لماذا نحتاج إلى الثقافة؟ (4).. الصناعات التراثية واستثمار المستقبل

عندما نتجول في أسواقنا الشعبية ونشاهد الحرفيين وهم يبدعون بمهارات أجدادهم، ونرى المنتجات التراثية التي تحمل عبق التاريخ وجمال الأصالة، وقد يمر البعض مرور الكرام على هذه المشاهد، وهم يعتبرونها مجرد بقايا من الماضي تتلاشى في زحام الحداثة، لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير، حيث تكمن في هذه الصناعات الثقافية التراثية كنوز حقيقية، ليست فقط ذات قيمة ثقافية لا تقدر بثمن، بل إنها كذلك ذات أهمية اقتصادية متنامية يمكنها أن تكون مجالا للتنمية الاقتصادية إذا نحن أحسنا استثمارها.
إن مصر التي تعاقبت عليها الحضارات التي صنعت لها طبقات فريدة من هوية خاصة، تظهر في عدد كبير من الصناعات والحرف التراثية التي يقدر عددها بما يزيد على ثلاثمائة حرفة وصناعة، لا تحتاج منا إلا أن نستثمر هذا الثراء الهائل، فهذه الصناعات هي تجسيد حي لهذه الحضارات وذلك التراكم، وهي الحكايات التي ترويها خيوط النول، والألحان التي تنبعث من الآلات الموسيقية التقليدية، والزخارف التي تزين الأواني والفخار، إنها ليست مجرد منتجات، بل هي سفراء يحملون هوية أمتنا وتاريخها إلى العالم.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يمكن لهذه الصناعات أن تكون رافدا مهما للاقتصاد الوطني. فالحرف اليدوية، على سبيل المثال، تخلق فرص عمل حقيقية، خاصة في المناطق الريفية والمحافظات التي قد تعاني من نقص في فرص العمل الأخرى، ودعم الحرفيين وتدريبهم وتوفير المواد الخام اللازمة لهم، بالإضافة إلى مساعدتهم في تسويق منتجاتهم، يمكن أن يحول هذه الصناعات الصغيرة إلى مشروعات مستدامة تسهم في تحسين مستوى معيشة الأفراد والمجتمعات، كما أن تفرد هذه الصناعات سيجعلها إحدى روافد التصدير المهمة، وهو الأمر الذي يمكن أن يبدأ بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني ورجال الصناعة الذين يمكنهم الاهتمام بمثل هذا القطاع المربح.
لننظر إلى تجارب دول أخرى نجحت في تحويل تراثها الثقافي إلى قوة اقتصادية، حين استطاع الاهتمام بالصناعات التقليدية والحرف اليدوية أن يخلق علامات تجارية عالمية، ويجذب السياح وينقذ حرفا كانت على وشك الاندثار.
وهو ما يمكن لمصر، بتاريخها العريق وتنوعها الثقافي الفريد، أن تحقق نجاحات مماثلة لها بل أكبر إذا ما أولت هذا القطاع الاهتمام اللازم.
ولا يتوقف الأمر عند الجانب الاقتصادي، فالصناعات الثقافية التراثية تلعب دورا بالغ الأهمية في الحفاظ على هويتنا الثقافية ونقلها إلى الأجيال القادمة، إنها بمثابة ذاكرة حية تحمل قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، ونحن عندما ندعم هذه الصناعات، فإننا ندعم استمرار هذه القيم ونحميها من التلاشي في عصر العولمة.
إن فنون مثل صناعة السجاد اليدوي، أو فن التطريز، أو صناعة الآلات الموسيقية التقليدية، كل هذه الحرف ليست مجرد مهارات يدوية، بل هي تعبير عن ذوق فني رفيع وثقافة عميقة، عندما نهملها، فإننا نفقد جزءا مهما من هويتنا وذاكرتنا الجمعية.
المطلوب إذن هو نظرة استراتيجية شاملة تضع هذه الصناعات في بؤرة الاهتمام، وتقدم لها الدعم اللازم من خلال برامج تدريبية وتمويلية وتسويقية وأن ننظر إليها بوصفها قطاعات اقتصادية وثقافية حيوية تستحق كل الدعم الذي يناسب كل واحدة منها، وربما يكون من الأنسب طرح فكرة خاصة بخريطة عامة لتلك الحرف ضمن رؤية شاملة للثقافة المصرية وهو محور حديثنا القادم.
Trending Plus