خالد دومة يكتب.. العبث المقدس (9).. بقايا امرأة

فإذا عاد آخر المساء، فكل ما يعرفه أن يزف إلى أخبار الناس كل ليلة، وبلا ضجر من تكرار ما يعيد على سماعى كل يوم، وحين كان يقترب منى يقع على كجلف قروي، حيوان يسيل لعابه، يفترسنى كما يفترس حيوان فريستة، وينقض عليها، فإذا أفرغ، تكوم معطينى ظهره، وأخذ يغط فى سبات عميق، أأكون رخيصة إلى هذا الحد؟ أى شعور ينتابني، أظنه شعور المهانة، الذى يتغلغل فى أعماقى لأموت كل ليلة، حاولت أن أرضى نفسي، فلا مهانة فى الأمر، فالكل يفعل، لكن ليس لهم شعور مثل شعوري، ولا يفكرون فيما أفكر، ولا يخطر بقلوبهم ما يخطر بقلبي، كانت الأيام بعد ذلك كفيلة بأن تجعل بيننا سدودا عميقة، وتراكمات لا تنتهي، فلا هم يستطيعون أن يغيروا من أنفسهم، ولا أنا أستطيع أن ألغى عقلى ووجودي، لأنساق خلفهم بلا بصيرة ترشدنى وتلهمنى وتضيء لى الطريق، ولو حاولت لفشلت، فالهوة تتسع بينى وبينهم من ناحية، وبينى وبين زوجى من ناحية أخر، ذهبت غاضبة لبيت أهلى مرات وكانوا يضغطون علي، ويعنفونى دائما على أشياء لا حيلة لى فى تركها، والتغاضى عنها، لأنهم لا يعرفونها، ولم يسمعوا بها من قبل، وتأزمت الأمور، وطالت فترات الغضب، حاولت مراراً أن أتأقلم مع حياتهم، لكننى لا أستطيع، فحياتهم تسير على وتيرة خانقة، تقتل فى الإنسان كل شعور، كل شيء جميل، وتجعل منه ألة يدور فى فلكها، لا يتعداها، طاحونة تدور ليل نهار حول الكلأ والماء، كأنهم لا يؤمنون إلا بالجسد، حتى فى صلاتهم إنما ليجعلوا لأنفسهم رصيد أكبر من المتعة، ومن النساء والطعام والشراب، كأن لا أرواح لهم، ولا قيمة لها ولا وزن، وإنما هى جسر لمتعة أكبر، كأنك تحيا بين كم هائل من اللحوم والشحوم، فلا معنى للحب، إلا أن يكون طريقا، لإطفاء لهيب الجسد، أحلامهم ضحلة، خيالهم مريض، بضاعتهم رخيصة.
هل نحن عجول تُعلف؟ فلا يعنينا من الحياة سوى طيب الغداء؟ دجاجات فى البيت يسمنونها؛ ليلتهموها آخر المساء، كنت أجلس وسطهم غريبة لا أتكلم، فأنا لا أجيد أحاديثهم، لم أعتد أن أتدخل فى أمور الناس، ولماذا أحشر أنفى فى حياتهم، ثم أنى أرفض فى أن يتدخل الناس فى حياتي، فإذا جاء زوجى أخر النهار، تحلقنا حول مائدة الطعام، أذكر أنه قال لى مرة بأنى غريبة الأطوار، وأننى أتعالى عليهم، وأنى لا أعيره شأنا أو أهمية، ويجد منى نفورا حين يحدثني، وأزمعت أمرى على الفراق، فلن أستطيع أن أواصل، ولن نلتقى أبدا فى طريق واحد، أيام طوال للوصول لجذور الخلل، عبث يخلفه عبث، حتى تصل الأمور بين الزوجين إلى الطلاق، بعد جلسات وجلسات، فى محاولات مستميتة للعدول عن أشياء، هى فى الأصل خطأ، لكل امرأة متزوجة، أن يكون لها بيت على حدا، تستشعر فيه حريتها فى بيتها، تكون فيه ملكة البيت، أفى ذلك شيء غير طبيعي، كانت جلسات الصلح التى لا أول لها ولا أخر، أحاديث جوفاء من هنا ومن هناك، كنت فى دوامة من الآف الخيوط التى كانت تلتف حول عنقي، وأنا لا أدري، أشياء هزيلة، قد تكاثرت حتى أصبحت كالشباك أوقعونى فى براثنها، كنت فتاة لا خبرة لى بمكرهم ودهائهم، لا تجارب ولا خبرة حياتية، فلم أكن أجيد المكر والدهاء، صبية فى بداية حياتها، والتى زُجت فيها بغير إرادتها، أستغربت الكثير مما قيل عني، وعرفت أن للناس فى قرانا وجوه كثيرة لا وجه واحد، ولم أكن أعرف، بأننى بهذا السوء فى نظرهم، لأنى فقط أردت أن أحيا كإنسان، بعد عام من الشد والجذب والنزاع المفتعل، والغير مفتعل، عدت إلى بيت أهلي، والحمد لله لم أنجب، حتى لا يكون هناك ضحية، عدت وقد أمتلأت بالخراب وكان أملى فى الأمور أنها سوف تتحسن، فلست أول من فشل فى زواج ولن أكون الأخيرة، وسوف تمر المحنة ولسوف أنسى، ويكفينى ما اكتسبت من تجارب، وأن أبدأ طريقى من جديد، خرجت من بيت أبى طفلة، فرضوا عليها الزواج، وأعود وأنا بقايا امرأة ولكننى أحمل لقباً جديداً، ويا له من لقب لم أكن أدرك خطورة ما عدت به، ولا لعنته، فى قرانا البائسة الظالمة، فهم يختالون الطفولة بأيديهم الآثمة، ثم يرمونها بأبشع ما تتفوه به ألسنتهم السامة، كسرونى رغم أنفي، أغتالوا مهجتى وأفراحى وضحكاتى وقلبي، فلم يبقى منى إلا القليل أعيش به من بقايا الروح المتمردة، وبقايا نفس مهدمة، لعلى أنجح فى ترميم واسترداد ما فقدت، أو تعوضنى الأيام ما سلبوه بالرغم مني، فالطلاق فى قرانا معناه النبذ والجفاء، وأحاديث لا تنقطع ولا تحصى، وأنى أصبحت لقمة سائغة فى أفواههم، فالمرأة التى تنفصل عن زوجها، لاحظ لها فى حياة طبيعية، بعد أن فقدت عذريتها، هى أشبه بجرثومة، يخشاها الجميع مخافة العدوى، الكل يفر منها لأنها أصبحت نذير شؤم.

Trending Plus