لماذا نحتاج إلى الثقافة (3).. عن الثقافة والاقتصاد والاستثمار

الثقافة قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن الثقافة مجرد رفاهية، أو هامش يمكن تأجيل الاهتمام به في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة، وهي الرؤية الأكثر انتشارا بين السياسيين، وهذا الاعتقاد لا يبدو فقط خاطئا، لكنه قاصر عن فهم الدور الحقيقي الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في دعم الاقتصاد الوطني وتعزيزه.
فعند تأمل تجارب الدول التي حققت قفزات نوعية سريعة نسبيا في اقتصادها (مثل إنجلترا التي يمثل الربح الثقافي فيها 11%من إجمالي الناتج القومي) سنجد أن الاستثمار في الثقافة والفنون والإبداع كان جزءا لا يتجزأ من رؤيتها التنموية الشاملة، وذلك لأن الثقافة ليست مجرد مجموعة من الفنون الجميلة أو التراث المادي، بل هي منظومة متكاملة تشمل الصناعات الإبداعية المختلفة، من النشر والسينما والموسيقى والمسرح، وصولاً إلى تصميم الأزياء والحرف اليدوية.
وهذه الصناعات الإبداعية هي محركات نمو حقيقية تخلق فرص عمل متنوعة، وتجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي، ولنتذكر معا منتصف القرن السابق حين كانت السينما المصرية المورد الثاني للدخل القومي المصري، وهو ما يمكن تحقيقه بتعظيم حجم العائد الاقتصادي الذي يمكن أن تحققه صناعة السينما المصرية لو حظيت بالدعم والتمويل اللازمين، ليس فقط على مستوى الدخل من العملة الصعبة من خلال تسويق الأفلام والمسلسلات المصرية على المستوى الإقليمي والدولي، ولكن أيضا عن طريق جذب الاستثمارات وتوفير كم كبير من فرص العمل.
ولا يقتصر الأمر على السينما فقط، فصناعة النشر، على سبيل المثال، يمكن أن تكون رافدا مهما للاقتصاد من خلال دعم الكتاب والمؤلفين والمترجمين ودور النشر والمكتبات، وتصدير المؤلفين وإنتاجهم إلى العالم، كما يمكن لصناعة الموسيقى، بكل فروعها، أن تحقق عوائد كبيرة وتسهم في تنشيط السياحة الثقافية، وحتى الحرف اليدوية التقليدية، التي قد تبدو للبعض قطاعا مهملاً، يمكن أن تتحول إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية تجذب السياح وتعزز الهوية الثقافية والاقتصادية للمجتم، بل إن المنتجات المصرية يمكنها أن تكون علامات تجارية مميزة على مستوى الإنتاج العالمي إذا أحسن تسويقها.
من هنا يبدو أن الاستثمار في الثقافة ليس مجرد إنفاق على الفنون، بل هو استثمار في رأس المال البشري والإبداعي للمجتمع، هو استثمار في قدرة شبابنا على الابتكار وتقديم منتجات ثقافية فريدة ومتميزة قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية، هو أيضا استثمار في تعزيز صورة مصر ومكانتها على الخريطة الثقافية العالمية، وهو ما ينعكس إيجابا على قطاعات أخرى مثل السياحة، بل إنه سيكون له دوره المهم في تعزيز جذب الاستثمارات عموما وليس في مجال الثقافة فقط.
ولنتذكر معا حجم الدعاية الذي حصلت عليه مصر من خلال استغلال حدث مهم مثل موكب المومياوات الملكية، الذي لم يكن مجرد استعراض للتاريخ، بل كان أيضا فرصة اقتصادية هائلة استقطبت اهتمام العالم وأبرزت الوجه الحضاري والثقافي لمصر، مما انعكس إيجابا على السياحة وغيرها من القطاعات، ولنتخيل حجم الاستثمار الممكن عن طريق استغلال مثل هذا الحدث ضن رؤية شاملة لا تقتصر على القطاع الأثري والسياحي وحسب.
إن الثقافة ليست هامشا في معادلة التنمية الاقتصادية، بل هي جزء أصيل منها، شريطة أن يتم التعامل معها بوصفها عنصرا داخل هذه المنظومة وليست مجرد عبء عليها، أو مجرد خدمة يتهرب منها صناع القرار بحجة كونها حملا على الموازنة، بشرط أن يتم ذلك ضمن رؤية واضحة واستراتيجية متكاملة تضع الثقافة في صلب أولوياتنا الاقتصادية، وتوفر لها الدعم والتمويل اللازمين، وهو ما سيشغلنا في المقالات القادمة بالتركيز على كل مجالات الاستثمار الثقافي.
فلنؤمن بأن الاستثمار في عقولنا وإبداعنا هو أفضل استثمار على الإطلاق.
Trending Plus