هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟.. كتاب ما الحياة يوضح

معرفة ما يحدث في الكون يتطب منا قراءة الأفكار العلمية التي يقدمها العلماء والباحثون في الجامعات والمراكز البحثية، ومن هذه الكتب كتاب "ما الحياة؟: الجانب الفيزيائي للخلية الحية" لـ إرفين شرودنجر، والذي يطرح سؤالا مهما يقول:
هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟
ويجب الكتاب عن ذلك بتوضيح عدد من النقاط منها:
• توقَّع قوانين جديدة للكائن الحي
ما أرجو أن أجعله واضحًا في هذا الفصل الأخير هو باختصار أننا من خلال كل ما قد تعلمناه عن تركيب المادة الحية، يجب أن نكون مستعدِّين لأن نجده يعمل بأسلوب لا يمكن اختزاله في قوانين الفيزياء المعتادة، وليس هذا راجعًا إلى أن هناك أي "قوة جديدة" — أو أي شيء آخر — توجه سلوك الذرات المُنفرِدة داخل الكائن الحي، ولكن إلى أن البناء مختلف عن أي شيء اختبرناه في معامل الفيزياء حتى الآن. لنوضِّح الأمر، إليك المثال التالي: إن المهندس الذي يألف العمل مع المحركات الحرارية فقط بعد أن يطلع على تركيب المحرك الكهربي سوف يكون مستعدًّا لأن يجده يعمل وفق مبادئ لا يفهمها بعد. هنا سوف يجد النحاس الذي يألفه في الغلايات في صورة أسلاك طويلة وقد لُفَّت في ملفات؛ هنا الحديد الذي يألفه في الروافع والقضبان وأسطوانات البخار يملأ دواخل تلك الملفَّات النحاسية. سوف يكون مقتنعًا بأنهما النحاس والحديد نفسهما، وأنهما يتعرَّضان لقوانين الطبيعة نفسها، وهو محق في ذلك. الفارق في التركيب كافٍ كي يجعله يعتقد أنه يعمل بطريقة مختلفة تمامًا. وهو لن يشكَّ في أن شبحًا يقف وراء عمل المحرك الكهربي لأنه يدور بمجرد تحريك زر، بلا غلاية أو بخار.
• استعراض الوضع البيولوجي
إن الأحداث المتكشِّفة في دورة حياة الكائن الحي تُظهر تمتُّعها بنظام وانتظام مثيرَين للإعجاب، ليس لهما نظير فيما يتعلَّق بالمادة الجامدة. إننا نجده محكومًا بمجموعة من الذرات الفائقة التنظيم، التي تمثِّل جزءًا صغيرًا جدًّا فقط من إجمالي ما في كل خلية. إضافة إلى ذلك، ومن المنظور الذي كوَّناه عن آلية التطفر، نستنتج أن أي خلل يحدث في عدد ضئيل من الذرات الموجودة ضمن مجموعة «الذرات الحاكمة» في الخلية الجرثومية يكفي لإحداث تغيير واضح المعالم في الخواصِّ الوراثية الواسعة النطاق للكائن الحي.
هذه الحقائق هي الأكثر إثارة فيما كشفه العلم في أيامنا هذه. ومن الممكن أن نكون ميالين لأن نجدها — رغم كل شيء — غير مقبولة بالكلية. فيبدو أن العطية المذهلة الممنوحة للكائن الحي والمتمثِّلة في قدرته على تركيز «تيار من النظام» على نفسه مما يُمكنه من تجنُّب التحلل والدخول في فوضى ذرية — أو بتعبير آخر، قدرته على «شرب النظام» من البيئة المناسبة — مُرتبطة بوجود «الجوامد غير المنتظمة»؛ أي الجزيئات الكروموسومية، التي بلا شك تمثِّل أعلى درجات التجمُّع الذري جودة التي نعرفها في التنظيم — فهي أعلى بكثير من تلك التي للبلورة المُنتظِمة العادية — بفضل الدور الفردي الذي تلعبه كل ذرة وكل مجموعة مرتبطة من الذرات هنا.
باختصار، نحن شاهدون على حدَث النظام القائم فيه لديه القدرة على الحفاظ على نفسه وإنتاج أحداث منظَّمة. وهذا يبدو معقولًا على نحوٍ كافٍ، على الرغم من أننا في إدراكنا لمعقوليته نستند بلا شك إلى خبرة خاصة بالتنظيم الاجتماعي، وأحداث أخرى تتضمَّن نشاط الكائنات الحية. وهكذا، قد يبدو أن هناك شيئًا يشبه الدائرة المفرغة متضمَّنًا في الأمر.
• تلخيص الوضع الفيزيائي
أيًّا كان هذا الوضع، فالنقطة التي أودُّ أن أؤكد عليها أكثر من مرة هي أن الحالة الراهنة بالنسبة للفيزيائي ليست فقط غير مفهومة لكن أيضًا مثيرة للغاية؛ لأنها غير مسبوقة. فعلى عكس الاعتقاد السائد، فالمَسار المُنتظِم للأحداث المحكوم بقوانين الفيزياء ليس أبدًا نتاج تكوين واحد جيد التنظيم من الذرات؛ إذ لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان ذلك التكوين من الذرات يُعيد نفسه عددًا هائلًا من المرات، كما هي الحال في البلورة المنتظمة أو كما هي الحال في السائل أو الغاز المكون من عدد هائل من الجزيئات المتماثلة.
حتى عندما يتعامل الكيميائي مع جزيء شديد التعقيد في المختبَر، فإنه دائمًا يُواجَه بعدد هائل من الجزيئات المتشابهة التي تنطبق قوانينه عليها. من الممكن أن يُخبرك، على سبيل المثال، أن نصف هذه الجزيئات قد تفاعلت بعد دقيقة من بدء تفاعلٍ ما معيَّن، وأن ثلاثة أرباعها قد تفاعلت بعد مضي دقيقة أخرى. لكنه لن يستطيع أن يتنبأ ما إذا كان أي جزيء محدد — بفرض استطاعتك تتبع مساره — سيكون ضمن الجزيئات التي ستتفاعل أم تلك التي لن تتفاعل أبدًا. فهذا الأمر تحكمه الصدفة الخالصة.
هذا ليس بتخمين نظري خالص. وهو لا يعني أننا لا نستطيع أبدًا أن نرصد مصير مجموعة صغيرة منفردة من الذرات أو حتى ذرة واحدة، فنحن نستطيع ذلك أحيانًا. لكن كلما فعلنا وجدنا عدم انتظام كامل، يتعاون كي ينتج انتظامًا، فقط في المتوسط. تعاملنا مع مثال على ذلك في الفصل الأول. إن الحركة البراونية لجُسَيم صغير عالق في سائل تكون غير منتظمة تمامًا. لكن لو أن هناك عددًا كبيرًا من الجسيمات المتماثلة، فإنها من خلال حركتهما غير المنتظمة ينبثق عنها ظاهرة الانتشار المعتادة.
يُمكن ملاحظة انحلال ذرة مشعَّة مُنفردة (إذ تبعث مقذوفًا يُسبِّب وميضًا مرئيًّا على شاشة فلورية). لكن إذا ما أُعطيت ذرة مشعة، فإن عمرها المحتمل سيكون أقل تأكيدًا بكثير من ذلك الذي لعصفور دوري صغير بصحَّة جيدة. في حقيقة الأمر، لا شيء يمكن أن يُقال عن ذلك أكثر من هذا: ما دام عمرها ممتدًّا (وذلك من الممكن أن يكون لآلاف الأعوام)، ففرصة انفجارها خلال الثانية القادمة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تبقى هي نفسها. لكن هذا الغياب الواضح للتحديد الفردي ينتج عنه القانون الأُسي المُنضبِط لتحلل عدد ضخم من الذرات المشعَّة التي من النوع نفسه.
• التباين الشاسع
في علم الأحياء، يواجهنا وضعٌ مُغاير تمامًا؛ إذ تُنتِج مجموعة مفردة من الذرات موجودة في نسخة واحدة فقط أحداثًا منظمة، تنضبط على نحو رائع مع بعضها ومع البيئة طبقًا لقوانين غاية في الإتقان. لقد قلتُ الموجودة في نسخة واحدة فقط؛ إذ إننا في النهاية لدينا مثال البيضة والكائن الوحيد الخلية. في المَراحل التالية للكائن الأعلى، تتضاعَف النسخ. هذا صحيح، ولكن لأي مدًى؟ ما يقارب ١٠١٤ في أيٍّ من الثدييات البالغة. أنا أُدرك ذلك. لكن كم يُساوي هذا؟ فقط واحد على مليون من عدد الجزيئات في البوصة المكعَّبة الواحدة من الهواء. وبالرغم من أن عدد تلك النسخ ضخم نسبيًّا، فإنها بالْتحامهما معًا لن تكون إلا مجرَّد قطرة صغيرة جدًّا من سائل. انظر إلى الطريقة التي ستتوزَّع بها فعليًّا. إن كل خلية تأوي واحدة منها فقط (أو اثنتان، إن أخذت في اعتبارك الخلايا الثنائية الصيغة الكروموسومية). وحيث إننا نعرف السلطة التي لهذا المكتب المركزي الصغير جدًّا على الخلية، أفلا تُشبه تلك النسخ مراكز الحكم المحلي المُتناثرة في كل أنحاء الجسم، والتي تكون على اتصال مع بعضها في سهولة عظيمة، بفضل الشفرة المُشتركة بينها جميعًا؟
رائع، هذا توصيف بديع، يُناسب شاعرًا أكثر منه عالمًا. على أيِّ حال، الأمر لا يحتاج إلى خيالٍ شعري، لكن فقط إلى تأمُّل علمي واضح ورزين؛ لنُدرك أننا هنا في مواجهة واضحة مع أحداث تتجلى على نحو منظَّم ومنضبط، وتوجهها في ذلك «آلية» مختلفة تمامًا عن «آلية الاحتمالات» الخاصة بالفيزياء. الأمر كله يَكمن ببساطة في ملاحظة أن المبدأ الموجِّه في كل خلية يتمثَّل في تجمُّع ذري مفرد يوجد فقط في نسخة واحدة (أو اثنتين أحيانًا)، وأنه من الممكن أن يُنتِج أحداثًا تُعدُّ نموذجًا مثاليًّا للتنظيم. وسواء كنا نرى قدرة مجموعة صغيرة لكن عالية التنظيم من الذرات على التصرُّف وَفق ذلك الأسلوب أمرًا مُدهِشًا أو معقولًا إلى حدٍّ كبير، فإن هذا الوضع غير مسبوق، وهو غير معروف في أي مكان آخَر بخلاف المادة الحية. فالفيزيائي والكيميائي الباحثان في شأن المواد غير الحية لم يَشهدا أبدًا ظواهر عليهما تفسيرها بهذه الطريقة. إن تلك الحالة لم تظهر؛ ومن ثم فنظريتنا لم تغطِّها؛ نظريتنا الإحصائية الجميلة، التي كنا معتزين جدًّا بها لأنها سمحت لنا بالكشف عن الخبايا، لنرى النظام الرائع للقوانين الفيزيائية المُنضبطة، المنبعث من الفوضى الذرية والجزيئية، ولأنها كشفت عن أن قانون الإنتروبيا الأهم والأعم والأشمل يمكن أن يُفهم دون افتراضٍ خاص؛ فهو ليس سوى الفوضى الجزيئية نفسها.
Trending Plus