الثورة الرقمية تغير قواعد سوق العمل.. العالم يشهد أكبر تحول فى تاريخ العمل البشرى.. 375 مليون عامل سيغيرون مهنتهم خلال هذا العقد.. والعمل الدولية: 24 مليون وظيفة خضراء بحلول 2030.. و1.1 مليار شخص خارج المنافسة

يشهد سوق العمل العالمي تحولا جذريا غير مسبوق، حيث تتضافر قوى التكنولوجيا المتسارعة مع تغيرات عميقة فى أنماط الحياة والعمل لتشكيل مشهد وظيفى مختلف تماما عما عرفناه خلال العقود الماضية، ويقف العالم الآن على أعتاب حقبة جديدة من العمل، تتميز بالمرونة والتكيف المستمر، والاعتماد المتزايد على المهارات المتجددة، وفى هذا التقرير، نستعرض صورة شاملة عن ملامح سوق العمل المستقبلى استنادا إلى أحدث البيانات والتحليلات من مؤسسات عالمية، مع التركيز على التحديات والفرص التى تنتظر الحكومات والشركات والأفراد فى هذا المشهد المتغير.

وتتصدر تقنيات الذكاء الاصطناعي والأتمتة المشهد التحولى فى سوق العمل، حيث كشفت أرقام المنتدى الاقتصادى العالمى عن حقيقة مذهلة، وهى أن 85 مليون وظيفة معرضة للتغيير الجذرى مع نهاية عام 2025 نتيجة للأتمتة، فى المقابل، ستظهر 97 مليون فرصة عمل جديدة، ولكنها تتطلب مهارات مختلفة تماما.

وتشير دراسات معهد ماكينزى العالمى، إلى أن 375 مليون عامل على مستوى العالم - أى ما يعادل 14% من القوى العاملة - سيضطرون لتغيير مهنهم بالكامل أو اكتساب مهارات جديدة خلال السنوات القليلة القادمة، وقد بدأ هذا التحول بالفعل، إذ أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعى التوليدى تؤثر على ثلث الوظائف المعرفية تقريبا، ويقول الخبراء: "نحن نشهد إعادة توزيع للعمل وليس اختفاءه،" مؤكدين أن الوظائف التى تعتمد على الإبداع البشرى والذكاء العاطفى والتفاعل الاجتماعى المعقد ستظل محصنة ضد موجات الأتمتة فى المستقبل المنظور.

لقد تحول العمل عن بُعد من إجراء استثنائى فرضته جائحة كوفيد-19 إلى نمط حياة مستدام وخيار استراتيجى للشركات والموظفين على حد سواء، وتكشف الأرقام عن تغير جذرى فى توقعات العاملين، حيث أظهرت دراسة أن 53% من الموظفين يفضلون النموذج الهجين الذى يجمع بين العمل من المكتب والعمل عن بُعد، وتجاوزت الظاهرة مجرد كونها رفاهية للموظفين لتصبح عاملا للإنتاجية والابتكار، إذ سجلت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد زيادة فى إنتاجية العمل عن بعد بنسبة 13% مقارنة بالعمل التقليدى، وتستعد الشركات لهذا التحول الدائم، حيث تخطط 74% منها لتحويل جزء من قواها العاملة إلى العمل عن بُعد بشكل دائم.

ومع تطور هذا النموذج، يتوقع الخبراء توسعًا هائلا فى أعداد الذين يعملون أثناء سفرهم حول العالم - ليصل عددهم إلى 1.5 مليار شخص بحلول عام 2035، ما سيحدث تغييرات عميقة فى الاقتصادات المحلية والتخطيط الحضرى وأنماط الهجرة العالمية.

وفى ظل تزايد التحديات البيئية العالمية، يبرز الاقتصاد الأخضر كمصدر رئيسى للوظائف المستقبلية، وتقدر منظمة العمل الدولية أن التحول نحو الاقتصاد المستدام سيخلق 24 مليون وظيفة خضراء بحلول عام 2030، فى وقت يشهد فيه الاستثمار فى الطاقة المتجددة وحدها ضخ أكثر من 600 مليار دولار سنويا.

ويتميز هذا القطاع بمعدل نمو استثنائى يصل إلى 8% سنويًا، ما يجعله أحد أسرع القطاعات نموًا فى سوق العمل العالمى، وقد بدأنا نشهد ظهور وظائف لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة، مثل مهندسى احتجاز الكربون، ومحللى أثر تغير المناخ، ومصممى أنظمة الاقتصاد الدائرى، ونتيجة لذلك يواجه العاملون تحديا غير مسبوق مع تسارع دورة حياة المهارات، إذ تكشف الأرقام الصادمة أن المهارات التقنية أصبحت تتقادم خلال 12-18 شهرًا فقط، ويحذر المنتدى الاقتصادى العالمى من أن نصف القوى العاملة العالمية ستحتاج إلى إعادة تأهيل مهنى جذرى خلال العام الجارى 2025.

وفى خضم هذا التحول، يشهد سوق التعلم الإلكترونى طفرة هائلة بمعدل نمو سنوى يتجاوز 20%، مع توقعات بوصوله إلى 375 مليار دولار بحلول عام 2026، وأصبح شعار "التعلم مدى الحياة" حقيقة وليس مجرد نظرية، حيث يتوقع الخبراء أن يتعلم الموظف فى المستقبل القريب 4-5 مهارات جديدة تمامًا خلال مساره المهنى، كما يتجه العالم بخطى متسارعة نحو نموذج العمل المستقل، حيث يعمل اليوم 36% من القوى العاملة الأمريكية "59 مليون شخص" فى وظائف مستقلة، وبمعدل نمو متوقع يصل إلى 17% سنويًا حتى عام 2027.

ويمثل العاملون المستقلون ما يقرب من 20-30% من القوى العاملة فى الاقتصادات المتقدمة، ما يضع تحديات جديدة أمام أنظمة الضمان الاجتماعي والتأمين الصحى المصممة أساسا للعمل التقليدى بدوام كامل، لكن هذا التحول يحمل فرصًا هائلة أيضًا، حيث تتوقع الدراسات ظهور "طبقة وسطى جديدة" من العاملين المستقلين ذوى المهارات العالية، الذين يستطيعون تحقيق دخول تتجاوز نظرائهم فى الوظائف التقليدية، مع التمتع بمرونة أكبر فى اختيار مشاريعهم وساعات عملهم.

رغم الفرص الواعدة، يحذر الخبراء من مخاطر انقسام سوق العمل إلى عالمين متباعدين: عالم المهارات العالية والرواتب المرتفعة، وعالم المهارات المنخفضة والوظائف المهددة بالاختفاء، وتكشف الأرقام المقلقة أن 40% من العمال ذوى المهارات المنخفضة معرضون لخطر فقدان وظائفهم بسبب الأتمتة، مقارنة بـ 5% فقط من العمال ذوى المهارات العالية، والأخطر أن 1.1 مليار شخص حول العالم لا يملكون المهارات الرقمية الأساسية، وفقا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، ما يجعلهم خارج المنافسة فى سوق العمل المستقبلي.

وتتجه الشركات الرائدة إلى تبنى نماذج عمل أكثر مرونة، بما فى ذلك أسبوع العمل المكون من 4 أيام، الذى أظهرت التجارب فى اليابان وأيسلندا والمملكة المتحدة أنه يمكن أن يزيد الإنتاجية ويحسن الصحة النفسية للموظفين، وتشمل التوجهات الأخرى سياسات "الإجازات غير المحدودة" وتفعيل برامج دعم الصحة النفسية فى أماكن العمل.