًا تسكنه العائلة، ويدور في فلكه الزمن: "أمي الله يرحمها شاركت في إدارة المكان، مع والدي، ومنه لينا أنا وإخواتي، عادل، وحسين رحمه الله عليه، كنا بنديرها سوا، وشغالين فيه بإيدينا". ويسترجع محمد بداياته في الورشة: "نزلت الورشة وأنا عندي 4 سنين، مش فاهم حاجة، ولما وصلت 12 سنة، بقيت صنايعي، مش صبي، وفي سن 16، كنت أصغر أُسطى في السوق كله".
الطبول
ورشة سلامة لا تصنع نوعًا واحدًا من الطبول، بل تنوعها كما لو كانت فرقة موسيقية كاملة: "إحنا بنعمل كل أنواع الطبول: طبلة العزف، الطبلة السياحية، الخشب، الألومنيوم، الفخار".. لكن ما يميز الورشة ليس مجرد إتقان الصنعة، بل ما يسميه محمد "اللمسة"، السر الذي لا يُرى لكن يُسمَع: "المهم مش الشكل، المهم الصوت، إزاي تطلع من الطبلة صوت ودي العبقرية في صناعة الطبلة، دي اللمسة اللي بتخلي أي حد يمسك طبلة من شغلنا يعرف إنها بتاعتنا، حتى لو مش شايف اسمها".
بصوت يملؤه الفخر، يعدد البلاد التي وصلت إليها الطبول المصرية من صنع أيديهم: "شغلنا راح اليونان، أمريكا، الصين، إسبانيا، الإمارات، السعودية، الكويت، تونس، المغرب، ألمانيا، العالم كله.. فضل ربنا علينا كبير، وشغلنا بيحمل بصمتنا لحد هناك".
تطعيم الطبلة بالصدف
ورغم بساطة المكان، جودة المنتج المصري واضحة كالشمس: "اللي يشوف شغلنا يعرفه على طول. نظيف، متقن، في قلب السوق، بس له قيمة عالمية، إحنا بنمثل المنتج المصري في العالم كله، بطبلة ورق، برق، بصنعة متوارثة وضمير صاحي".
في ركن يغمره غبار الخشب ورائحة الغراء، يقف محمد محمد عباس، صاحب الـ63 عامًا، كأنه آخر حُماة الصنعة القديمة. رجل ستيني، لكن يديه لا تزالان تحفظان الإيقاع الأول للخشب وهو يتحول إلى طبلة تليق بالسياح: "اتربيت في المكان ده، واشتغلت فيه من زمان، من أيام الحج سلامة الله يرحمه، صاحب المصنع وأساسه، إحنا هنا معروفين بأننا بنصنع الطبلة المزخرفة بالصدف، وده شغل مش أي حد يعمله".
صناعة أجزاء الطبلة
داخل الورشة، تُنسج الطبلة على مراحل دقيقة، كأنها ولادة طويلة ومعقدة: "الطبلة بتمر على حوالي سبع أو ثمان مراحل عشان تطلع في الآخر طبلة سياحية متكاملة. نبدأ من اختيار الخشب – بوصة أو موسكي – بعدين نقطع المقاسات بدقة، نعمل شقين لكل طبلة، والشق له تخانة خاصة حسب النوع، بعد كده تدخل على ماكينة تفصيل، ودي لازم تتعامل بحرفية، والخشب بيتلبس، وبعده يدخل على مكابس الألومنيوم عشان يتكبس مرتين، مرة بالخشب، ومرة بالغراء".
تجميل الطبول بالصدف
كل خطوة في الورشة تُنفذ بأيدٍ تعرف أنها لا تصنع مجرد آلة موسيقية، بل قطعة فنية: "بعد ما تتفك من المكبس، تبدأ تتعجن، من جوه ومن بره، ويركب فيها "البوق"، وبعدين المعجون، الطبلة بتتحول لكتلة صلبة محتاجة تتصنفر كويس، والمرحلة دي ليها صنايعي مخصوص، بعدها تدخل مرحلة الزخرفة بالصدف.. كل واحدة ليها شكل ومقاس ونمط معين، وبعد كده نرجع نمعجن تاني معجون أسود، ونصنفرها تاني عشان التشطيب والتلميع، وبعدين مرحلة شد الجلد".
صانع طبول
ورغم أن المنتج في النهاية قد يبدو بسيطًا لمن يشتريه من خان الخليلي أو يضعه في شنطة سفره كذكرى من مصر، إلا أن رحلته من الخشب الخام إلى المنتج النهائي رحلة معقدة، تتطلب صبرًا ومهارة: "دي مش صنعة سهلة، محدش يعرف يتعلمها بسهولة، واللي ييجي يتعلم، بيهرب، لأن دي صنعة متعبة، محتاجة طول بال، وناس بتحب الشغل بإيديها".
الطبلة، كما يراها عباس، ليست مجرد أداة موسيقية، بل تراثًا يحمله على كتفيه منذ الطفولة: "الطبلة في مصر أصلها فخار، لكن احنا طورناها، خليناها من خشب، زيناها بالصدف، عملناها بشكل يخليها تليق بالسياحة.. الطبلة السياحية دي بقالها أكتر من 60 سنة موجودة.. هي للزينة، بس شغلها فن بحد ذاته".
صناعة الطبول
ثم ينظر حوله، ويتنهد كما لو أنه يرى الحرفة تتناقص: "المهنة دي فيها فن، لكن مفيش ناس بتيجي تتعلم، الصنعة دي متعبة، مش أي شاب يستحملها. دلوقتي الشباب بيدور على المكسب السريع، بس الصنايعي المصري لماح وذكي، ولو لقى اللي يشجعه هيصنع المعجزات".
ورشة الطبل ليست مجرد مكان للعمل، بل معمل موسيقي لفن خفي.. هنا لا تصنع الآلات الموسيقية فقط، بل تُنحت الذكريات: "أنا لما بمشي في السوق وبشوف شغلي، بنبهر، وأي وقت ربنا يفتكرني، هكون سايب ورايا شغل الناس تقول: فلان اللي صنع الحاجة دي. الحمد لله.. اسمي مش هيتلغي".
صناعة الطبول السياحية
في زاوية هادئة من الورشة، يقف حرفي عاشق لمهنته، تعب السنين واضح في خطواته، لكن عينيه تلمعان بالعزيمة ذاتها، يسكنه الشغف وتحركه نغمة في خياله لم تولد بعد، لا يصنع آلات موسيقية فحسب، بل يحررها بنغمة ويبعث فيها الحياة لتحرك القلوب بلغة لا تحتاج إلى كلمات، يداه تتحركان بثقة واهتمام، كل آلة تمر بين يديه تحمل قصة، وكل صوت يولد من عمله يُخبره أنه يُبدع وأنه صانع الموسيقى قبل أن تُعزف.
تصنيع أجزاء الطبلة
تعلم حسن محمود، صاحب الـ67 عامًا، صناعة الآلات منذ أن كان طفلًا صغيرًا، يشق طريق الكفاح في الورش ليوفر مصدر دخل له وأسرته، عشق صناعة الآلات الموسيقية الإيقاعية، وأجادها حتى أصبح من شيوخ المهنة في حي الدرب الأحمر، ورغم انحناءة ظهره وتجاعيد وجهه التي رسمها الزمن، لا يزال يخطو بثبات نحو الورشة، يصنع جمالًا بقلب ممتلئ بالعزيمة والأمل، كأن العمر لم يزده إلا صلابة.
صناعة الطبول في الدرب الأحمر
وبينما كانت تكسوه ملامح التعب من أثر الجهد، قال: "أنا قديم في الكار، اتعلمت كل حاجة فيه من وأنا عندي 10 سنين، باشتغل من وقت ما كنت باخد 15 قرش في اليوم.. عشقت المهنة من وقت ما بدأت شغل، اتعلمت صناعة الرق والدُف والبندير والمَزهر وتطعيمهم بالصدف على إيد أقدم أسطوات المهنة وأمهرهم، وحاليًا شغلي يرتكز على تأسيس الخشب. بدأت الرحلة كصبي في الورشة، كنت بجهز الأكل والشاي للصنايعية، ومع الوقت بدأت أتعلم أساسيات الشغل على أيد الصنايعي".
تصنيع الطبول
بأدوات وآلات متنوعة، تُصنع روائع يدوية، تحكي سنوات من الخبرة، صبر لا ينضب، وموهبة تتحدى الزمن: "الخشب اللي بنستخدمه في التصنيع بنجيبه من منوف، وأحنا بنقوم بفكه وتجميعه وتفصيله باستخدام الماكينات وإعادة تجميعه وتقفيله باستخدام الدباسة، وتفصيله وصنفرته وتخريمه وإعادة صنفرته من الداخل والخراج وطلاءه وفي النهاية شده بالجلد ليصبح المنتج جاهزًا للسوق بمقاسات تبدأ من 20 سم وتصل إلى 1 متر".
صناعة الطبول الخشبية
بين مراحل متعددة، يكرس الحرفيون كل دقيقة، وكل خطوة، لإتقان صنع تحفة فنية تعكس تفانيهم وشغفهم: "مهنة فنية من الطراز الأول، سهلة وممتعة بالنسبة للحرفي اللي بيجيدها ويحبها، وتحتاج إلى صبر وبال طويل. شغلنا قائم على الإبداع، ويعتمد على عدد كبير من الحرفيين، لكل واحد منهم دور ومرحلة، تجتمع مع بعضها حتى يصل المنتج لصورته النهائية، فبتكاتف العمال واجتماع مهاراتهم نحول قطعة الخشب الجامدة إلى تحفة فنية مُطعمة بالصدف، عشان كدة عشقتها وماغويتش مهنة غيرها".
لا يعرف حسن للراحة طريقًا، يواصل العمل رغم المشقة، ينهض كل يوم ليكمل طريق الكفاح بصبر لا يتزعزع، ليس له من الرفاهية إلا لحظة فخر حين يرى نتاج تعبه بين أيدي الناس: "الحمد لله بحس براحة طول ما أنا شغال، لو قعدت في البيت همرض.. اللي اتعود يجيب لقمة عيشه بنفسه ما يقدرش يقعد في البيت.. فخور بنفسي وسعيد باللي وصلت ليه وأني قادر لسه أشتغل وادي الشغل حقه".
تجميل الطبول بقطع الصدف
في إحدى زوايا الورشة، حيث تلمع قطع الصدف تحت نور خافت، يجلس عم أحمد، رجل تجاوز السبعين، لكنه لا يزال يُمسك بالأدوات كما لو كانت فرشاة رسام أو ريشة موسيقي. ستة عقود قضاها في حضن المهنة، لا يزال يعتبر نفسه في منتصف الرحلة، لا نهايتها: "بقالي 60 سنة في الصنعة عمري كله فيها، الصنعة دي في دم الإنسان، ما يقدرش يستغنى عنها مهما طال الزمن".
منذ سنواته الأولى، جلس أحمد إلى جوار "الأسطى سلامة" رحمه الله عليه، وتعلم منه الحرفة بصبر العاشق، ومنذ ذلك الحين لم تفارقه الطبلة، ولم يفارقه الإحساس بأنه يُمسك بقطعة فنية ليست مجرد آلة موسيقية: "أنا بطعم الطبلة بالصدف، وده اللي بيجمل الطبلة، هو الشكل كله، دماغك هي اللي بتشتغل وترسم، وإيدك هي الفرشاة. شوفت الرسام اللي بيرسم؟ إحنا نفس الحكاية، بس على الخشب والصدف".
ورشة تصنيع الطبول
التصاميم التي ينقشها أحمد لا تأتي من كتاب، ولا من قالب جاهز. كلها وليدة لحظة، ونتاج خيال حر، وذاكرة ممتلئة بالأشكال والعناصر التراثية: "بعمل أشكال كتير جدًا، نجمة سداسية، ونجمة العاشق والمعشوق، ودوائر، وورود، وكل حاجة بتطلع من دماغي".
ورغم أن البعض يظن أن الزخرفة والتصميم مجرد ترف، فإن أحمد يرى فيها روح الطبلة وسحرها الحقيقي: "التصديف مش بس جمال لكنه فن محتاج بال طويل، وهدوء، وإحساس".
أحد العاملين في صناعة الطبول
اليوم، يعمل أحمد لفترات قد تصل إلى عشر ساعات متواصلة، يتنقل بين تجهيز "المونا" – المادة اللاصقة – ثم الانتقال إلى الماكينة، ثم إلى طاولة التزيين، كأنما يُعيد تشكيل العالم على هيئة طبل صغير: "أنا فنان.. طول عمري فنان… وبحس بنفسي كده.. مش بشتغل عشان الفلوس، بشتغل عشان بحبها.. ومهنتي دي أنا مكمل فيها لحد ما أموت".
Trending Plus