فى «تكفير التخوين».. أصبحنا نعادى بعضنا أكثر مما يعادينا أعداؤنا!

كما توقعنا، فقد انخرط أعضاء النخبة العميقة لدينا، فى اشتباكات ثنائية، تبادلوا اللكمات الافتراضية والسب والقذف، انخرط بعض السلفيين فى تكفير الشيعة ومهاجمة إيران، ويرد أنصار إيران بتخوين من ينتقدها، ومن ينتقد إيران يحسبه البعض على إسرائيل، والنتيجة أننا جميعا انخرطنا - يسارا ويمينا ووسطا - فى حروب عرقية وطائفية، متجاهلين أن الخطر على الجميع، وأننا أمام صراعات مستمرة منذ 18 شهرا وأكثر، ارتباطا بما جرى فى 7 أكتوبر بكل ما فيها، وهو حدث يختلف حوله المحللون ويتعارك حوله المتعاركون لدرجة أنهم فى الغالب ينسون القضية الأساسية التى يدور حولها الصراع.
العالم الافتراضى، أصبح يزدحم بدخان المعارك الشخصية والشتائم والتكفير والتخوين من بشر يفترض أنهم من نفس الشعب والأصل والوطن، يهاجمون بعضهم أكثر مما يفعلون مع عدوهم.
ونعود لنقول إن ما يجرى أمر لا يمكن الحكم عليه باتجاه واحد، ومن حق الجميع أن يختلفوا حوله، وأن تتنوع الآراء مثلما يتنوع المجتمع ويتسع، ليحتمل تعدد الآراء.
والواقع أن العرب على مدى عقود كانوا يقولون إن أهداف الاستعمار والعدو اتباع سياسة «فرق تسد»، والمفارقة أنه يفرقهم فيتفرقوا ويسود هو، أو أى من الخصوم.
نحن أمام واقع مثير يفضل فيه أعضاء النخب معاداة بعضهم وتكفير وتخوين غيرهم، ليشعروا بالانتصار، بل إننا على مدى أكثر من 14عاما نخوض حروبا بينية أقرب لحروب الطوائف لا لشىء إلا ليرضى كل عضو نفسه، وغروره، وأنه الفاهم العارف، بينما النتيجة صراع على مكاسب لم تتحقق، وغنائم لم توجد فى الواقع.
وعلينا أن نعترف بأن هذا الانقسام يبدأ منذ اللحظات الأولى والموقف من 7 أكتوبر وطوفان الأقصى، هناك من يقدسها ويراها انتصارا ساحقا ماحقا، وهناك من يراها سبب كارثة دمار غزة، يرد المؤيد أن الاحتلال كان ينوى التدمير، فيرد المنتقد أن من فعلوا هذا أعطوا الاحتلال الفرصة والحجة ليبدأ حرب إبادة، وأن كل من تصدر مشهد الصراع خسر، فقد انتهت قوة حزب الله، وسقطت سوريا، وخسرت إيران، أو على الأقل انخرطت فى حرب كلفتها اغتيالات ومواجهات.
كان من الممكن فى ظل البشر الطبيعيين أن يتقبل كل طرف الاختلاف، وألا يتمسك برأيه ويحاول قراءة الصورة من كل زواياها وأوراقها، وفى ظل توازنات القوى والتحولات السياسية والعسكرية، وأنه حتى داخل إسرائيل هناك تنوع واختلاف ومناقشات، ويواجه نيتنياهو اتهامات بأنه سبب الخراب والحرب، ويحتمل الحال اختلافا وتنوعا بينما نرى أعضاء نخبتنا غارقين فى اتهامات وجدالات وشتائم تصل أقصاها على مواقع التواصل، ولا يحاول كل من هؤلاء العمقاء أن يتفهم الاختلافات والخلافات.
وحتى بعض من يزعمون أنهم خبراء ودارسون للسياسة أو نشطاء، يقدمون نموذجا فى الدوجماطيقية والجدل العقيم، ويفضل الواحد منهم تكفير جاره، أكثر مما يهاجم خصمه أو عدوه المؤكد، بينما السياسة تحتمل الاختلاف والتنوع وتمتد بعيدا عن الأبيض والأسود إلى الرمادى والمتدرج، والواقع أن هذه الأعراض هى من علامات التخلف وغياب الأفق، والرغبة فى إرضاء جمهور افتراضى لاستجداء «لايكات» وتصفيق مع الجبن عن إبداء الرأى الحقيقى.
ومن مفارقات الواقع المثير للسخرية، أن هناك من احتفى بكلمة لنتنياهو رئيس وزراء الاحتلال، قال فيها إن العرب كانوا موحدين فى وقت قيام الكيان، وإن إسرائيل سعت لتفريقهم، واحتفى البعض بهذا باعتباره اعترافا، بينما لسنا بحاجة إلى اعتراف لنعرف أن العرب فى الغالب لم يكونوا موحدين، وأن منهم من نجح الاستعمار فى توجيهه أو التحالف معه أو توظيفه ضد جيرانه، بل إن القومية العربية وغيرها لم تكن أمرا يعتنقه الجميع، وكان يتضمن أمراضا فى الممارسات.
ربما تكون هذه الجولة من الصراع، التى بدأت بهجمات إسرائيل، ورد بصواريخ إيران، قد أعادت لفت النظر إلى ما نعانيه من أمراض تتجاوز مواجهة الأعداء إلى مصارعة بعضنا البعض، لنكتشف أننا نعادى بعضنا أكثر مما يعادينا أعداؤنا.
والواقع أن هذه الصراعات والعداءات والشتائم، تأتى من أعضاء النخب والعمقاء، لا من الجمهور الطبيعى، بل إن المواطن العادى أحيانا يبدى وعيا أكثر ممن يسكنون النخب ويزعمون أنهم يعرفون الأعماق.
وأول خطوة لنعود إلى الطريق، أن يكون كل واحد مستعدا لقبول التنوع والاختلاف فى الرأى، باعتباره من طبائع الأمور، وأن تتوقف هذه الظاهرة التى تمثل فيروسا أخطر من كل عدو.

Trending Plus