الدولة والعمامة وقُبّة المفاعل.. ضغوط إيران وخياراتها بين ضرورة الرد وإلزامية العقل

ليس أسوأ من تبعات الردِّ الإيرانى المُحتَمَل على الهجمة الأمريكية، إلَّا عدم الرد. مُخيّرةٌ بين أمرين أخطر من بعضهما: أن تزُجّ بها العاطفة المُتأجِّجة نحو اللعب بالنار والاكتواء بها مُجدَّدًا، أو يقودها التعقُّل المُفرط إلى ابتلاع الطبخة الفاسدة بصمتٍ، لا يقلُّ إهانةً عن الضربة نفسها.
والولايات المُتَّحدة قبل غيرها تعرف أن الجمهورية الإسلامية غير راغبةٍ فى التصعيد، كما أنها ليست فى وارد التبريد من نقطة الضعف والارتداع، وفى الأجواء المُتقلِّبة تعلو المخاطر قطعًا، وتزدهر فُرَص التوصُّل إلى تسوياتٍ مُتوازِنة أيضًا.
تلقَّت طهران الرسالةَ فى جبال قُم، على بعد كيلو متراتٍ معدودة من معاقل الملالى وعتباتهم المُقدَّسة، وفضَّت مظاريفها فى سماء تل أبيب وأشدود.
اختارت أن تُوقِّع بالحضور على عجَلٍ فى ساحةٍ آمنة نسبيًّا، يبدو الذهاب المُتكرِّر إليها طبيعيًّا فى سياق الحرب الدائرة وخُصومتها الأصليَّة، بجانب أنها تنطوى على إشاراتٍ بالجاهزية والاستعداد، وشراء الوقت لالتقاط الأنفاس وتحضير الخطوة التالية.
وأغلبُ الظنِّ أنها لن تكتفى بذلك، إنما تُلطِّفُ به جرحَ الكرامة، وتحتال على انتشاء واشنطن بنجاحها السريع، رغبةً فى استكشاف الهامش المُتاح والمقبول من جانب الإمبراطورية الكاسرة للتعبير عن غضب المُنكَسِر.
قولا واحدًا، سترُدّ إيران على دعوة ترامب للرقص. وبالثقة ذاتها يُمكن الجزم بأنها لن تتخطَّى الحدود الآمنة، ولن تُغامر مُطلقًا بالسير إلى المجهول.
والرسائل المُتبادَلَة على سخونتها، وبكلِّ ما فيها من تهديد أو تحذير، إنما تُغطِّى على مُداولاتٍ مُتواصلة فى الكواليس، بالأصالة ربَّما وبالوكالة غالبًا، لترسيم الخرائط النهائية للعمليات العسكرية ومداها الأقصى، سواء أفضى ذلك لاحقًا للجلوس إلى طاولةٍ واحدة، أو ترك الأوضاع على حال التجميد لفترةٍ، تصفو فيها النفوس وتبرد حرائقُ الوعى والذاكرة العشوائية النَّشِطَة.
ولنَعُد قليلاً إلى الوراء. كان التدخُّل الأمريكىُّ واضحًا وشِبه محتوم، ورآى الجميع نُذُرَه من مسافة شهرين أو يزيد. ولعلَّ ما أثمرت عنه جولات التفاوض المُتتابِعَة، أنها كشفت التناقُضات للطرفين، وأفصحت عمَّا يُقبَلُ ولا يُقبَل لدى كلٍّ منهما.
وبهذا، عرفت طهران أنه لا سبيلَ للعودة إلى اتفاق 2015، أو حتى لنسخةٍ مُحدَّثةٍ منه ضمن ذات الفلسفة والاشتراطات، لكنها لم تكُن جاهزةً ولا قادرةً على الإقرار بالحقائق الواضحة، واحتمال تكاليفها الباهظة على البيئة الداخلية، واستقامة الوقائع مع سرديَّة النظام ودعاياته.
استحكمت العُقدةُ ظاهرًا، رغم عدم الخلاف تقريبًا على الجوهر، وكان لِزامًا هُنا البحث عن حَلٍّ من خارج الكواليس المُظلِمَة وأُطرها التقليديّة.
تجرَّعت إيرانُ الخُمينيَّة كؤوسَ السُّمّ مُبكّرًا، وكانت الثورة لم تزل فتيّةً وجمهرها مُتوقِّدًا بالشرعية والاستحقاق ومشاعر الإنجاز والاقتدار. كما عرفت فترات الكمون الاضطرارية أو الإجبارية، وتحرّكت طوال الوقت فى ضوء التوازنات الإقليمية والدولية ومسموحات القوى الكبرى وصراعاتها.
وإذ سُمِحَ لها بالوصول إلى الشام، واللعب فى جنوب لبنان، فلأنها كانت تضطلع بمهمَّةٍ ذات أولويَّةٍ وقتَها على صعيد إضعاف العراق، وتقويض طموحات صدَّام حسين الصاخبة.
وتحت طائلة الهشاشة الداخلية أو الارتجال الخارجى، تسرّبت ببطءٍ ونُعومة من فراغات النسيج وثقوبه. سُمِحَ لها بملء الفراغ فى بلاد الرافدين، ثمَّ بوراثة الوصاية السورية على بيروت، بتعاقُدٍ ضِمنىٍّ كالذى أوقعَها سابقًا فى قبضة الأسد.
وسواء كانت بصيرةً أو مُعمّاة، فالواقع أنها تمدَّدت بانحسار الآخرين، وتَقوّت بضعفهم، وتدرَّجت صعودًا وانتشارًا لأن الجُدُرَ كانت تتهاوى، أو يزهد اللاعبون الكبار فى الأدوار، فيتركونها لها على سبيل التحلُّل من الالتزامات، أو ضرب المنطقة فى خلَّاط الصراعات الإثنية والمذهبية.
والقَصد، أنها على الأرجح استبصَرَت الضوءَ الأحمر من جهة الإدارة الأمريكية، ووَعَت أنَّ الأخيرة ماضيةٌ فى مُجاراة جنون الاحتلال بعد طوفان السنوار.
طبيعتُها العقائديَّةُ تأنَفُ الديناميكية إنْ اشتمَلَت على التقَهقُر، وتتصلّب كجبال فارس على أمل أن تتنحّى الرياحُ من تلقاء نفسها. ما يعنى أنها لم تكُن تسير فى ضلالةٍ كاملة، بل فى مَعيّة العَشَم والرهان على التحوُّلات الطارئة.
وعند نقطةٍ ما، تأكَّدت بالضرورة من انسداد المسالك، وتعقُّد سُبل الالتفاف والمناورة، ومن شديد الحاجة إلى وصفةٍ مُغايرة وغير ضاغطة على الأعصاب الإيمانية، لإنجاز عملية الانسحاب وإعادة التمَوضع فى انتظار الفالق الزمنىِّ والجُغرافىِّ الجديد.
باختصارٍ، سلَّمَت غالبًا باستنفاد إمكانات العبور بأذرعها ومشروعها النووىِّ. وإذا كانت إسرائيل تكفَّلت بالساحات والميليشيات الرديفة، فليس أثقلَ على النَّفْس من مُطالبتها بالاستسلام غير المشروط، وأخطر ما فيه المُبادرة الرضائيّة إلى التعرّى من حلم القوَّة الفائقة، والاضطلاع بمهمَّة تفكيك مُفاعلاتها ومُنشآت تخصيبها بيديها.
ومن هُنا، طرأت الحاجةُ إلى قبضةٍ خَفيَّةٍ تُصفّى التركة بأقلِّ الأضرار، لكنَّ المُعضلة أنَّ الصهاينة أضعفُ من هذا كثيرًا، والضربة منهم لو امتلكوا مُوجباتها ستفرض عليها الردَّ، ولا يصلُح معها التبرير بفوارق القوَّة وعدم الاستطاعة، فكان الحلُّ الأمريكى فاصلةَ المقال، ومُقدِّمة الاشتغال على إرساء المُعادلة المقبولة نفسيًّا وعَمليًّا من الجانبين.
فكأنَّ الجمهورية الإسلامية خُيّرَت بين الإهانة والتفريط، فاختارت أهونَ الضررين. الولاياتُ المُتَّحدة غاشمةٌ وذاتُ سطوة، ولن تُعَيَّر بها البلادُ والأنظمة، لأنها تستأسِدُ على الجميع تقريبًا، وتفرضُ قانونَها الظالمَ على المنظومة الدولية وأعضائها دون استثناء.
أمَّا التوقيع على الانسحاب من الحُلم الفائق فسيكون أكثر سُميّةً من كأس الخمينى فى حقبة الثمانينيَّات، ويُقارب الاعتراف بانكسار الثورة، وانقضاء زمنها اختياريًّا، أو بارتضاءٍ سهل من وَليّها المقدس. وإذ يقعُ الاتفاق على الجوهر، فلا قيمةَ مُطلَقًا للاختلاف والجَدَل فى الهوامش والتفاصيل.
ليست مسرحيَّةً على الإطلاق، بمعنى أنَّ الخصمين لم يتجالَسَا على طاولة الكتابة وبروفات الأداء، ولم يُوزّعا الأدوار وفقَ سيناريو مُغلَقٍ ومحبوك.
ترامب لن يقبل هذا لانطوائه على قدرٍ من الاعتراف بفاعليَّة النظام الإيرانى ومَهابته، والأخيرُ يستنكِفُ أن يكون مُسَيَّرًا ليس له من الأمر شىء، حتى لو كانت حصَّته من التخيير أن يصِلَ إلى الوجهة نفسها، وبالكيفية المقصودة من الشيطان الأكبر.
ويُمكن أن نتخيَّل المشهد على تلك الصورة: طهران تقولُ إنه أهونُ عليها أن تُقصَف من أن تُسَلِّم، وواشنطن تُخطِرُ الوسطاء بأنها جاهزةٌ لتحقيق الأُمنية، مع إرخاء ستار الوقت عن مُهلةٍ تسمحُ بنَقل الأُصول الثمينة، وترشيد كُلفة الخسائر المُتوقَّعة.
ولأجل هذا تخرجُ قاذفات B-2 الثقيلة من قاعدتها الوحيدة فى ولاية ميسورى رأسًا، مُذخّرةً بحُمولتها الكاملة من قنابل GBU-57 المُرعبة، ومن دون خزَّاناتٍ إضافيَّة بالطبع، ما يُتيحُ نحو 40 ساعة من حصيلة بُطء الطيران وعمليَّات التزوُّد بالوقود.
وذلك مع تغطية العملية بسَيلٍ من صواريخ توماهوك المُنطلِقَة من غوَّاصات فى قاع المحيط، بدلاً عن قرابة 20 قاعدةً مُوزَّعة على أرجاء المنطقة، ومُجهَّزة بعُدّة الحرب الكاملة، وفيها ما يزيدُ على 40 ألف جُندىٍّ ومئات الطائرات وعشرات القِطَع البحرية.
قُصِدَ من إخراج العملية على تلك الصورة، أن تتَّسع فُسحة إيران لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وأن تُسلَب منها ذريعةُ الرَدِّ على مصادر النيران الإقليمية، بما يُسَهّل تطوير النزاع وتَوسعة مَداه، وشَبْك دُوَل الخليج العربية فى مُعادلة الثأر أو الدفاع عن النفس.
وبهذا، تخلَّصت طهران عَمليًّا من عبء الاضطرار إلى تقديم تنازُلاتٍ ظاهرة، ومن مُعاينة أهداف واضحة تتطلَّبُ الرَدَّ المُعجَّل عليها. امتلكَتْ هامشًا مُريحًا للحديث عن إخلاء مواقعها وعدم التضرُّر من الهجوم، وأوسع منه للبحث عن قنواتٍ تُوجّه فيها طاقةَ الغضب العالية، من دون أن تكون مُتَّهمةً بالرخاوة أو التفريط. بينما جنّبت الولايات المُتَّحدة حُلفاءها مغبَّة الجنون المُحتَمَل، ورفعت تكاليف التصويب على الخليج سياسيًّا وأخلاقيًّا، فضلاً على القانون الدولى.
وحيرةُ الجمهورية الإسلامية اليومَ مُركَّبة غاية التركيب، لأنه ليس مَنطقيًّا أن تُفسِدَ مسارَ المُصالحة وتطبيع العلاقات مع الجوار بانفعالٍ ساذج، ولا أن تُؤَلِّبَ عليها العالمَ كاملاً، والحُلفاء فى مُقدّمته، باتِّخاذ خطوة استعراضيَّةٍ وانتحاريّة مثل إغلاق مضيق هرمز، ناهيك عن أنَّ صادراتها النفطية المسموح بها تمُرّ من الطريق نفسها، وليست لديها رفاهية التضحية بعوائدها الزهيدة، فى سياقِ ما يقعُ عليها من ضغطٍ وعُقوباتٍ اقتصاديّة قاسية.
صحيحٌ أنها لوَّحَتْ بالخطوة، واستصدَرَت ما يُشبه القرار من البرلمان بإغلاق المَمرِّ الملاحىِّ، إلَّا أنه لم يُطرَح على صورةٍ مُتماسكة قانونيًّا، ولا تحدَّثت به مصادر رسميّة مُعتَبَرة، ويظلُّ فى حاجةٍ للتمرير أوَّلاً من قناة مجلس الأمن القومى، ثمَّ الأهمّ مُوافقة المُرشِد الأعلى، صاحب سُلطة الأمر والنهى العُليا والأخيرة فى كلِّ ما يخصُّ شُؤون البلاد.
وبافتراض إمكانيّة أن يضغط جناحُ الصقور فى تلك المسألة، فلن يتخطَّى الأمر حدود التحرش ببعض القطع عبر دوريات بحرية، أو ربما الاستعراض بتلغيم جزء من المجرى دون التسبب فى إغلاقه كاملا. والحال، أن إيران ربما تكون فى حاجة لوضع طبقها الساخن على مائدة العالم، لكنها آخر طرف يُحب أن تُستثار الدول من جهة مصالحها الحيوية، أو يقع الخصوم على مادة يُغذّون بها سردية النظام الخطر والمثير للقلاقل.
والمنطق ذاته ينطبق على التلويح بالانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووى، لأنَّ الخطوة لم تَعُد مُفيدةً بعدما تضرَّر برنامجُها بعُمقٍ فِعليًّا، كما أنها تُثَبِّت ما كان يُسَاقُ بحَقِّها عن نوايا المشروع وعدم سِلميَّته. ويختمُ على أوراقها بخاتم الدولة المارقة.
والغربُ لديه تجربةٌ لم تَبرُد بعد مع كوريا الشمالية، وليس فى وارد السماح بتكرارها، حتى مع تيَقُّنِه من هشاشة الركائز الصُّلبة لدى الجمهورية الإسلامية، وحاجتها إلى عِدّة سنوات على الأقلّ، لتعويض فواقدِها من أجهزة الطَّرد المركزىِّ وقُدرات التخصيب والتحويل.
وأقصى ما يتوافَرُ لديها اليومَ، أن تذهب باتّجاه تعليق التعامُل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. صحيحٌ أنَّ مسارًا كهذا يبدو أقل وطأةً من الانسحاب، لكنه على الدرجة نفسها من انعدام الفائدة، ويستَتبعُ التزاماتٍ ضروريَّةً فيما يخصُّ الانضواء تحت بروتوكول العمل المُعتَمَد بمُوجَب الاتفاقية، وبدء جولةٍ سريعة من الحوار لا التفاوض، لضبط العلاقة وترميم الشقوق والاختلافات، ثمَّ تعود إلى مُراعاة القيود الواقعة على عاتقها اضطرارًا، أو تصير كُلفةُ الإدانة مُضاعَفةً نظير التجاوز على بنود المُعاهدة التى ما تزال عضوًا فيها، ومُلزَمَة بنصوصها بالحرف والفاصلة.
بهذا، يُمكن الجَزم بحتميَّة الرَدِّ من دون افتراضاتٍ حمائميّة كاملة، مع تأكيد محدوديَّة مجاله وتضاؤل حظوظ تَناسُبِه مع حجم الصفعة. سيُستَعاض عن الولايات المُتَّحدة بإسرائيل، لتُوَجّه إليها الكُتلةَ الأكبر من الحنق والحماوة، وقد تُستَعاد تجربة القصاص لقاسم سليمانى قبل خمس سنوات، بتنسيقٍ مُسبَقٍ أو من دون تنسيق، إنما لن يتجاوز الأمرُ على الأرجح نطاقَ القواعد الأمريكية فى العراق وسوريا.
أُخطِرَت إيرانُ بالهجوم من طَرفٍ خَفىٍّ، لأنَّ ترامب لا يُريدُ امتداد الحرب واتّساع أوارها، وينشغل بالمضمون عن الشكل، وبأثر الرسالة عن الإفراط فى صَخَبها. وستَبتلِعُها طهران عند أقلِّ منسوبٍ مُمكنٍ للردِّ، لأنها أضعفُ من مُواصلة الجولة دون أُفقٍ حربىٍّ ولا سياسى، كما لن تضعَ النظام تحت ضرس الإدارة الأمريكية.
ومن تلك الحقيقة، قُلتُ فى مقالى أمس، الأحد، إنَّ الجولةَ تُوشِك أن تنتهى، وليست على أعتاب التجدُّد أو الانفلات.
فى حال سُليمانى، احتاجت إيرانُ لنحو خمسة أيَّامٍ لتُعقِّب على إسقاط جوهرة تاج الحرس الثورىِّ ومشروع الإمبراطورية السارحة فى الإقليم. وقتَها لم تكُن لديها جبهاتٌ أُخرى نَشِطَة لتُصرِّف فوائض طاقتها فيها، كما يحدُث الآن مع إسرائيل.
وإذ تعُدّ استمرارَ قصف العدوّ الصهيونى من جُملة الردود، فإنَّ المُهلَة قد تطول قليلاً، ولا يُمكن الاطمئنان إلى طبيعة المرحلة ومُنتهى حدودها، قبل انقضاء عشرة أيَّام على الأقل، ابتداءً من ساعة الصفر لهجمة «مطرقة منتصف الليل» على فوردو ونظنز وأصفهان.
صارت الحقائقُ واضحةً تمامًا، وما غُمِّى على المُرشِد ورجاله أفصحَ عن نفسِه وجاهرَ بكلِّ حُمولاته. فرض نتنياهو رُؤيته منذ السابع من أكتوبر، واستطاع بالابتزاز أو ادّعاء المظلمة أنْ يَجُرّ البيت الأبيض إلى ميدانه فى الإدارتين السابقة والحالية.
وعليه، خطَّ منذ البداية طريقَه إلى طهران من جهة غزّة، وكان يضربُ فى الأطراف وعينُه على المركز. وفيما جاراه بايدن حينًا وعانده أحيانًا، فقد ورث ترامب سياقًا مُعقّدًا ويتخطّى قُدراته السياسية، وبقَدر ما يتناقَضُ مع أهدافه العُليا، يتواشَجُ من زاوية خفيّة مع نزعته العدوانيّة، ولعلّه لا يجدُ غضاضة فى الاحتكام إلى الأدوات الخَشِنَة، انطلاقا من أنها تُحقِّق مصالحه الاستراتيجية، ولو من طريقٍ أبعد وبتكاليف أعلى.
كانت الدعوة للمُفاوضات سنّارةً مُلقاة فى مياه خامنئى، إمَّا للاستدراج إلى تسويةٍ هادئة، أو التوريط فى مُناطحة محسومة سَلفًا، مع ضمان انتفاء الحجج والذرائع لدى طهران، وأمام جمهور «ماجا» ودُعاة أمريكا أوّلاً.
ويُمكن استنباط أنَّ مُهلة الشهرين أتَتْ مشمولةً مُسبَقًا باتفاق مع زعيم الليكود على إطلاق اليد الباطشة بعدها، أو أُدخِلَت الفكرةُ عليها لاحقًا، لكنَّ الوقائع تُشيرُ إلى ما يُشبه التعهّد أو القبول بضغط الزناد فى اليوم الحادى والستين.
كانت الصفقةُ أن تتكفَّل إسرائيل بالمهمّة كاملةً، وتحلّ الولايات المتحدة فى الفاصل الأخير، لتجنى منافع الجولة وتضمن إنهاءها بالكيفية التى تُحبّ.
الخزانة الأمريكية هُنا لعِبَت دور الضامن والرصيد الاستراتيجى، وفيما تُؤكِّد تلُّ أبيب قُدرتَها على مُناطحة بلدٍ كبير والتغلّب عليه بإمكاناتها الذاتية، تحضرُ واشنطن فى مشهد الختام لإثبات أنَّ حليفتها لا تقف بمفُردها، وتأكيد المُؤكَّد عن كَونها القوّةَ الأكثر فاعليَّةً وحسمًا، وصاحبة القول الفصل دائمًا وأبدًا.
استُعِيْرَت تقنيّةُ الرأس والأذرع من إيران، ووُظِّفَت ضدّها. اضطلعت الدولةُ العِبريَّة بمهمّة الطُّعم أو شبكة الصَّيد، كما كان من حماس أو حزب الله غيرَ مَرّة، وحلّت الولايات المتحدة فى الخلفية طوالَ الوقت، وعلى رأس الميدان عندما تقتضى الظروف.
إنه محورٌ إزاءَ محور، غير أنَّ أوَّلَهما يبدو هشًّا وقلبه يخون الأطراف، فيما الثانى يزدادُ صلابةً، ويُثَبِّتُ حقيقةَ أنه لا بديل عن مُحالَفته أو الحياد، ولا مفازةَ فى مُناطحته أو الوقوف معه على طَرَفَى نقيض.
دخل ترامب على الخطّ لجَنى الأرباح، وإضاءة المصابيح الحمراء على سقف المخرج الوحيد المسموح بالإفلات من خلاله. تُستَوْفَى التكاليف من رأس المُمانَعة بأثرٍ رجعىٍّ، وعن كلِّ الساحات التى رُبِطَتْ ببعضِها كلامًا، وتفكّكت سلوكًا ومُمارسة.
والحقُّ، أنها مُساءلةٌ عن الطوفان، ومعركة الإسناد والمشاغلة، وما قبلهما من حروب غزّة ونزاعات جنوب لبنان وتشغيب الميليشيات الرديفة فى سوريا والعراق واليمن. ليس البرنامج النووى على وجه التحديد، إنما مشروع الإمبراطورية المذهبيَّة أوّلاً وأخيرًا.
يُعزِّز الخلاصةَ السابقة، ما بثّه ترامب عبر حسابه على «تروث سوشيال». نام الرجلُ مُنتشيًا بالضربة، ثمّ استفاق بعد ظهيرة الأحد ليُذكّر الناس بأنَّ إيران قتلت جنودًا أمريكيين، واقتحمت سفارة الولايات المتحدة فى طهران.
وليس الاستدعاء على سبيل رياضة الذاكرة أو درس التاريخ، أىْ ليس مجّانيًّا، إنما ينطوى فى ثناياه على التلويح بالتناقُض الأصيل مع الجمهورية الإسلامية، وبأنَّ ما يُمَدّ لها من خياراتٍ راهنة تضمَنُ بقاء النظام لأمدٍ ما، قد لا يكون مُتاحًا، ولا حتى خيارًا نهائيًّا تُسلِّم به واشنطن على المدى البعيد.
العداوةُ بِنيويَّةٌ، والاصطبار عليها لخمسة عقودٍ لا يعنى نسيانها. يُمكِنُ التعايُش لفتراتٍ مَثيلة، وربما أطول أو أقصر، إنما سيقع الصدام حتمًا فى مُقبل الأيام والسنوات.
وعليه، فكأنّه يستعرضُ عضلاته من مَوقفِ قوّة، ويُجاهر بأنه لم يشطُب الخيارَ الأسوأ من لائحته، وعلى الطرف الآخر أن يُوازِنُ الأمور، وينتقى ما يُناسِبُ ظروفه وقدراته الراهنة. كأنه يُلقِى كُرةَ النار فى حِجْر المٌرشِد، مُتطلّعًا إلى انتزاع التسليم منه على ملأٍ من الناس فى ميدان القتال، بعدما تعالَى على مَنحِه إيَّاه فى الغُرَف المُغلقة.
والرقصة الفارسيَّةُ اليومَ على خيطٍ رفيع، بين ثأر الجريح وانفلات المارق. سبقَ أنْ راهَن نتنياهو على عقائدية النظام، وربح الرهان بتمادِى المُمانِعين فى صدامٍ غير مُتكافئ، وبتفويتِ فُرصَة التوصّل لتسويةٍ تفاوضيَّةٍ ستكون أقلَّ كُلفةً من الحرب فى كلِّ الأحوال.
وقعَ الخَلَلُ عندما تجاهل مسؤولو ملفّ فلسطين فى الحرس الثورىِّ نداءَ السنوار، وأوعزوا لحسن نصر الله باقتحام النار دون سترةٍ واقيةٍ أو قُدرة على الإطفاء. وكان يتعيّن عليها أن تحتوى الحلفاء، أو ترفع الكُلفةَ مُبكّرًا لاستحصال صفقة مُعجّلة فيما يكون المحور فى عنفوانه. ورّطَتْ أذرعها، وما استغلَّت الفُرصةَ ولا رأت المِحنَة، وترَاخَتْ حتّى أتاها النداء بالاسم والصِّفَة من تل أبيب إلى طهران.
الآن، تُسَرِّب الصحافة العِبريَّة رسائل من مَسؤولين عن رغبتهم فى وقف الحرب، ويخطب نتنياهو فى الجمهور بالمُواصلة الأبديَّة نحو غاياتٍ عُليا لا حيادَ عنها. والأمريكيون بين مُغازِلٍ ومُهَدِّد، فيما الخطابُ الإيرانىُّ على نغمةٍ واحدة.
سيأتى الردُّ حتمًا، وسيكون خافتًا على الأغلب، ويُستَحسَن التعجيل بالخُطَى الصغيرة لأنها تفقدُ قيمتَها وأثرَها إنْ تأخَّرت. الاكتفاء بالتصعيد ضد إسرائيل يُهدِّد بمُنازلةِ استنزافٍ مفتوحة، كما لا يُجنّبها هوامشَ الخطأ مع ترامب، لأنَّ تعاقُديَّة الضربة لا تفصل الساحتين عن بعضهما، وما بعد «عملية فوردو» لن يُنظَر إليه كما كان قبلها، وسيكون بمقدور حكومة اليمين أن تُسَوّق لواشنطن أنها تتلقّى الصفعات بدلاً عنها، أو حسابًا على ضربتها، فكأنها مساسٌ بالكرامة الأمريكية من جهةٍ غير مُباشرة.
يجبُ ألَّا تكون العقيدةُ قَيدًا على أصحابها ولا مُعوِّقًا لهم. لا دولةَ أكثرُ إغراقًا فى الأُصوليَّة ونصوصها وأوهامها الميثولوجيّة من إسرائيل، لكنها تُتقِنُ البراجماتيَّةَ، وتُوظِّفُ المٌقدَّسَ لخدمة المُدنَّس والدنيوىِّ لا العكس.
قُبَّةُ أىِّ مُفاعلٍ نووىٍّ ليست أعزَّ على الملالى من عمامة المُرشِد، وكلاهما ليس أغلى لدى الإيرانيين من بلدهم الكبير العريق. الردُّ المُنضبط حاجةٌ ظَرفيَّة عالية الأهميّة، والتعقُّل ضرورةٌ وجوديَّة، واستخلاص الدروس أهمّ من مُناطحة الخارج أو محاولة إقناع الداخل بالبأس والمَنعَة والمَهابة.
لم يَعُد النظامُ قابلاً للحياة بصورته المعروفة، وعليه أن يثأر لنفسِه والدولة قطعًا، إنما من مُنطَلقٍ أكثر نضجًا وحصافة. أبسَطُ صوَرِه الصراخ فى وجوه المعتدين، وأشدّها وأكثرها أولويّة وفاعليَّة يبدأ وينتهى عند الثورة على الذات، أو المُبادرة بإصلاح أعطابها، لأنَّ الاختلالات التى أوصَلَتْها للأزمة الراهنة، قادرةٌ على تكرارِ أزماتها وتعميقها، والفاصل بين الحياة والموت قد يكون لحظةً واحدة، يُشَخَّصُ فيها المَرضُ على وجهٍ صحيح، ويُتَّخَذُ قرارٌ شجاعٌ بالاعتراف بالعِلّة العضال، وباستساغة الدواء المُرّ.
Trending Plus