حارس أسرار تل أبيب.. كيف تتحكم الرقابة العسكرية فى إعلام إسرائيل وتخفى حقيقة الخسائر؟.. الكنيست يشرع قانونا يحبس الصحفيين المخالفين.. واتفاقيات مع فيس بوك وتويتر لحذف المحتوى الحساس وإخفاء تأثير هجمات إيران

رغم ما تدعيه إسرائيل من كونها "الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط"، إلا أن الواقع داخل غرف الأخبار العبرية يكشف عن صورة مغايرة، حيث الرقابة الصارمة، وخيوط إعلامية تتحكم بها جهة واحدة تعرف باسم "الرقابة العسكرية". فبينما تتعرض إسرائيل لهجمات متصاعدة من إيران، وتغرق فى جرائمها العدوانية على غزة ولبنان وسوريا، لا تبث الأنباء إلا بعد أن تمر من مصفاة أمنية محكمة، لا تسمح إلا بما يخدم الجبهة الداخلية، ويحفظ صورة "الجيش الذى لا يقهر".
ففى الوقت الذى تتسارع فيه جيوش العالم، لاستعراض قوتها العسكرية، اختارت إسرائيل سلاح التلاعب بالإعلام،حيث تمارس الرقابة العسكرية دور "حارس الأسرار"، فتخفى الخسائر، وتمنع الأرقام، وتعيد تشكيل الرواية بما يخدم أهدافها الإستراتيجية، سواء بإسكات الداخل الإسرائيلى، أو خداع الرأى العام الدولى، أو نزع سلاح التعاطف مع الخصوم.
فما هى الرقابة العسكرية فى إسرائيل؟ من يديرها؟ وعلى أى قوانين تستند؟ وكيف أصبحت أداة تسكت بها الصحافة، وتضلل بها الشعوب، وتخفى بها آثار الضربات الإيرانية؟.
تعتبر الرقابة العسكرية فى إسرائيل واحدة من أهم الأدوات المستخدمة للسيطرة على الرأى العام والتأثير فى مسار المعارك، فهى ليست مجرد هيئة مدنية، بل هى وحدة تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، يقودها ضابط يعرف بـ"الرقيب العسكري".
ومنذ قيام دولة الاحتلال كان الحفاظ على الصورة العامة لها وأمن المعلومات أمرًا مركزيا؛ ما أدى إلى تبنى نظام رقابة صارم يهدف إلى التحكم فى المعلومات الحساسة، ومنع تسربها إلى العدو أو إلى المستوطنين على السواء.
وترجع جذور الرقابة العسكرية فى إسرائيل إلى الأيام الأولى لقيام دولة الاحتلال، إذ أكد ديفيد بن جوريون، فى خطابه الشهير فى يناير عام 1948 أهمية وجود صحافة ناقدة، لكنه شدد على ضرورة عدم إعطاء معلومة للعدو، وألا نساهم فى دبّ الفزع فى أوساط الجمهور.
وفى عام 1953، تم تنظيم العلاقة بين الجيش ووسائل الإعلام فى إسرائيل عبر إنشاء لجنة المحررين، التى منحت الصحفيين درجة من الرقابة الذاتية، مع اشتراط الحصول على موافقة عسكرية لنشر المقالات الحساسة، تحت طائلة الملاحقة والعقوبات القانونية.
وتستند الرقابة الإسرائيلية إلى قوانين الطوارئ الصادرة عن الانتداب البريطانى عام 1945، كما تحظر القوانين الإسرائيلية نشر أى مواد سرية من الأرشيف القومى قبل مرور ربع قرن على الأقل.
وينص البند 44 من القانون الأساسى على أن "جميع قرارات الحكومة واجتماعات الوزراء التى تتناول الشؤون الأمنية تُعتبر أسرارًا يمنع نشرها، إلا بعد الحصول على إذن من رئيس الوزراء أو أى شخص مخول بذلك".
كما تمنح القوانين الإسرائيلية الرقابة العسكرية فى الجيش، منذ عام 1988 فى ظل حالة الطوارئ، الحق فى فحص المواد الصحفية قبل نشرها، خاصة إذا كانت تتعلق بأمن الدولة.
ثم تشكلت "اللجنة البرلمانية لشؤون الرقابة العسكرية" هى لجنة شكلها الكنيست الإسرائيلى ترأسها عضو الكنيست السابق يوسى سريد وعرفت بـ "لجنة سريد"، قامت هذه اللجنة فى العام 1990 بفحص عمل "الرقابة على الصحافة ووسائل الإعلام" والمعروفة، اختصارا، باسم "الرقابة العسكرية" فى إسرائيل.
ومنذ بدء التصعيد الإيرانى على إسرائيل، شددت الرقابة على نحو غير مسبوق، خصوصًا فيما يتعلق بالخسائر العسكرية والبشرية، رغم تداول مشاهد لحرائق ودمار فى مواقع حيوية، تم توثيقها من مواطنين فى دول عربية مجاورة، مثل لبنان والأردن والعراق، بينما امتنعت السلطات الإسرائيلية عن إعلان أية أرقام دقيقة، واكتفت بتصريحات غامضة عن "أضرار مادية" أو "إصابات طفيفة "
الباحثون يرون أن إسرائيل تفرض رقابة عسكرية صارمة على وسائل إعلامها بخصوص الخسائر الناجمة عن ضربات إيران التى تطول بالأساس أهدافا عسكرية.
ويرجعون تلك الرقابة والتعتيم لأسباب عديدة، من أهمها حماية حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية من الانتقادات، والحفاظ على معنويات الإسرائيليين، ومنع تآكل ثقة الجمهور بقدرة الجيش وممارسة حرب نفسية بحق الشعوب المؤمنة بجدوى المقاوم، وكذلك حرمان إيران والمقاومة من توظيف هذه المعلومات فى حملاتهم الإعلامية، والحفاظ على استقرار الاقتصاد والأسواق، وإضعاف الحافز الدولى للضغط على إسرائيل من أجل وقف التصعيد.
ومنذ عقود تحتل إسرائيل أراضٍ عربية فى لبنان وسوريا وفلسطين، وخاضت حروبا عديدة ضد الدول العربية المحيطة بها، ومنذ ذلك الحين، تنشر إسرائيل مقاطع مصورة لأعمدة دخان بعيدة، أو حرائق فى أماكن مفتوحة أو مخازن فارغة، أو سيارات متفحمة، أو مبنى أو مزرعة متضررة، أو إعلانها تعرض بنيتها التحتية للقصف دون تفصيل.
أما الخسائر البشرية، فلم تعلن السلطات الإسرائيلية إلا مرات محدودة وقوع إصابات طفيفة ومتفرقة بين المجندين أو فى صفوف المستوطنين، بسبب شظايا صاروخ، أو الهلع أثناء الهروب للملاجئ، وفق رواياتها المعتادة.
من جانبه أشار المستشار الاستراتيجى الإسرائيلى "ياردن فاتيكا" إلى أن الإعلام الإسرائيلى يوجه أساسًا لثلاثة جماهير: الداخل الإسرائيلى، الدول العربية والإقليمية، والمجتمع الدولى خاصة الولايات المتحدة، ووفق دراسته المنشورة فى معهد دراسات الأمن القومى، فإن الحفاظ على شرعية إسرائيل داخل أمريكا خصوصًا أمام الديمقراطيين والليبراليين يحتل أولوية قصوى.
من هنا، قد تلجأ إسرائيل أحيانًا إلى الكشف الانتقائى عن خسائرها لتبرير التصعيد، أو حشد الدعم، أو تجنب الاتهامات بانتهاك القانون الدولي.
وأمام الجماهير التى ذكرها فاتيكا، قد تلجأ إسرائيل للتكتم على خسائرها لأسباب عدة، بينها رغبتها فى إبقاء معنويات الإسرائيليين والجيش مرتفعة، وتجنب إضعاف الثقة بحكومة بنيامين نتنياهو ما قد يضطرها لتغيير خططها العسكرية والسياسية.
وبما أن الحجة المعتادة فى إسرائيل، هى حماية الأمن القومى، فإن عدم إعلانها عن الخسائر قد يهدف إلى الحفاظ على سرية معلومات وبيانات وخطط إستراتيجية، أو حماية أماكن قد تظهر إصابتها ضعفا.
واقتصاديا، تسعى إسرائيل إلى منع تفاقم خسائرها، فأخبار الانتكاسات العسكرية قد تضر استقرار أسواقها، ما تحاول تجنبه لا سيما أنها بالفعل تعانى خسائر اقتصادية ضخمة بسبب عدوانها المستمر على غزة منذ عام.
وعلى المستوى الإعلامى، تسعى إسرائيل بتكتمها إلى احتكار رواية الحرب خاصة الموجهة للغرب، إذ أن إتاحة المعلومات والبيانات سيسمح للمقاومة ولوسائل الإعلام العربية والعالمية بتكوين رواية مختلفة أو معادية.
دوليا، قد يدفع الكشف عن الخسائر دولا ومنظمات للضغط على إسرائيل لوقف التصعيد لتقليل فاتورة الحرب، أو يفضح تعاونا سريا مع دول أخرى كما حدث فى غزة، أو عن تقنيات لا ترغب فى الكشف عنها.
كل هذه الأسباب للتعتيم الإعلامى فى إسرائيل، تشير إلى أن أى إعلان انتقائى عن خسائر قد يكون جزءا من لعبة سياسية يلعبها نتنياهو، لحشد الدعم الدولى والإقليمى والمحلى، لمواصلة العمليات العسكرية فى لبنان، وتبريرها.
ومع تطور التكنولوجيا، توسعت الرقابة لتشمل منصات التواصل الاجتماعى، فقد أبرمت إسرائيل اتفاقيات مع شركات مثل فيسبوك وتويتر لحذف أو تقييد المحتوى الحساس، خاصة المتعلق بتغطية الحرب على غزة أو الهجمات الإيرانية، حتى منصة "تليجرام"، التى تعد أكثر تساهلًا، تدخلت فيها الرقابة لإغلاق بعض القنوات.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023، تزايدت الرقابة لدرجة دفعت ممثليها إلى التواجد الفعلى داخل استوديوهات الأخبار لمتابعة البث المباشر، ورصد أى تجاوزات، وقد ارتفعت نسبة التدخلات فى التغطية من 20% إلى 31%، وزادت حالات الرفض الكامل للمقالات من 7% إلى 18%.
وفى 2024، ومع تصاعد العدوان على غزة واتساع الحرب مع إيران، باتت الرقابة جزءًا أساسيًا من منظومة الحكم فى إسرائيل، تخدم الخطاب الرسمى، وتعيد تشكيل الواقع، أو على الأقل، ما يُسمح للإسرائيليين والعالم بمعرفته.
ومنذ اندلاع المواجهة مع طهران، تصدر الرقابة العسكرية تعليمات دورية للمواطنين بوجوب منع نشر مقاطع الفيديو التى توثق مواقع سقوط الصواريخ، وتطالبهم بإغلاق كاميرات التصوير المفتوحة فى محيط المواقع الاستراتيجية والعسكرية.
كما أنها فرضت قيودا على موقعين تعرضا لقصف صاروخى من إيران، حسبما نقل الإعلام العبري.
وقد أصدر وزير الأمن القومى بيانًا مشتركًا مع وزير الاتصالات الإسرائيلى، أعلنا فيه أن السلطات تحقق فى المزاعم المتعلقة ببث صور لمواقع سقوط الصواريخ الإيرانية.
وفى السياق نفسه، طلب وزير الاتصالات عقد جلسة عاجلة مع الرقابة العسكرية، لبحث وتوضيح إجراءات تطبيق تعليمات الرقابة على مراسلى وسائل الإعلام الأجنبية الذين قد يشكلون تهديدًا لأمن الدولة.
ونشرت مجلة +972، تقريرًا أشارت فيه إلى أنه وفى 2024، تراجعت إسرائيل إلى المرتبة 112 من أصل 180 دولة فى مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، بعدما كانت فى المرتبة 101 قبل عام فقط، بما يعكس بوضوح تدهور البيئة الإعلامية داخل إسرائيل نفسها.
ففى هذا العام، صعدت الحكومة من هجماتها ضد وسائل الإعلام المحلية، عبر محاولات لإغلاق هيئة البث العامة "كان"، وخنق صحيفة "هآرتس" ماليًا، بينما تضخ أموال عامة لدعم وسائل إعلام محسوبة على الحكومة مثل "القناة 14".
ومع تصاعد العدوان على غزة واتساع رقعته الإقليمية لتشمل سوريا ولبنان واليمن وحتى إيران، بلغت "الرقابة العسكرية" ذروتها، وفرضت سيطرتها غير المسبوقة على كل ما يُنشر.
ووفقًا لمعطيات حصلت عليها مجلة "+972" والحركة من أجل حرية المعلومات، تدخلت الرقابة العسكرية خلال عام 2024 فى أكثر من 20,770 مادة إعلامية، من بينها 1,635 مقالًا حظر نشرها بالكامل، و6,265 خضعت لرقابة جزئية، بمعدل 21 مادة يوميًا، وبالمقارنة مع السنوات السابقة، فإن نسبة الحظر الكامل للمقالات ارتفعت من 11% إلى 20%.
المثير أن القانون الإسرائيلى لا يلزم الرقابة بالرد على طلبات حرية المعلومات، وقد رفضت الكشف عن توزيع الرقابة حسب الوسيلة الإعلامية أو الموضوع أو الشهر، ما يعزز الطبيعة السرية لهذه الآلية.
Trending Plus