في البدء كان الجنون.. ما يقوله روي بورتر عن الإنسان والمرض العقلي

تاريخ موجز للجنون
تاريخ موجز للجنون
أحمد إبراهيم الشريف

يمكن القول منذ وجد الإنسان على هذه الأرض وجد الجنون أيضًا، وقد أشارت إليه الحضارات وتعرض له الفلاسفة والأطباء، وهذا ما يرصده كتاب "موجز تاريخ الجنون" لـ روي بورتر، الذي يقول:

ربما كان الجنون قديمًا قدم الجنس البشري، فقد استخرج علماء الآثار جماجم مثقوبة ترجع على الأغلب إلى المئوية الخامسة قبل الميلاد، وكانت هذه الجماجم قد ثقبت بأدوات صخرية، لاعتقاد الناس في ذلك الزمان، ربما، بأن هذه الثقوب تتيح للشياطين الخروج من جسد المرء الذي تلبسته.

وقد تبدى الجنون، في الأساطير الدينية المبكرة والحكايات الخرافية بوصفه قدراً أو عقاباً، وجاء في سفر التثنية: "لقد كتب، أن الله سوف يبتليك بالجنون؟"، ويخبر العهد القديم عن العديد ممن تلبسهم الشيطان ويروي كيف أنزل الله عقابه بنبوخذ نصر، وذلك حين مسخه إلى حالة من الجنون البهيمي، أما مجنون هومر، أجاكس، فقد دأب على نحر الخراف لاعتقاده بأنها من جند الأعداء، ما يمثل إرهاصاً لبطل سيرفانتس دون كيخوته الذي كان يناجز طواحين الهواء، وقد تم ربط العنف، والأسى، والتعطش للدماء، والوحشية، دائماً بالجنون، ولقد رمی هیر دو دوت کامبسیس.. ملك فارس الذي كان يسخر من الدين بالجنون، متسائلاً: من يستطيع الحط من قدر الآلهة غير المجنون؟

وقد عزيت الاضطرابات الشديدة في المزاج والكلام والسلوك عامة، إلى قوى فوق طبيعية، فلدى الهندوسية، مثلاً، شيطانة خاصة تدعى غراي أي الأنثى التي تتلبس ونسب إليها التسبب في التشنجات الصرعية، أما في الهند، فقد اتهم الشيطان الكلب بتلبس الناس، لطالما ربطت الصفات الكلبية بالجنون، ومثال على ذلك الاعتقاد السائد بالإنسان المستذئب، حيث يدأب المجنون المصاب بهذا الداء على التطواف في المقابر ونبح القمر، ومن ذلك أيضاً، استخدام مصطلح "الكلب الأسود" للتكنية عن الاكتئاب.

موجز تاريخ الجنون
موجز تاريخ الجنون

واعتقد البابليون وسكان بلاد ما بين النهرين أن اضطرابات بعينها منشؤها الروح الشريرة، والسحرة، والمكر الشيطاني، والعين الشريرة أو اقتراف المحرمات، وهكذا فقد كان التلبس قدراً أو عقاباً. وقد عد نص أشوري سطر عام 650 ق.م تقريباً، ما بدا أنه عوارض لمرض الصرع من عمل الشيطان، وجاء فيه: «إذا اتفق لحظة التلبس، أن يكون المرء جالسًا، وتحركت عينه إلى الناحية الأخرى، وتغضنت شفته، وتدفق اللعاب من فمه، واختلج الجانب الأيسر من جسده مثل نعجة مذبوحة فذلك هو الشيطان ميجتو. وإذا كان عقل المرء الموسوس، واعياً لحظة التلبس، فمن الممكن طرد الشيطان من جسده، أما إذا لم يكن واعياً فمن المستحيل طرده".

ويستطيع المرء أن يرصد الاتجاهات الأولى لدى الإغريق، من خلال الأساطير والملاحم، ولا تعرض هاتان الأخيرتان الحقائق كما يعرضها كل من العقل والإرادة، تبعا لذلك النمط اللاحق الذي نجده في الطب والفلسفة، كما أن أبطال هذه الأساطير والملاحم لا يمتلكون أنفساً psyches إذا قارناها، مثلاً، بأوديب لدى سوفوكليس، فضلاً عن الشخصيات التي تعثر عليها في أعمال شكسبير أو فرويد، فلم يكن البطل لدى هومر كائنًا ممتلكًا وعيًا ذاتيًا باطنيًا مثل تلك الشخصيات التي استوطنت حوارات سقراط إثر ذلك بنحو 100 سنة، وفي واقع الأمر، إن الإلياذة لا تتضمن كلمة مماثل لفظة شخص أو ذات المرء.

إذ كان ينظر إلى العيش والسلوك الطبيعي وغير الطبيعي بوصفها مسائل خاضعة لقوى خارجية فوق طبيعية، وكان البشر يصورون، حرفيًا، بصفتهم كائنات تنقاد، وهي ذاهلة، إلى الغضب والكروب والانتقام، فما أبطال الإلياذة سوى دمى في قبضة قوى رهيبة تضطلع بالعقاب والانتقام والتدمير، وهي الآلهة والشياطين وآلهة الانتقام الثلاثة، كما تتحدد أقدار الشر بأحكام تتنزل من الأعلى وتتكشف أحياناً، عبر الأحلام، وهواتف الوحي، والعرافة، وعليه، فإن الحياة الداخلية بخياراتها وضميرها المعذب لا تمتلك وجودًا حاسمًا. فنحن نستمع إلى كثير من أفعال الأبطال دون أن تعثر على تأملاتهم.

مهما يكن من أمر، فإن صورة عقلية أكثر جدة شرعت بالظهور مع إطلالة عصر أثينا الذهبي فقد أسس التفكير الذي طور حول النفس البشرية، في القرنين الخامس والرابع ق.م، القواعد الأولى للاتجاه السائد في التفكير الغربي حول العقل والجنون ويشهد على ذلك اعتراف فرويد الضمني بهذا التراث حين استشهد بمسرحية سوفوكليس، فسمى الصراعات السيكولوجية الجنسية لدى الطفل عقدة أوديب، إذ تجمع الدراما اليونانية بين السمات التقليدية وتلك الأكثر جدة للعقل.
وتصور مسرحيات إسخيليوس وسوفوكليس ويروبيدس، درامياً، صراعات قوى رهيبة. ولا يكون البطل أو البطلة سوى ألعوبة بيد الآلهة ولعلهما يشعران بأنهما مسحوقان تحت وطأة قدر لا يرد، واصطراعات الحب والمجد وصراعات الفرد والجماعات والدول. وتكون النتيجة التي لا مفر منها، أحياناً، الجنون. إذ يحدث أن يفقد البطل أو البطلة عقليهما، ويخرجا عن طوريهما فيهيجان مثلما فعلت "ميديا" حين نحرت صغارها. بيد أن الأبطال التراجيديين، خلافاً لأبطال هومر، يشخصون ذواتاً واعية لتأملاتها الداخلية ومسؤولياتها وذنوبها. وهم الأبطال يظهرون الصراع الداخلي حين تنقسم العقول المعذبة على نفسها، كما يتبدى ذلك، غالباً، في التفكير الصائت لدى الكورس. إذ لم تعد قوى التدمير في التراجيديات قوى القدر الخارجي والأرباب المتجبرين والآلهة الشريرة. فالدمار مبعثه الذات أيضاً، إذ تنتهب الأبطال، الغطرسة والطموح والكبر. فضلاً عما يستتبع ذلك من عار وأسى وشعور بالذنب، فهم يمزقون أنفسهم ويجلبون عليها الجنون. وغدت الحرب الأهلية، ذات المنشأ السيكولوجي، مذاك، مستوطنة في الوجود البشري.

وتقترح الدراما سبلاً للحل، أو أن المسرح - كما يمكن أن نقول عمل بوصفه علاجاً. وقد يكون العقاب، على اقتراف الإثم، قطعاً، بالموت، لكن تصوير الكرب، كما نجده في شخصية «أوديب»، يتبدى طريقاً إلى الحكمة العليا. فربما أفضى العمى إلى البصيرة. كما يمكن أن يقود الأداء الدرامي أمام الجمهور إلى تطهير جمعي، وسوف نرى ذلك لدى شكسبير في «الملك لير» الذي قاده اغترابه الذاتي، عبر الجنون، إلى معرفة الذات.

وقد جاء الطب اليوناني ليجابه المعتقدات فوق الطبيعية، التي أمت العالم القديم، حول التلبس.. تلك المعتقدات التي رأت كما بينا سالفا، أن الآلهة هي المتسبب بنوبات الصرع، إذ يكون ضحية المرض المقدس، الصرع مسكوناً بالشيطان أو الروح الشريرة التي تصطرع مع جسده وروحه. وكانت تجابه هذه الاضطرابات الصحية بالصلوات والتعويذات، والأضحيات التي تقدم في المعابد إلى إله الطب والشفاء "إسكليبيوس".

وقد جاءت رسالة في المرض المقدس لتعترض على هذا النهج. فرأى مؤلفها، وهو واحد من أتباع أبي الطب اليوناني، أبقراط: أنه لا وجود لما هو فوق طبيعي في هذا المرض. فالصرع مرض دماغي، لا شيء آخر. وكتب يقول:
ليس المرض المقدس، كما يبدو لي أكثر ألوهية أو قدسية من الأمراض الأخرى، بل هو ذو منشأ طبيعي مثل غيره من الأمراض، واعتقاد الناس بألوهيته نابع من جهلهم وحيرتهم. ذلك أنه لا يشبه عرضياً، الأمراض الأخرى.

 

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

سيحا حارس الأهلي يتعرض لحادث سيارة ويعلق: الحمد لله على فضله

شيرين عبد الوهاب: ياسر قنطوش لا يمثلنى قانونيا ولدى الخبرة الكافية لاتخاذ قرارتى

الزمالك يتظلم من قرار سحب أرض النادي بـ 6 أكتوبر ويؤكد صحة موقفه

مستشفى الأهلى.. 6 لاعبين خارج الخدمة فى مباراة غزل المحلة بسبب الإصابة

ابنة هوجان تطالب الشرطة بكشف لقطات الكاميرات لتوضيح ملابسات رحيل والدها


داكوتا جونسون.. كيف جمعت نجمة Fifty Shades of Grey ثروتها بعيدا عن التمثيل؟

ريبيرو يناقش مع جهاز الأهلى موقف محمد الشناوي من مباراة غزل المحلة

مقر عبادة الإله جحوتى.. مدينة الأحياء الأثرية تحكى تاريخ المنيا القديمة.. صور

الطقس اليوم.. ارتفاع طفيف ومؤقت فى درجات الحرارة والعظمى بالقاهرة 38 درجة

النصر يتحدى الأهلي في نهائي كأس السوبر السعودي


تفاصيل رسالة ريبيرو لنجوم الأهلي بعد "هوجة" الغيابات فى مباراة غزل المحلة

المصري يتصدر.. ترتيب دوري نايل قبل انطلاق الجولة الرابعة غدا

هل تفلت هدير عبد الرازق من الحبس.. تعرف على موعد الحكم عليها

نابولي يستهل حملة الدفاع عن لقب الدوري الإيطالي أمام ساسولو الليلة

تعرف على مباريات الإسماعيلى حتى نهاية أغسطس فى الدوري

وفاة الفنانة المعتزلة سهير مجدى

مواعيد مباريات اليوم السبت 23 - 8 - 2025 والقنوات الناقلة

بوتين من المركز النووى الفيدرالى بـ"ساروف": علماؤنا أنشأوا درعا نوويا قويا للبلاد

تارا عماد تفاجئ جمهور حفل ويجز.. وتشاركه أغنية "أميرة" فى مهرجان العلمين

اليوم غلق باب التقديم على فرص عمل فى السعودية بمرتبات 80 ألف جنيه شهريا

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى