توشك الحرب أن تضع أوزارها.. ترامب يلقى القفازات ويخير طهران بين الطاولة والميدان

حازم حسين
حازم حسين
بقلم حازم حسين

ألقت الولايات المتحدة القفازات، وكل ما دون ذلك من كلام لا يتجاوز نطاق التمنّى أو المبالغة. ولنكن أكثر وضوحًا واجتراء على الاستخلاص المُبكّر، بالقول إنه لا حرب دولية أو إقليمية، ولحظة الذروة انقضت بالفعل، والبقية لا تعدو أن تكون اشتغالا محسوبا من كل الأطراف على لملمة الفوضى، والعودة إلى حال الهدوء الحرج.


العداوة مُتأجّجة فى الصدور كما كانت دائما؛ لكنهما لم يكونا صديقين من الأساس. الشرر لن يتوقف بين غمضة عين وانتباهتها؛ إنما الجمرة الكُبرى تفتّتت تقريبًا، والسياسة تشقُّ طريقها بصعوبة بين الطلل وأكوام الركام؛ لكنها تتحرَّك إلى الأمام فى كل الأحوال.


أوروبا الخاسر الوحيد من الضربة الأمريكية لمرافق إيران النووية، أو لنقل إنها الخاسر الأكبر. لا يضر الجمهورية الإسلامية جرح جديد بعد كل ما أصابها من جراح، وإسرائيل تلقَّت من صفعات الإهانة ما لا تُعوّضه ضربةٌ أو يزيده ردٌّ منضبط.


أما واشنطن فدخلت فى قلب الحريق على صورة «البطل الخارق» المُفضّلة لديها، وخرجت سالمة تمامًا. وحدها القارة العجوز تتأكد أنها خارج حسابات الجميع، وعديمة الوزن تقريبًا، وتُستَخدَم من جهة الحلفاء باستصغارٍ لم ترَه من قبل فى عيون الخصوم والأعداء.


قبل قرن أو أقل كانت بعض العواصم الأوروبية متنفذة فى الإقليم، وتقضى بما تريد بلا راد لقضائها. واليوم تبدو فى أفضل التصورات مجرد صندوق بريد، أو أداة وظيفية للمناورة والتضليل. وقد التبس عليها المشهد وأخطأت فى قراءة الشواهد مرتين فى عشرة أيام، وبمثل ما انطلت الخدعة على طهران نفسها.


قُدِّمَت الترويكا على هيئة مخلب القط فى اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن تشددها أتت الإدانة بعدم الامتثال، وأُرخى الغطاء السياسى والقانونى على عدوان إسرائيل فجر 13 يونيو. وبالطريقة نفسها جرت الوقائع فى جنيف نهار الجمعة الماضية؛ إذ كانت تحاور عباس عراقجى على مفردات الصفقة، فيما يُذخّر ترامب طائراته ويتأهب لعمليته الكبرى.


فى النظرة البسيطة كانت الجولة فرصة أخيرة لإيران أن تضع كفيها على الطاولة، وتبصم بالأصابع العشرة على مسوّدة اتفاق عنوانه الاستسلام.


أما فى الجوهر؛ فكان القرار مُتّخذا بالفعل قبل ما يزيد على شهرين، وتحديدا منذ أرسل سيد البيت الأبيض رسالته للمرشد الأعلى مشمولة بمهلة الشهرين، وأدار معه خمس جولات تفاوض بين مسقط وروما، وكلها كانت محاولة لسد الذرائع وإلباس الخطة الخشنة لباس الحتمية؛ وليس بعيدا من المنطق أن واضعى الرؤى على الجانب البعيد من المحيط، يعرفون الطبيعة العقائدية لنظام الحكم فى طهران، وكانوا يتوقعون مفردات سلوكه المحتملة بالحرف والفاصلة.


والحال؛ أن جمهورية الملالى أخطأت فى تقدير الوقت، وحددت نطاق حركتها وفق تقديرات غير منضبطة منذ «طوفان السنوار» على الأقل؛ لكنها بالتأكيد استفادت من زحام الشهور الثلاثة الأخيرة، واستقرأت حدود ما يمكن النفاذ إليه وما يستحيل عليها الإفلات به، ولا وجه لافتراض أنها مُغيّبة تماما لدرجة استنفاد الفرص بالرخاوة القديمة، أو الانعزال عن سياق المستجدات الإقليمية بتداعياته الثقيلة.


والقصد؛ أنها أعادت النظر فى الوقائع من دون شك، وتدبرت أمرها بقدر من المفاضلة بين السيئ والأسوأ، وكل ما تتجادل فيه حاليا يخص التسوية الأخيرة، وسيناريو الخروج بأهون الأضرار، أو بالحد الذى يحفظ لها ما تبقى من ماء الوجه.


كل الاحتمالات واردة بالقطع حتى لحظة كتابة المقال (ظهيرة الأحد)، بين أن ترد الجمهورية الإسلامية على إيقاع تهديداتها السابقة، وأن تنضبط دون السقف الذى لا يُطوّر الصراع ولا يُسلّم بالهزيمة.


ولا حاجة هنا للتذكير بأنها بلد كبير، بل كبير جدا، ولديه من الإمكانات ما يكفى لإزعاج الخصوم بما فيهم الولايات المتحدة، وربما الصمود لشهور طويلة مهما كانت الأضرار؛ لكن حسابات الحقل لا تتلاقى دوما مع حسابات البيدر، وثمة مصالح استراتيجية تلعب دور الكوابح الذاتية طوال الوقت لأية نزوة أو انفعال. وهذا مما يُرجح أنها لن تندفع بحماسة مفرطة، أو بالأحرى لن تُستدرج مجددا إلى فخ أعمق من سابقه.


وبمنطق الحرب؛ فالولايات المتحدة لم تتحرك دون تقديرات وافية لرد الفعل الإيرانى، وقد أعادت التموضع بامتداد الإقليم طوال الأيام الماضية، واتخذت أوضاع الاستعداد للتصعيد واحتمالية تطور الاشتباك. والطرف الآخر مطعون فى كرامته؛ إنما ما يزال لديه ما يخشى منه أو يخاف عليه.


النظام أهم من الأصول، مشروع الثورة قبل المشروع النووى، وواشنطن ليست كتل أبيب مطلقًا، وإذ تكفلت الأخيرة بإضعافها وضعُفَت معها خلال مناوشاتهما القائمة؛ فالأولى ما تزال بكامل قوتها، وهى كاسحة وميّالة بوضوح فى الأحوال الطبيعية، ولا مجال للمقارنة مطلقا فى جو الهشاشة المخيمة على سماء الجغرافيا الفارسية حاليا.


وبعيدًا ممّا قد يراه البعض تبسيطًا؛ فالأرجح أن ترامب تدخَّل لإنهاء الاشتباك لا تطويره. وضغط الزرَّ وفى مخياله صورة الكبير الذى يفُضّ المشاجرة بين غريمين صغيرين، ويعلم أن الصفعة منه مختلفة تماما عن أن تكون من إسرائيل، وما يرفضه الإيرانيون من الصهاينة قد يقبلونه من الأمريكيين بواقعية أو ارتداع، وبرغبة محمومة أيضا فى البحث عن مهرب من الدوّامة التى لا يستطيعون مقاومتها طويلا، ولا البقاء فى أسرها دون أفق واضح.


صحيح أن سيد البيت الأبيض كاذب ومخادع، ويتلاعب بالسياسة والسلاح على طريقة الحواة، ولا ينشغل بالقيم والقانون قدر انشغاله بالمصلحة والمنافع المباشرة؛ لكن نقطة العيب تلك كافية لتأكيد أنه لا يريد الحرب فعلا، ولو تلاقت أهدافه فيها مع ما يرفعه نتنياهو نتنياهو من شعارات لاهبة.


يمكن القول إنه يعانى من صراع داخلى قاس، بين صورتى الفتوّة والتاجر المكار، وبين ترغيب الزبائن وترهيبهم، ومنطقه للسلام من خلال القوة ينُم عن ضعف سياسى لا عن فتنةٍ بالعضلات فحسب.


والطريقة المُثلى لملاعبته لا تكون بالتسليم ولا المناطحة، ولا بالاحتواء من جهة الاستكانة والضعف، أو بالإغواء تحت عنوان الندية، واتقاء الشر بدلا من انتظار الخير. تركيبة معقدة وشديدة الإرباك، وتمتزج فيها المغانم بالمغارم؛ لكنها واقع لا بديل عن التعاطى معه، ولا سبيل لتنحيته أو إنكار وجوده الثقيل.


عاد الرجل إلى إقليم يختلف تماما عما تركه عليه قبل أربع سنوات، ويقدم فى ولايته الثانية نسخة مجددة ومغايرة لنسخته الأولى. وعقدة الصراع الآن أن الطرفين فى مرحلة الاستكشاف، ولم تنضبط معادلتهما بعد خمسة أشهر بأثر الزعابيب وخلط الأوراق.


يعود أقوى مما غادر الساحة، أو ممتلئا بشعور القوة، فيما الجمهورية الإسلامية صارت أضعف، والحليف العبرى يزداد توحشا، وعليه أن يعيد ترسيم الحدود بينهما بعد فاصل من رخاوة بايدن فى السلم والحرب، ومع بيئة ملتهبة لأقصى مدى، وتقاطعات مع المراكز المالية فى المنطقة، تستدعى ترشيد الخطر؛ إنما تحتاج لإبقاء الفزاعة ولو من بعيد.


خلاف ترامب فى حقيقته ليس مع خامنئى، بل مع نتنياهو وعصابته التوراتية الهائجة. وليس على الصورة التى يُسوقها رومانسيو التحليل العرب، من ناحية التنازع فى الأصول والغايات العليا؛ لكنها تتصل بتفاوت الأولويات وتوزع الأهداف بين التكتيكى والاستراتيجى.


زعيم الليكود يتطلع لإطاحة النظام فى إيران، ونبى العظمة الأمريكية يضعه فى الخزانة، ويعرف أنه واقع لا محالة؛ إنما لا يريده الآن، ولا بالكيفية التى تشعل برميل البارود بدلا عن سحبه من أيدى المتمترسين وراءه فى خندق أصولى عميق.


ومن تلك النقطة تحديدا؛ يمكن النظر للضربة الأمريكية على أنها مخرج وليست تعميقا للحفرة الغائرة. وعلى غير العادة؛ تنفذ الولايات المتحدة ضربة غير اعتيادية بأقل قدر من الصخب، وفى حالة عارمة من الخرس البصرى إن جاز التعبير، أو التعمية الغريبة على بلد يُحارب بالصورة قبل القنبلة.


ما يعنى أنها سواء دمرت أهدافها المقصوفة، أو أخطأتها قصدا أو فشلا، لم يكن بين شواغلها أن تُفرط فى التنكيل بالخصم والحط من كرامته، وتركت له مساحة من الالتباس تسمح له بالإنكار، وسوق سردية بديلة، وربما ادعاء النصر أو الصلابة الكاملة؛ ليكون الذهاب إلى نقطة تسووية وسيطة أمرا ممكنا، وضمن حيز ضئيل من الحاجة للرد، ومن ترشيده لأدنى درجة ممكنة حال الاضطرار إليه.


أُذيع غزو العراق على الهواء مباشرة، بل كانت التجربة أسبق كثيرا منذ حرب الخليج الثانية فى مطلع التسعينيات. وفيما تستخدم دُرة ذخيرتها التقليدية من القنبلة GBU-57 وبعدد قياسى، نحو 12 وحدة تشتمل على 30 طنا من المواد عالية التفجير، فضلا على 30 صاروخ كروز توماهوك من غواصاتها فى المحيط الهندى، لم تخرج صورة واحدة لجحيم النار المتوقع.


كأنها أرادت الأثر لا الاستعراض، أو ضخّمت فى الأرقام تغليبا للمعنوى على الإيلام المادى المباشر، فيما يبدو أنه لم يكن هدفا فى حد ذاته، بل وسيلة لترويض مخبول تل أبيب أولا، واستدعاء الإيرانيين لطاولة التفاوض ثانيا؛ لهذا عقّب فى متن إعلانه عن العملية بالدعوة إلى السلام، قائلا إن وقته الآن، ما يعنى أنه لا يستعد للتثنية والتثليث، ويترك القرار للمرشد وجنرالاته المروّضين بالاغتيالات وخسائر الأيام الماضية.


ستحتاج طهران إلى مستوى استثنائى من ضبط النفس؛ كى لا ترد على الضربة، وقد مسّت كرامتهم قطعا مهما بدا إخراجها خافتا وغير استعراضى. والهامش لديها عريض، من استهداف الأصول الأمريكية الموزعة على نحو عشرين قاعدة ثابتة ووحدات بحرية ومرافق مدنية ودبلوماسية واقتصادية، أو الذهاب للمدى الأقصى بإغلاق مضيق هرمز كليا أو جزئيا؛ وتظل فكرة الانضباط واردة بالقياس إلى السوابق، مثلما كان عقب اغتيال جنرالها الأبرز والأهم قاسم سليمانى فى العراق قبل خمس سنوات، بالاكتفاء بهجمة صاروخية منسقة وزهيدة الأثر على محيط قاعدة عين الأسد.


هنا نحتاج لاستقراء الإشارات، وكانت بدايتها بتصريح واحد تواتر من مصادر عدة، يُفيد بإخلاء الأهداف الثلاثة استباقيا، وبأن العملية الأمريكية لم تتسبب فى أضرار شديدة الوطأة. صحيح أن التصعيد الخطابى تتابع بعدها منسوبا للحرس الثورى وبعض نواب البرلمان، ومنقولا بصياغات عمومية من خلال التليفزيون الرسمى، وكلها أجمعت على حق الرد وأنه سيكون ثقيلا، ولوحت بوضع المرافق الأمريكية كلها فى مرمى الاستهداف، وباحتمالية إغلاق المضيق أو الانسحاب من اتفاقية منع الانتشار النووى، بما يعنى تحرير المشروع من قيوده القانونية وإطلاقه دون سقف أو محاذير.


لكن عراقجى أعاد نبرة الانضباط مجددا فى حديثه من اسطنبول، أدان العدوان باللغة الدبلوماسية المعتادة، ودعا المنظومة الدولية للاضطلاع بأدوارها، وإلى ذلك بدا أكثر استدراكا على صقور الجمهورية بالقول إنهم ليسوا فى حاجة للعودة إلى طاولة التفاوض لأنهم لم يغادروها أصلا، وبأنه لا حوار تحت النار، قاصدا ما يتواصل من هجمات إسرائيل.


تلك الآلية لا تخرج عن سياق توزيع الأدوار، واستدعاؤها هنا أقرب إلى محاولة امتصاص الضربة واحتواء تداعياتها، وعدم الاندفاع وراء رغبة الثأر باتجاه التورط فى مزيد من الأزمات. ما يحمل إشارة ضمنية إلى الاكتفاء بالتصعيد اللفظى والدعائى، والتهوين من أثر العملية ليكون أقل مستوى من الرد عليها كافيا، ومتناسبا مع متطلبات الذود عن الكرامة، ومن دون حاجة لتطويق الذات بالتزامات لا يمكن الوفاء بها، وتخدم مخطط الاستدراج والتوريط بأكثر مما تُؤمن فرصة للنجاة واحتمالات التعافى.


دخل ترامب على الخطّ عندما أُتيح له أن يصرف رصيد الخطوة دون أعبائها، وبعدما ترك الخصمين يستنزفان بعضهما، ويتمنّيان فى سرّهما أن يُبادر أحد بإنقاذهما من نفسيهما. يُحتَمَل طبعًا أنه عجّل بالضربة فى بداية مُهلة الأسبوعين استدراكًا على تضعضع موقف إسرائيل، أو استغلالا لانكشاف الجمهورية الإسلامية؛ لكنه أخطرهما معًا برغبته فى الحسم، وشدد على الحاجة إليه وإن من زاويتين مُختلفتين: الصهاينة لا أمل لهم فى المواصلة من دونه، والملالى لا فرصة لديهم بحضوره؛ وعليهما أن يُبقياه فى نقطة الوسط تمامًا؛ لأن المَيل المُفرط لا تُؤمَن عواقبه.


يلتحف كعادته بسرديّة الرجل المجنون؛ بحيث لا يكون كتابًا مفتوحًا للصديق والعدو، ولا تُتَوقَّع الوجهة التى يُمكن أن يسير إليها. ترك الدولة العبرية تتلقّى صفعات إيران القاسية لعشرة أيام، وهَوى بيده الغليظة على رأس الأخيرة فى لحظة ضِيق، وبإمكانه أن يُكرر الموقفين أو يُطوّرهما بحسب الحاجة والمُقتضيات، وعلى الراغبين فى الوقاية منه أو الاستفادة بمزايا الاستظلال بظلاله الوارفة، أن يلتقطوا أقل إشارة عابرة، وأن يستجيبوا له دون إبطاء أو التفاف على الذات.


وفى الوقائع؛ فإيران لم تنكسر. تضرّرت؛ لكنها ما تزال واقفة على قدميها. وإسرائيل رغم خسائرها تمتلئ بشعور اقتناص الأمنية المُعلّقة منذ العام 2007 تقريبا. الجميع تحصّلوا على أنصبة مُتوازنة من الآلام والآمال، ويُمكنهم أن يُخلوا الحلبة انتظارًا لجولة حتمية فى المستقبل.


تعطّل المشروع النووى لعِدّة سنوات على الأقل؛ وبالإمكان العودة لاحقًا إذا بقى النظام نفسه. أما الأخير فيُفاضل بين إقدام مشمول بالإفناء، وإحجامٍ يتعلّق بأهداب الأمل؛ ولعله سيحسم اختياره لصالح الثانى، إن لم يكن قد حسمه بالفعل.


لم ينتهِ المشروع النووى قطعًا. إنه حصيلة ثلاثة عقود، بوفرة معرفية وإمكانات تقنية، مع وزن ثقيل وجغرافيا فسيحة. البرنامج ليس بضع مئات من كيلوات اليورانيوم المُخصّب؛ لكنه فكرة وإرادة قبل كل شىء. ضربة فوردو ونطنز ربما أضرت بأجهزة الطرد من الجيل السادس؛ لكن البدء من منتصف الطريق ليس كالانطلاق من نقطة الصفر.


كان فوردو نفسه موقعا سريًّا لعِدة سنوات، قبل أن تكتشفه إدارة أوباما فيعترف به رجال خامنئى. ومن المُتوقَّع أن تكون لدى الدولة الشاسعة بدائل أخرى فى خريطة تزيد على مليون و600 ألف كيلو متر، وستظل تلك الفكرة هاجسًا لدى الغرب والإسرائيليين، كما ستظل تجربة الطوفان وحلقاته المُتتابعة طوقا حديدًا خانقا فى عنق الثورة الإسلامية؛ بينما تدخل طَورًا جديدًا بعدما سُدَّت أبواب تصديرها للخارج، وصارت بين خيارين قاسيين: أن تثور على نفسها داخليا، أو تزدرد كأس الإصلاح ببطء يُشبّع نسيج حلقها بمرارتها الكاملة. انقلاب أو هيكلة؛ وما من سكّة ثالثة.


وعليه؛ ستضع الحرب أوزارها فى وجهها الخشن، وتبدأ فى الكواليس على أمل تقويض النظام وإسقاطه من الداخل، فيما يتعيّن على الإدارة أن تخوض حربها المُرجأة داخليًّا، وهى معركة إصلاح وإعادة هيكلة شاملة، وإخراج للبلد من ضيق الميليشيا إلى فسحة الدولة الطبيعية، وصرف النظر عن غرام الأذرع والدفاعات المُتقدّمة؛ لأن الطوفان أجهز بالفعل على بقايا زمن الوكالة وحروب الظل، وكل رصاصة من ميليشيا رديفة قد ترتد إلى الرأس ذاتها سريعا؛ وقد عُرِفَت الطريق إليها، وسقط جدار الردع الذى كان يحميها أو يفرض على خصومها التهيُّب تجاه خطر المواجهة المباشرة.


عرف الطرفان وصفة الإيلام فى عُمق العواصم، واتَّخذ الردع بينهما طابعًا جديدًا تمامًا. وبدلاً من توازن القوّة أو الرعب والضعف وغيرها من الصفات، صارت واشنطن رُمّانة الميزان بينهما، وحقيقة أنها ميّالة نسبيًّا لجانب الصهاينة تفرض على المُرشد أن يكون دقيقًا فى الحركة والانتقالات، وواقعية أنها تضع مصلحتها أوّلا وقبل الجميع تُلزم نتنياهو بأن يعود إلى رُشده بعد انقضاء الجولة، ولا يُغامر بتكرار التجربة أو استمراء حالة الاستئساد المتوحشة بلا تعقُّل أو اعتبارٍ للرؤية الأمريكية.


تعرف واشنطن أن إنهاء الحرب عند تلك النقطة يُسلِّم النظام للشارع، وتعرف طهران أن المواصلة تُضعفها بدرجةٍ أكبر ثمّ تُسلّمها للشارع أيضًا. ولا مجال لتفعيل الأذرع؛ لأنه سيبتُر ما تبقّى منها، ويُرسل الفاتورة إلى المركز، بعدما أُزيلت الستائر الرمادية التى كانت تفصل بين رأس الأخطبوط وأذرعه.
كان إخراج المشهد أهم من حقائقه وتفاصيل السيناريو لدى الطرفين، ولم يكن مُمكنا أن تُهزَم إيران أمام إسرائيل، ولا أن تُقرّ باستحقاقات المرحلة لو أُفرِط فى الحطّ من قدرها ولصق ظهرها بالجدار.


الضربة فتحت ثغرة لها، ولا معنى لمواصلة المُناطحة اللفظية مع ترامب؛ فلو كان كاذبًا فى استعراضه فلا داعى لاستفزازه، ولو كان صادقًا فلا فائدة من التصعيد.


المشروع النووى يتضادّ مع مصالحه، ويُزعج حلفاؤه الأثرياء فى المنطقة، وسيقوم على حراسة موكب تشييعه لمثواه الأخير، أو ضمان إدخاله فى الثلاجة حتى مُنتهى ولايته على الأقل.


إيران ستبتلع الضربة لأنه لا بديل عن ذلك؛ ولأن النظام أثمن من القنبلة، والدولة هشّة ومُخترقة حتى النخاع، وما تعيشه من انكشاف لا يسمح لها بالمراوغة أو المُغامرة. امتصاص غضبة الولايات المُتّحدة يُرشِّد الكُلفة، ويُغازل افتتان ترامب بذاته المُتضخّمة، والتصعيد المحسوب يُظهر البأس ويُعوِّض عن الكرامة المُهدرة.


وهنا؛ قد تلجأ الجمهورية الإسلامية إلى استصدار قرارات من السلطة التنفيذية أو التشريعية، تنطوى على إجراءات عالية السقف؛ إنما تظلّ العبرة بالتطبيق ومداه ومساحة المناورة فيه، وبالاعتماد من مجالسها العُليا؛ ثم أخيرًا الاحتكام لصاحب القرار الوحيد الذى تتضاءل السلطات والقرارات كُلها أمام ولايته الانفرادية المُطلقة، المرشد الأعلى السيد على خامنئى.


فوّتت إيران فرصا عدّة للإمساك بالسياسة، والقبض على اللحظة المُناسبة لتفعيل أدوات الدبلوماسية. وضعت الميدان فى المقدّمة؛ ثم بدّدت بقية الأوراق لصالحه. حتى مفاعيل انتخاب وتصعيد وجه إصلاحى مثل الرئيس بزشكيان فُرِّط فيها بسرعة وسهولة، وبدا أنها فُتِنَت بطوفان غزّة أضعاف ما فُتِن به السنوار، وتشّربت وهم «جبهة الإسناد والمشاغلة» كما لم يتشرّبه حسن نصر الله، وتستفيق اليوم متأخرة عشرين شهرا على الأقل.


على مدى عقدين أو يزيد، كان الاشتباك على التوازنات الجيوسياسية بين أجندتين اثنتين: الجمهورية الإسلامية بمشروعها المُمانع وطموحها لتصدير الثورة، والدويلة الصهيونية المُلفّقة بشراهتها المعروفة ومساعيها لابتلاع الإقليم.


والجولة الأخيرة إن كشفت شيئا بعينه؛ فإنه هشاشة الطرفين وكونهما نمرين من ورق، وهذا مما يُتيح لدول الاعتدال أن تتقدّم لتلعب أدوارًا حيوية أكبر؛ شريطة أن تخلُص النوايا وتتخلّص بعض عواصمها من شهوة التنازُع والاستباق على ريادة لا تؤازرها الجغرافيا أو التاريخ، ولا تغنى عن وجوبية التكامل والشراكة الحقيقية بين المراكز الفاعلة.


خرج ترامب من الحرب فعلا، ولم يدخلها كما يتصوّر البعض. ما يزال جاهزًا للأخذ والرد والتعقيب، ويترقّب مواعيد طهران ليُبرز أوراقه المناسبة. كانت الحرب مع إسرائيل ذات نكهة أمريكية؛ لكنها صارت تخص واشنطن بشكل مباشرة، وهذا ما قد يكفى لتحقيق الردع وترشيد الاندفاعة المُهدَّد بها. المنطقة ستتقلّب على الجمر لأيام عِدّة؛ لكنها لن تنفجر.


ليس رجمًا بالغيب ولا جزمًا بالمآلات؛ والأطراف كلها مخبولة وفى أشد حالاتها انفلاتا؛ لكنها الشواهد المتوفرة حتى الآن. سيتغيّر الشرق الأوسط كاملا؛ إنما على نار هادئة. صحيح أنها تظل نارًا؛ إنما ليس الكى كالحرق، ولا الصهر والسبك البطيئان كالانفجار وتضييع المعالم كلها دفعةً واحدة.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اجتماعات مكثفة وتحركات سرية.. الزمالك يجهز للإعلان عن خليفة الرمادي

حبس عاطل متهم بترويج الحشيش فى الوراق 4 أيام

مواصفة امتحان اللغة الأجنبية الأولى للثانوية العامة بالنظامين القديم والجديد

الإصابة تنهى مشوار سالم الدوسري مع الهلال في كأس العالم للأندية

إيران تشيع جثامين ضحايا الحرب مع إسرائيل بحضور عدد من القادة.. صور


تفاصيل سقوط تاجر الكيف قبل ترويجه كمية من الحشيش فى منطقة الوراق

محافظ الجيزة يعتمد غدًا تنسيق القبول بالثانوى العام والفنى

الزمالك يُنهي التعاقد مع المدرب الأجنبي الجديد..والإعلان الرسمي خلال 48 ساعة

الطقس اليوم.. ارتفاع بدرجات الحرارة والرطوبة والعظمى بالقاهرة 37 درجة

قرية أبرق.. جوهرة محمية جبل علبة وأهم قطاعاتها وكنز الجنوب التاريخي والطبيعي.. بها نقوش تدل على آثار الإنسان ما قبل التاريخ.. تحوي بقايا قلعة رومانية قديمة.. وينتشر بها العشب مطلع الربيع والشتاء كل عام.. صور


خطوات التظلم على نتيجة الفصل الدراسى الثانى لطلاب النقل والشهادة الإعدادية

مصرع 3 من أسرة واحدة فى انقلاب سيارة من أعلى كوبرى قويسنا بالمنوفية

حبس السائق المتسبب فى مصرع 19 شخصا بالمنوفية وإجراء تحليل مخدرات له

الصراعات المنسية فى أفريقيا.. تقرير دولى يحذر من تصعيد الصراعات بشكل أكبر جنوب الصحراء الكبرى.. زيادة الإنفاق العسكرى وتراجع فى بناء السلام خاصة فى منطقة الساحل.. والكونغو الديمقراطية رابع أقل دول العالم سلامًا

تنسيق الجامعات 2025.. القائمة الكاملة للجامعات التكنولوجية

عرايس الجنة.. كفر السنابسة تبكي بناتها بعد مصرع 19 في حادث المنوفية (فيديو)

حزب الجبهة يقدّم 100 ألف جنيه لأسرة كل متوفى و50 ألفا لكل مصاب بحادث المنوفية

تقارير: زيزو على رادار بشكتاش وفناربخشه فى تركيا

بعد مصرع 19 فى حادث المنوفية.. أدعية الاستعاذة من فواجع الأقدار

تقييد منح الجنسية الأمريكية بالولادة.. وترامب يشيد بقرار المحكمة العليا

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى