حسين عبد البصير يكتب: مصر صانعة السلام منذ أقدم العصور إلى الآن

عندما نتأمل تاريخ الإنسانية، نجد أن بعض الأمم لعبت دورًا محوريًا في تشكيل الوعي البشري بقيم الاستقرار والعدل والرحمة، ومصر من بين هذه الأمم تبرز باعتبارها من أقدم الحضارات التي جعلت من السلام مشروعًا حضاريًا لا مجرد رد فعل على الحرب.
فمنذ آلاف السنين، كانت مصر القديمة مهدًا لفكرة التوازن الكوني، ومجتمعًا تشكل وعيه الأخلاقي والديني حول قيم "الماعت" – أي الحق والعدل والنظام والسلام، ثم جاءت الأديان، والإمبراطوريات، والدول الحديثة، لتواصل هذا الإرث المصري العريق في دعم السلام، والدعوة إليه، وصناعته بالفعل لا بالخطاب فقط.
آمن المصري القديم بأن الكون لا يقوم على الصراع، بل على التوازن والتناغم، ولذلك اعتبر مبدأ "ماعت" حجر الزاوية في حياته: ماعت لم تكن فقط إلهة العدالة، بل كانت تجسيدًا للسلام الداخلي والخارجي، وللنظام الكوني الذي ينهار بفعل الكذب والظلم والعدوان.
ومن هنا، كان على الحاكم أن يحكم وفقًا لـ"ماعت"، أي أن يكون صانعًا للعدل والسلام، لا جالبًا للخراب.
في العام 1258 قبل الميلاد، وبعد معركة كبرى بين المصريين بقيادة رمسيس الثاني والحيثيين بقيادة خاتوشيلي الثالث، وُقّعت أول معاهدة سلام مكتوبة في التاريخ الإنساني.
المعاهدة، التي نُقشت على جدران المعابد المصرية بلغة واضحة، نصّت على التعاون، وعدم الاعتداء، وتبادل اللاجئين، وهو ما يشبه إلى حد كبير مفاهيم القانون الدولي الحديث.
وقد تم اختيار نسخة منها لتُعرض في مقر الأمم المتحدة، تأكيدًا على ريادة مصر في صناعة السلام منذ فجر التاريخ.
في العصر القبطي، سادت قيم المحبة والغفران، وتحوّلت مصر إلى مركز روحي عالمي، خصوصًا مع انتشار الرهبنة في صعيدها.
الآلاف من المتعبدين توافدوا على أديرة وادي النطرون وأسيوط ليتعلّموا من المصريين كيف يصنع الإنسان سلامه الداخلي ليبثه في مجتمعه.
مع دخول الإسلام إلى مصر، لم تفقد البلاد روحها السلمية، بل عززتها من خلال القيم الإسلامية التي تدعو إلى العدل والإحسان ونبذ الفتنة.
وقد ظهر ذلك جليًا في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي أعاد بناء المجتمع بعد الحروب الصليبية، وفتح الباب للتسامح مع المختلفين دينيًا، فحافظ على اليهود والمسيحيين، ورفع شعارات السلام الدائم.
كما تجلّى الدور السلمي المصري في العصر المملوكي والعثماني، حيث حافظت مصر على مكانتها كأرض آمنة للعلماء واللاجئين والمضطهدين.
بعد ثورة 1952، بدأت مصر تؤسس مفهومًا جديدًا للسلام يقوم على الاستقلال، وعدم الانحياز، واحترام سيادة الدول.
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دعم حركات التحرر السلمي في أفريقيا وآسيا، ورفع شعار "السلام لا يأتي بالتبعية، بل بالكرامة"، وهو ما جعل من مصر صوتًا قويًا في المحافل الدولية.
جاءت حرب أكتوبر لتعيد لمصر كرامتها بعد نكسة 1967، ولكن الأهم هو ما تلا النصر: قرار الرئيس أنور السادات التوجه إلى الكنيست الإسرائيلي، وإبرام معاهدة السلام مع إسرائيل في كامب ديفيد.
على الرغم من الاعتراضات حينها، فإن المعاهدة أعادت الأرض، وفتحت أفقًا جديدًا للمنطقة بأسرها، وأكدت للعالم أن مصر دولة شجاعة في الحرب، وعاقلة في السلام.
منذ تسعينيات القرن العشرين وإلى اليوم، لم تتوقف مصر عن لعب دور الوسيط في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من خلال احتضان حوارات الفصائل، وضمانات التهدئة، وجهود إعادة الإعمار في غزة.
لقد آمنت مصر دائمًا بأن الحل لا يكون إلا سياسيًا، وبأن وحدة الصف الفلسطيني مفتاح لتحقيق السلام العادل.
سواء في ليبيا، أو السودان، أو سوريا، أو اليمن، سعت مصر إلى تجنيب الشعوب العربية ويلات الحروب الأهلية، وطرحت مبادرات متوازنة تنبع من واقعها الإقليمي العريق، ورؤيتها للتعايش كخيار استراتيجي.
في الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية، تطرح مصر دائمًا رؤى تدعو لنزع السلاح، وحل النزاعات عبر الحوار، والتعاون لمواجهة التحديات العالمية: مثل الإرهاب، والهجرة، وتغير المناخ.
ساهمت الرواية، والشعر، والسينما، والموسيقى، والمسرح، في تكريس صورة مصر كأرض للسلام. من نجيب محفوظ إلى أم كلثوم، ومن توفيق الحكيم إلى يوسف شاهين، كانت الأعمال الفنية المصرية نداءً دائمًا إلى الوعي، والحوار، ونبذ العنف.
سعت مصر دائمًا إلى إدخال قيم التسامح في مناهجها التعليمية، وتوجيه إعلامها إلى خطاب العقل، وليس خطاب الفتنة. فعلى الرغم من التحديات، ما تزال مصر تدرك أن صناعة السلام تبدأ من تربية العقول قبل إبرام الاتفاقات.
تاريخ مصر مع السلام ليس مجرد سردية مثالية، بل هو خلاصة تجربة حضارية تمتد لآلاف السنين.
من معاهدة قادش، إلى اتفاقات كامب ديفيد، ومن المعابد المصرية القديمة إلى الأزهر الشريف، ومن مائدة الحوار الوطني إلى طاولة المفاوضات الدولية، كانت مصر دائمًا صانعة للسلام لا تابعة له.
ولهذا فإن مصر – على الرغم من التحديات – تظل الرقم الصعب في معادلة الاستقرار العالمي، وصوت العقل في منطقة تعاني من التوترات، ونموذجًا واقعيًا في أن السلام لا يولد من الضعف، بل من القوة والعقل والضمير.
Trending Plus