إيران وشقوق فى جدار الممانعة.. عن الاختراق والخيانة بين المؤامرة والخلل البنيوى

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

اندلعت الجولة المؤجلة منذ عقدين على الأقل، وجاءت شرارتها من آخر جبهة كان يُحتمل أن تتسبب فى صراع إقليمى واسع. ظل الاحتلال يُراهن على أن حركة حماس مردوعة، ومحور الممانعة يعدها ضمن رصيده المُستبقَى لمستقبل تكون له ضربة البداية فيه؛ لكن يحيى السنوار تعجّل ما كان مقررا أن يُوظف لاحقا، وفرض قواعد اللعبة على العدو والحليف معًا.

ومن وقتها، فى صبيحة السابع من أكتوبر، تمضى الوقائع ارتجالا من طرف، وبالقصد من الآخر؛ لكنهما ينتهيان إلى النتيجة ذاتها: لا أحد يعرف كيف يواصل المسير فى الميدان، ولا كيف يعود منه بأقل الخسائر، والانكشاف سيد الموقف هنا وهناك.

بدا «الطوفان» خيار المضطر، واعتبره نتنياهو فرصته الذهبية. كان مغرما منذ البداية بالذهاب به إلى مداه الأقصى، وربط الساحات ببعضها مخلصا للشعار أكثر من أصحابه.

استحسن دخول حزب الله على الخط منذ الساعات الأولى، وتصدّى لرغبة وزير دفاعه يوآف جالانت أن يُوجّه ضربة استباقية لضاحية بيروت الجنوبية. وكان يعرف أن التوحش فى غزة سيستدرج بقية اللاعبين، بدءا من الحوثى فى الشهر التالى، ثم مناوشات الميليشيات الرديفة فى سوريا والعراق، وصولا إلى تحرشه المباشر برأس المحور فى الجمهورية الإسلامية.

افتتح الحديث مبكرا عن الحرب على سبع جبهات، وكانت طهران العنوان المتمم للقائمة. باختصار؛ تطوع الصهاينة مبكرا بإرسال إشارة تحذير إلى إيران رأسا، تفيد بأن الصدام بينهما لن يتوقف على استهداف الأذرع فى بيئاتها؛ لكن الممسكين بالقرار هناك لم يحسنوا قراءة الرسائل على وقتها، وبطبيعة الحال لم يتجهزوا لها بما يكفى.

اعتُبر الوصول إلى أصول الحرس الثورى الثمينة فى الشام ناتجا عن هشاشة النظام السورى، وحتى حادثة أجهزة النداء الآلى «البيجرز» واغتيال حسن نصر الله سُطّحا وجُرّدا من معانيهما العميقة.

ما يزيد بالتبعية من فداحة الاختراق الذى تجلّى بثقله الكئيب على سماء فارس، وأسقط طابورا من القادة العسكريين وعلماء البرنامج النووى فى ليلة واحدة، فضلا على الوصول إلى عدد كبير من النقاط الاستراتيجية التى يُفترض أن تكون سرية أو حصينة. فيما يُشبه التكرار المؤسف لحكاية «حصان طروادة» وتجربة الغزو من الداخل، وهو ما تحاول إيران الاستفاقة من تأثيره وتداعياته حتى الساعة، ويُصعّب من مهمتها أنها لا تعرف حجم الفاجعة ولا مدى انتشارها فى شرايين الدولة والمجتمع.

أفصحت الضربة عن جيش عالى التجهيز من العملاء المدربين، ونفاذ إلى مستويات عُليا من القيادة والمعلومات. صحيح أن التقنية غير بعيدة من المسألة؛ لكن العنصر البشرى يظل رقما صعبا فى التجربة القاسية.

وقد أعلنت السلطات فى غضون الأيام الماضية، توقيف مئات المتهمين أو المشتبه بهم فى عدد كبير من المحافظات، وهذا مما لا ينم عن يقظة أمنية أو رخاوة استخبارية من الأعداء، لا سيما أنه سياق اشتباك ترتبك فيه الأجهزة ويتعالى الحذر، بقدر ما تشى بحجم التمدد فى عروق النظام والشارع من الداخل والخارج، وكثافة اللاعبين وتنوع مستوياتهم وطبقات عملهم.

وكلها تنطوى على إضاءات تتخطّى مستوى الصراع الراهن مع الصهاينة، إلى مسائل تقع فى صُلب النسيج الاجتماعى وما أصابه من اعتلالات متراكمة طول عقود من هيمنة الملالى على المجال العام.

والمدخل الوجوبى لاستنطاق الظاهرة يبدأ من الإقرار بعراقة الدولة الفارسية، وعِظم إرثها الحضارى، وبأن شعبها يرتكز إلى مكوّن هوياتى بالغ التجذر والثراء. إنهم ليسوا خليطا من البدو الرُّحّل، ولا أخلاطًا من المرتزقة وشُذّاذ الآفاق كما فى حالة إسرائيل نفسها.

وإذ يصح القول إن الكتلة البشرية الهادرة دخلت عليها مثيرات من خارجها، وامتزجت بفئات من المهاجرين واللاجئين وغيرهم من ذوى الانتماءات العابرة للقومية الفارسية؛ فالواضح بحسب المتاح حتى الآن أن الشبهة لا تتصل بعرق دون آخر، ولا تستأثر بها هوية دينية عن غيرها، وحيز الإدانة يتوزّع على كل الفئات بالتساوى، وربما يصل إلى أعلى مرافق الحكم.

وبالبديهة؛ فليس بمقدور عوام الناس أن ينفذوا لمستويات الإدارة الرفيعة، ولا أن يعرفوا أماكن القادة وتحركاتهم، مثلما توصلوا سابقا إلى غرفة إسماعيل هنية فى واحدة من مقرات الحرس الثورى الحصينة.

وعليه؛ فالانطلاق من فكرة أننا إزاء طابور خامس يمكن تمييزه باللون أو الدين، ومحاولة تصوير المشهد على أنه مجرد خيانة كلاسيكية عابرة لمجموعات مؤهلة دوما للعب الأدوار المشبوهة، قد لا يخلو من تبسيط مضلل لفداحة الواقعة، وما سبقها من مقدمات أو يترتب عليها من تداعيات.

وإن كانت الحال لا تخلو من مرتزقة يتربحون بالانقضاض على البلدان من وراء أسوارها العالية؛ فالظاهر أن الهجمة الشرسة تشتمل على فواعل إضافية لا يصح تجنيبها من البحث والنظر، وتتوزع على أسباب عدة، من أول الثارات المعلقة منذ الثورة، وإلى ما أحدثته القبضة الحديدية القاسية فى وعى الجماهير العريضة، ومن الفريقين بالمناسبة: موالاة النظام قبل معارضيه ومن يجاهرون بعداوته علنا.

ولسنا فى حاجة لتكرار البديهيات، والتشديد على حقيقة أن الخيانة غير مقبولة ولا مبررة، دوما وعلى إطلاقها. لكن الفهم يستدعى قدرا من الديناميكية ومحايثة الموقف، والنظر إلى أعماقه بمعزل عن الافتراضات المسبقة.

إنها حالة شديدة التركيب والتعقد، وتتصل بمسلك نظام الحكم منذ البداية فى تمييز نفسه عن الآخرين، وبناء علاقاته البينية وتعاقده الاجتماعى مع المجموع الواسع على مرتكزات هوياتية مُجتزأة ومُشوّهة.

وفى المقلب الآخر؛ تُطل الوطنية برأسها موضوعا للاستعراض والجدل، من حيث كونها التزاما صارما تُؤطره الانتماءات الأولية وتحرس ثوابته الراسخة، أم علاقة تفاعلية تقوم على جناحين متوازيين من الحقوق والواجبات. فيما لا يُنكَر أن فريقا يُقدسها طبعا، فى مقابلة آخرين لا يعتبرونها ديانة أو أيديولوجيا، ويُجرون عليها حسابات المنح والمنع كما فى كل صلة تبادلية المنافع والالتزامات.

بدأت الثورة فى عام 1978 من حيز شعبى واسع، وتداخلت فيها الأفكار والمكونات بانفتاح وضع البلد بكامله فى مواجهة الإدارة وتركيبة الحُكم. وعندما اكتمل لها النجاح فى أوائل العام التالى، بدا أنها تصطبغ بلون واحد دون بقية الألوان، وبعيدا عن البواعث والأسباب؛ فقد آل نتاجها إلى الملالى بزعامة روح الله الخمينى، وسقطت تفاحة ناضجة فى حجرهم.

استُبعد الجميع بالحِدّة نفسها: الشريك المباشر مثل أول الرؤساء ورئيس المجلس الثورى أبو الحسن بنى صدر، وحلفاء اللحظة من كل الأطياف والقوى السياسية والاجتماعية الخارجة عن التسليم بولاية العمائم. عُلّق اليسار على أعواد المشانق، وبدت العملية أقرب إلى إحلال المكونات المذهبية ضمن البنية القديمة للسلطة، فاستُبدلت ميليشيات جديدة بسابقتها من السافاك وغيرها، وأُعيد تركيز السلطة على صيغة شاهنشاهية مُطيّفة لا أكثر؛ فكأن الأسرة البهلوية أخلت مواقعها لبهلويين آخرين، مع الاستعاضة عن رباط العائلة والدم الملكى، بصلة العقيدة والحوزة الشيعية فى قم.

كان وطن الشاه قاسيا على أهله وظالما لهم، ولم يُغير وطن الإمام المرشد فى المعادلة شيئا. ابتلعت الثورة أبناءها، وكرّست لوضع لا يسمح بالمعارضة أصلا؛ لأن السلطة تنطلق من أفق إيمانى موصول بالسماء مباشرة.

كان التنازع مع الوصفة الإمبراطورية المستندة إلى نقاوة الدماء الزرقاء أسهل، أقله من جهة أنها لا تدّعى العصمة، وإن ادّعتها فلا أحد يقرها عليها، كما أنها عائلة تحدّها البيولوجيا، ويمكن تطويقها والقضاء عليها بالقوة إن تعذّرت السياسة.

إنما البديل يأتى من رحم لا حدود لها ولا مُنتهى، إلا القيامة، وتتناسل ويتجدد شبابها فى سلسال مغلق كبقية العائلات الملكية، ما يجعل الشعب فى مرتبة ثانية كما كان سابقا؛ لكنه تلك المرة فى مواجهة مع الله، وليس مع أسرة يجرى عليها قانون الزمن بالشيب والعجز، وقوانين البشر بالزلل والخطيئة والإخفاق.

والانغلاق نابع هنا من سدّ أبواب الجدل الخلاق، أو الديالكتيك على طريقة اليسار، بحيث لم يعد ممكنا وضع التناقضات فى مقابلة بعضها واستخلاص الوسيط، ثم إدخاله فى جدلية مع تناقض جديد، وهكذا على طريق صاعدة نحو التطور وتحسين التجربة من داخلها.

هكذا صار الظلم قانونا سماويا مفروضا على البشر من فوق رؤوسهم، والفارق عميق طبعا بين وطن ظالم يفرد مساحات للأمل، أو لا يُغلق ما يتفجر منها عنوة أو عفوا، وآخر يُحصن ظلمه بسياج من النصوص والروايات والولاية المعمّدة بماء السماء، بحيث يصير قضاء مبرما وميؤوسا منه بالكلية.

حتى الظلم للأسف هيكلية ومستويات، لا يشبه بعضه، ويُضمر داخله من الإشارات ما يُلمّح دوما إلى فرص التعافى الممكنة، أو يقضى حتما بالانتكاسات المتواصلة فى مسيرة أبدية لا راد لها.

والتناقض العميق ليس من جهة طموح الأرضيين فى اختراق جدار القداسة بأدوات هشّة ومبتذلة؛ بل فى أن سماح الطرف الآخر بمجرد المحاولة يشبه الاعتراف الضمنى بأرضية النموذج وقابليته للتجاوز والتصويب.

وعليه؛ فالمعركة التى يُفترض أن تكون بشرية وبأدواتهم، تصبح دوّامة من المتواليات المنزهة عن السهو والخطأ. يتضاعف يقين أصحابها بها، فيما يتضاءل إيمان رافضيها بقدرتهم على اللعب معها فى مباراة عادلة، أو اختراق حصونها بالوسائل الطبيعية.

أى أن كل تصلُّب للنظام يدفع معارضيه إلى الحدود القصوى، ومع حقيقة أن السلطة فى إيران حديدية ومغلقة تماما على نفسها، ويكاد لا يتوافر أى أمل لإنزالها على الأرض، يصير اليأس حاكما لدى الراغبين فى التغيير، وقد يدفعهم نحو انتهاج مسارات يعرفون تماما أنها خاطئة، ويستقبحونها فى دواخلهم؛ لكنهم لا يجدون هامشا ولو ضئيلا لأى بديل عنها.

جرى تأميم المجال السياسى فى إيران، أو بالأحرى خصخصته لصالح فئة رجال الدين حصرا. ومع استشراء مفهوم الولاية وامتزاجه باليوميات والتفاصيل الدنيوية الصغيرة، تحول الإذعان للمراجع الفقهية من سبيل إلى الاستقامة الفردية، ووصفة لالتماس الجنة وفق مسلك إيمانى بعينه، إلى صيغة من العمل السياسى الذى تتشابك فيه الأفكار وتتصارع الأيديولوجيات.

ما جعل من مناطحة السلطة المقبولة فى الأحوال العادية، مغامرة إيمانية وانتحارية فى آن واحد، وتحت تلك المظلة تشوّه مفهوم الخيانة فى وعى الطرفين بالدرجة نفسها: من انتهاج العمالة الصريحة كوسيلة للاختصام والمنافسة والتقويض، وإلى الوصاية على ملابس النساء ومحاكمة الناس عن منشورات غاضبة بتهمة «تدمير صورة النظام المقدس للجمهورية الإسلامية».

والمعضلة ليست فى تغييب البدائل المدنية فحسب؛ بل فى مساواتها بالكفر الذى يتساوى مع اللعنة الأبدية أو استباحة الدم.

ومن هنا لا يمكن النظر لنظام الملالى كما يُنظر لأية صيغة شمولية بظلال بشرية كاملة؛ لأن البشر بإمكانهم خوض تجربة النضال تطلعا إلى التراكم والبناء المتدرج، واحتمال طول الطريق ووعورتها؛ شريطة أن تكون مفتوحة أو تتيح بصيصا من الضوء والأمل مهما بدا خافتا؛ أما قطع الطرق أو إغلاقها تماما فتجعل المعركة صفرية ومحكومة بالهزيمة الاستباقية وإهدار الوقت والطاقة، وتترك قطاعا من الضحايا مُعرّضين دوما للانحراف والتخبط، وتجريب كل البدائل المتاحة ولو كانت لا تقل خطرا وخطلا وسوداوية عن الوضع القائم.

ربما لا يصمد تفسير المسألة بسلوكيات النظام أمام من يُرسخون فكرة الوطنية معتقدا لا يقبل الطعن أو المساس، وقد أتفق جزئيا فى ذلك؛ لكن السياقات المركبة لا يصح اختزالها لدرجة التبسيط المخل، أو تعميم رؤانا ووجهات نظرنا فيها على الآخرين؛ لا سيما إن لم نكن شركاء فى التجربة أو واقعين تحت سطوة الظروف نفسها.

والقصد؛ أنها حالة إلغازية معقدة، وتتعدد فيها زوايا الرؤية، ولا يسهل استعارة مواقع الناس والحكم على مواقفهم بمجرد التمثل البسيط. ما قد يتطلب إفساح المجال لإطلالة أوسع قليلا من الخارج.

وأوضح ما تتجلّى فيه حالة وثيقة الصلة بالفوضى المركبة داخل إيران، تنوع المواقف العربية وتنازعها إزاء المواجهة الجارية بين الدولة الصهيونية والجمهورية الإسلامية.

صحيح أن دول الاعتدال الأكثر تضررا من سلوكيات الشيعية المسلحة ومحورها الممانع بادرت بإدانة العدوان الإسرائيلى، وموقفها يبدو طبيعيا وإلزاميا من زاوية الاتساق القيمى المبدئى، والاستناد الدائم للقوانين والأعراف، والرفض المطلق لمنطق القوة والتعدى على الدول وسيادتها؛ إلا أن قطاعات غير هيّنة اتخذت مواقف شبه محايدة، ولم تخلُ تفاعلات بعضها من شماتة أو تشفٍّ.

وبعيدا من سلوك تيارات السلفية المختلة، وبواعثها المذهبية للنكاية والكيد ولو من قناة الصهاينة النازيين؛ فالصورة لا تبدو على البساطة نفسها إن نظرنا من زاوية البشر العاديين فى سوريا واليمن وبعض لبنان والعراق.

تضررت البلدان الأربع من مشروع إيران وانفلاته على امتداد الإقليم، وسدّدت فواتير باهظة من دمائها ومقدراتها لقاء الهيمنة الممانعة، وتفاخر الجنرال الراحل قاسم سليمانى بالهيمنة على أربع عواصم عربية.

وإذا كانت أضرار المواطن المصرى أو الخليجى من تلك الأجندة زهيدة نسبيا، أو يمكن تخطيها لصالح رفض الضرر الأكبر والتصدى لوحشية الاحتلال وتجرّؤه على المنطقة؛ فإن الانفعالات العاطفية لدى مواطنى تلك البيئات المتضررة لا يمكن تسييلها قهرا تحت عنوان التناقض الرئيسى والتناقض الثانوى، ولا التعالى عليها وإنكارها، ناهيك عن رميها الفج والسخيف بالخيانة والتصهين؛ إذ تظل مفهومة ومحل اعتبار وتقدير، من زاوية الإنسانية والحق نفسها؛ ولو اختلفنا معها أو ذهبنا فى مواقفنا نحو وجهة مغايرة.

لم ير اليمنى العادى، أو السورى واللبنانى والعراقى خارج دوائر نظام بشار ومحازبى حزب الله ومجموعات الحشد الشعبى والأحزاب الشيعية وثيقة الصلة بطهران، خيرا أو ما يشبه الخير من بعيد على أيدى الحرس الثورى ورجاله. تفككت الدول وطُعنت بالميليشيات، واستُبيحت الدماء، وجرى تعميم ولاية الملالى على مجتمعات لا يعرفونها ولا تدين لهم بأى ولاء، فضلا عن أنه لا رباط من عرق أو مذهب.

وإذا كان غيرهم فى متسع من الرفاهية لتنحية تلك الرواسب؛ فأغلبهم ما زالوا واقعين فى أسرها حتى الساعة، أو يتعثرون فى مسار طويل للتعافى وإغلاق الذاكرة على صفحاته السوداء. وبهذا؛ لا يمكن الجزم باستخفاف هنا بالخيانة أو العمالة، ولا حتى بالتشفى والشماتة فى الصورة الرديئة والمرذولة بين آحاد البشر؛ لكنها خصومة حقيقية قائمة ومفتوحة، ومظالم لم تُصفَّ حساباتها أو يُعتذر عنها، وما يزال مرتكبوها متمسكين بها ومصرين عليها، كما كانت على صورتها الطازجة فى زمن الاستئساد والمكاسرة وفرض الإرادة بقوة السلاح وغشومة الاعتقاد.

وما سبق يختلف ظاهريا عن الحادث فى قلب المشروع وأعماقه؛ لكن الاحتمال يظل قائما بتعقد المسألة نفسيا وعقليا على وجه مطابق، وبأن بعض مكونات الداخل تعرضت لإغارات شبيهة، أو تنظر لمحنتها الذاتية من الزاوية نفسها.

ما يذهب بالسؤال إلى نطاق أبعد كثيرا، ليصير مجاله الحيوى عن الأسباب التى أوصلت مجتمعا بتلك التركيبة من التمدن والإرث الحضارى؛ ولو لم يكن متجانسا تماما، إلى أن يصير مجالا هشا ومنقسما على ذاته، وتتغلب فيه الهواجس البينية على ما يتقاطع مع الأعداء والمختلفين، بحيث لم يعد عمليا كتلة واحدة فى مواجهة المخاطر والتحديات كما جرت العادة وطبائع الأمور، بل قلب صلب يخوض صراعا وجوديا، وهوامش تأتلف أو تختلف؛ إنما لا يُنكَر أن بعضها أقرب للحياد، أو لا تعتبر المعركة تخصها أصلا، والأخطر أن يكون فيهم من يهتف للغزاة ويتمنى انقضاض دعائم البيت.

الواقع؛ أن النظام لم يكتف باحتكار السلطة وتأبيد وجوده فيها، بل بنى بلدا موازيا يتوزع على امتداد الجغرافيا، لكنه يبتسر التاريخ، ويشرخ الاجتماع من داخله. الولى الفقيه على قمة الهرم، وحواليه هيئة دينية شمولية الطابع، ثم مرافق تنفيذية تُبنى بالولاء لا الكفاءة، وأذرع أمنية تقوض المجال العام وتتسلط على كل صغيرة وكبيرة فيه، وأخيرا شعب يخصها دون الشعب من دون مبالغة.

وانطلاقا من الحوزات العلمية، ثم هيئات القيادة وصيانة الدستور وتشخيص مصلحة النظام، مرورا بالجيش والحرس، ووصولا إلى قوات التعبئة/ الباسيج، والأخيرة يعد منتسبوها بالملايين، ومع كل هؤلاء وعائلاتهم نكون إزاء كتلة ضخمة بالقطع، لكنها لا تمثل إجمالى تسعين مليونا من السكان، ولا تعبر عنهم بالتساوى، ولا تفتح ثغرة للباقين من خارجها أن يدخلوا ويخرجوا، أو على الأقل أن يمتلكوا مجرد الحلم بالدخول والخروج.

أخذت الشمولية بعدا مركبا، لا من جهة تعميم القهر فحسب، بل ترتيبه فى طبقات مع الفرز والتمييز بينها. أما الطبيعة الثيوقراطية للحكم فجعلت من السلطة التنفيذية نفسها هامشا، قد لا يكون بعض أطرافه راضين تماما عن الحال، لكنهم مضطرون للعب أدوار تمثيلية وتكميلية غير مقنعة، وغير مثمرة أيضا.

حتى الإصلاحيون الذين يُقرّون بالنظام وثورته الإسلامية يُستبعدون أحيانا، ويُرمون بعوار الفكر ونقص الإيمان، من خاتمى إلى جواد ظريف وغيرهم، على دين الملالى بالحرف والفاصلة؛ لكنهم خارج دائرة الصفاء العقائدى والإيمانى. ومزيج المتناقضات يعمق الفجوات، بين السلطة الدينية الظاهرة، والفرز المذهبى، ومحاولات إحياء الامبراطورية الفارسية بطابعها العرقى، بينما لا يُعترَف عمليا بتنوع المكونات، أو بما يقع بعيدا من التسليم الكامل للعمامة السوداء.

وإذ يقع كل ذلك على مرأى الناس ومسمعهم؛ فإنهم يُعاينون صيغة هجينة بين الدولة والميليشيا، يتوطد فيها التعالق وأولوية الرباط والولاء مع أذرع خارجية، يُنفَق عليها بسخاء مقابل الإفقار الكاسح داخليا، وتُرتّب فى سلم الأولويات قبل المواطن وحاجاته اليومية؛ فإن عمود الخيمة فى فكرة المواطنة يتداعى من تلقاء نفسه، ويفقد كل قدرة على التفعيل أو الاستدعاء الدعائى.

ولا يعود بالإمكان أن يمر على خاطر الناس مجرد احتمال ضئيل بأن سلوك النظام ناشئ عن انحراف غير مقصود، أو قابل للمداوة والتقويم؛ بل يتأكد لديهم أنه عقيدة جيوسياسية تتخذ من البلد الكبير قاعدة لمشروع أصغر منها وأقل قيمة، ويُرهَن كل شىء لأجل الثورة التى ترفع الشعار لنحو خمسة عقود، كأنها لم تنجز أهدافها بإسقاط الشاه واعتلاء السلطة، وكأن ما تُخبئه وراء ظهرها أكبر مما تصرّح به حتى الآن.

للجغرافيا قوانين تفرضها على التاريخ والبشر. إيران أكثر اتّساعا من الحدود المنظورة، ومُتجذّرة بما يتخطّى وعى الملالى بإرثها. لم تكن شيعية قبل قرون غير بعيدة، ولا دانت لمُحتلٍّ، ولا لدخيل أو أصيل. عرقيا تتوزع على قائمة طويلة منها الفرس والكُرد والآذريون واللور والبلوش والعرب والأرمن والتركمان والآشوريون والتتر وغيرهم، وعقائديا يتجاور المسيحيون واليهود والمندائيون والزرادشتيون مع الشيعة والسنّة. والمجتمعات التعددية المُركّبة على تلك الصورة تحتاج إلى سياسات احتوائية دامجة، وجهود جادة ودؤوب لتسييد المواطنة على دوائر الانتماء الأوّلية.

المُرشد والرئيس من الآذريين لا الفرس؛ لكن الشرعيّة تتولَّد من الدين والثورة. يحل الرجل الأول باختيار مجلس خبراء القيادة، وهو مُنتخب ظاهريا؛ لكن أعضاءه يمرون من قناة مجلس صيانة الدستور، المُعيّن من المرشد، وصاحب الحق المطلق فى تحديد صلاحية المرشحين، وإجازتهم أو شطبهم. وكذلك لبقية المناصب المدنية، ما يجعل التركيبة فى جوهرها ملكيّة ثيوقراطية، ولو انتحلّت طابعًا يُشبه الديمقراطية وتداول السلطة.

وبهذا البناء؛ يصير التنوع عبئًا لا ميزة، والجدلى مقدسا، والصيرورة تهديدا وجوديا. إفراط التعددية مع غياب وسائل الاحتواء، يحوّلها إلى تشظٍّ مُركّب، وآلية تقسيم وإضعاف، لا قوة وإغناء. وعليه؛ فإذا هُزِمَت إيران فى الجولة الحالية أو أية جولة تالية؛ فلأنها هُزِمَت أو هَزَمَت نفسها من الداخل قبل أن تُستهدَف من الخارج.

وسواء تهدَّم النظام كما يطمع أعداؤه ومعارضوه، أو أفلت بعافيته أو الضئيل منها كما يتمنّى موالوه والمنتفعون منه؛ فالدرس الذى لا ينبغى تفويته أن إيران فى حاجة ماسّة لمفارقة ماضيها القريب، وبناء عقد اجتماعى مُحدَّث، ونموذج تعايش وشراكة مُغاير لما عرفته طوال خمسة عقود ثورية.

أقل الأضرار اليومَ للأسف فى سقوط النظام، وأعلاها فى ترويضه وتقليم أظفاره، وإبقائه ضعيفا ومردوعا؛ ليكون عبئا على الداخل دون وزن خارجى، ووسيلة قهر دون فرصة للتنمية وبناء النهضة الوطنية، وأداة مزدوجة لقمع الدولة ذاتيا بالبطش والقداسة، وتطويقها خارجيا بالذرائع وشراء البقاء بالتضحيات الماسّة بالدولة ومصالحها الحيوية.

الخيانة ليست وجهة نظر؛ لكنها ليست مؤامرة مُدارة من وراء الحدود دائما، وكثيرًا ما تكون ثغرة فى الجدار، أو خللاً فى بنية النظام نفسه، وبأيدى مُنظّميه أيضًا.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

القانون ينظم ضوابط فحص الطلبات بعد غلق باب الترشح بانتخابات الشيوخ

اتحاد الكرة يستقر على إقامة السوبر المصري بمشاركة 4 فرق

بالأرقام.. مودريتش يودع ريال مدريد بعد مسيرة أسطورية

باراك: واشنطن لا تدعم إنشاء دولة لـ"قسد" فى سوريا

غادة عبد الرازق تكشف عن تعرضها للإصابة وتجلس على كرسى متحرك


انفجارات عنيفة تدوي في مدينة جبلة السورية

طلاب الهندسة الحيوية بالإسكندرية ينجحون فى تصميم ذراع روبوت بـ6 درجات حرية.. "6-DOF" يُستخدم كمساعد لأطباء الجراحة فى المستشفيات.. تنفيذه يكلف نحو 22 ألف جنيه.. وأعضاء هيئة التدريس يشيدون بالمشروع.. صور

مانشستر سيتي: هالاند يستمع إلى ألبوم عمرو دياب الجديد

تسونامى المخدرات يهدد أمريكا اللاتينية.. الكوكايين ينتشر فى البرازيل ويضرب 11 مليون متعاطى.. السباق التكنولوجى للتجار فى كولومبيا يؤجج المخاوف.. "مخدر الزومبى" يثير الرعب فى المكسيك.. والفنتانيل ينتشر فى تشيلى

هل سيتم تخفيض تنسيق الثانوي العام بالقاهرة ؟.. اعرف التفاصيل


موعد مباراة تشيلسي ضد بي إس جي فى نهائى كأس العالم للأندية 2025

السيطرة على حريق مصنع منظفات وكيماويات مدينة بدر وبدء عمليات التبريد

عداد صفقات الميركاتو الصيفى.. الأهلى الأكثر حضورا والزمالك وبيراميدز "اختفاء"

25 سيارة إطفاء تكافح حريق مصنع منظفات وكيماويات مدينة بدر

الأسترالي علي رضا فغاني حكما لنهائي كأس العالم للأندية

الهيئة الوطنية تنشر آلية استعلام المواطنين عن مقر اللجان بانتخابات مجلس الشيوخ

وادى دجلة يهزم غزل المحلة 3 - 0 وديا استعدادا للموسم الجديد

محمد ثروت يهنئ ابنته داليا بعد حصولها على درجة الماجستير من بريطانيا

سر تجدد اشتعال النيران في سنترال رمسيس.. مدير الحماية المدنية الأسبق يوضح

أحمد الرافعى يستعد لتصوير دوره فى حكاية ديجافو بهذا الموعد

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى