لماذا تحب المقاومة الإسلامية الشهادة وتكره الانتصار؟.. "نحو فلسفة جديدة للقوة فى مواجهة الطغيان العالمى"

لا يستوى هذا الذى يذهب إلى الحرب بدافع من الكرامة الوطنية، أو الانتقام، أو المقاومة، أو العاطفة أو الحاجة لتسجيل موقف تاريخى، أو تحت تأثير تعاليم دينية لنيل الشهادة والفوز بسبعين من حور العين فى الجنة، وبين هذا الذى يزحف نحو الحرب وغايته الانتصار الحاسم وتحقيق أهدافه الاستراتيجية كاملة، وإعلاء راية وطنه، والحفاظ على أمن شعبه، فيترك العاطفة خلف ظهره، ويتحرك بالعقل والتخطيط بعيد المدى، ويتحلى بالصبر والفهم العميق لقدرات العدو.
لا نحتاج إلى الكثير من التأمل لندرك أن ما يسمى بمحور المقاومة الإسلامية المسلحة، سواء تمثل فى أنظمة سياسية أم فى ميليشات عسكرية داخل الأراضى المحتلة أو خارجها، لم يزحف يوما نحو الحرب من أجل الانتصار، لكن هذا المحور يعجبه مصطلح (الشهيد)، أكثر مما يروق له مصطلح (المنتصر)، كأن الانتصار عيبا، أو لنقل أن الانتصار (عبئا) لا تستطيع أن تتحمله تلك الأنظمة أو هذه الميليشيات، فالانتصار يحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد والصبر والتعلم والتدريب والتكتم والتحوط والخداع للعدو، لكن الشهادة أبسط وأسهل وأسرع من كل النواحى، فلا عليك سوى أن تطلق صاروخا، أو تفجر سيارة، أو تقتحم كمينا عسكريا، فتنال الشهادة التى سعيت إليها، ويدفع من تبقى خلفك ثمن الهزيمة.
أنا أؤمن أن حروبنا الوطنية الكبرى تحتاج إلى الشهداء، وأؤمن أن الشهداء عند ربهم يرزقون، وأنهم يفرحون بما آتاهم ربهم من رزق ونعيم، لكن هؤلاء الشهداء هم الذين يخرجون فى حروب عادلة ويضعون الانتصار نصب أعينهم، فيأتيهم الله بإحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة، وقد قدم الإسلام النصر على الشهادة، لكن محور المقاومة استبعد مفهوم النصر، واكتفى بأن تكون الشهادة غايته الاستراتيجية، والنتيجة هى ما نراه من انكسار وهزيمة وشتات فى كل منعطفات التاريخ من حولنا.
لا أريدك أن تكمل هذه السطور غاضبا، أو أن تخضع لوهم زائف أننى فى معسكر معادٍ للمقاومة العادلة لتحرير الأرض، حاشا لله، لكننى أريد فقط أن تكون لدى هذه المقاومة (إرادة للتفوق) على قدرات العدو، أكثر من (إرادة الاشتباك) فحسب، فإذا آمنا بإرادة التفوق فإن أساليب مقاومة هذا الطغيان الإقليمى والعالمى قد تتحقق على نحو أكثر نفعا، ليس بالقوة العسكرية وحدها، لكن أشكال هذه القوة قد تتنوع، وقد نجد فى أنفسنا (إذا توافرت لنا إرادة التفوق) أوراقا أخرى، ومفردات قوة مختلفة تستطيع أن تواجه تلك القوة العسكرية الجامحة التى يتمتع بها أهل الطغيان العالمى، ويفرضون بها نفوذهم على أمم الأرض دون خضوع لقانون، ودون اعتبار للإنسانية.
• فما الذى أعنيه هنا بأشكال ومفردات أخرى للقوة؟
أستأذنك هنا أن أستعير مصطلح رسخه (فريدريك نيتشه) وهو (الإنسان الأعلى)، وأستخدم هذا المصطلح هنا كرمز لفكرة (الأمة الأعلى)، فما نحتاجه فى العالم العربى والإسلامى ليس أبطالا يقاتلون فحسب، وشهداء بالملايين يزحفون نحو المجهول، لكننا نريد عقلا عربيا لا يشق طريقه نحو الانتصار مدفوعا (بالكراهية المقدسة) تلك الكراهية التى تجعل الحرب واجبة، والانتقام أسلوب حياة، لكن طريقنا إلى الانتصار يجب أن يتأسس على إعادة بناء إبداعية لقوة لا ترتكز على الرصاص فحسب، بل تنحاز نحو مفاهيم أكثر استمرارية اقتصادية وعلمية وتكنولوجية ومعرفية وإنسانية وحضارية، مفاهيم تمنحنا القدرة على فرض معادلة القوة دون صراخ، ودون زحف مقدس، ودون طموح للاستشهاد أكثر من الفوز بالنصر.
أنظر إلى الصين مثلا، هذا النموذج فى الانتصار الاستراتيجى دون أن تطلق صاروخا على أعدائها فى الغرب، أو تفجر أنابيب للنفط، أو تعتدى على حركة الملاحة التجارية، هذا النصر الهادئ الصامت، هذا المعنى المختلف للقوة والانتصار، بلا دماء، وبلا شهداء، تمردت على التبعية الاقتصادية العالمية، وخلقت بنية تحتية لا مثيل لها فى آسيا، بل فى العالم، لم تهدد الولايات المتحدة بأنها ستسحقها فى التوسع الرقمى، لكنها فعلت ذلك دون حتى أن تحتفل بما حققته على صعيد اقتصاديات التكنولوجيا والمعرفة الرقمية فى العالم.
كانت الصين عدوا مخيفا، ولديها من إمكانيات القوة العسكرية ما يجعلها قادرة على إخضاع جيرانها فى آسيا من الذين يتحصنون ضد بكين فى خنادق الجيش الأمريكى، لكنها لم تفعل، انتصرت بلا أساطيل، وبلا طائرات، انتصرت لأن الصين كان لديها (إرادة التفوق وإرادة القوة)، وخلقت الأمة الأعلى على طريقتها هى، وليست على طريقة جيرانها فى كوريا الشمالية، فما الذى يمكن أن تقوله أنت حين تقارن بين بلد يمتلك القوة النووية، يشاغب بها العالم مثل نظام بيونج يانج، وبين الصين التى بحثت عن انتصارها الخاص، وفازت به أمام أعين العالم، وصارت قدوة دولية فى التقدم والازدهار وثابرت نحو معنى مختلف لقوة الأمة الأعلى.
ثم أنظر أيضا للرئيس السادات ينطبق عليه، فى تقديرى، مصطلح الإنسان الأعلى، الذى سعى لخلق نموذجه الخاص فى الانتصار، لأنه كان يتحلى بإرادة التفوق، السادات لم ينتصر فى ساحة المعركة فحسب، لكنه حسب بدقة ما هو المدى الذى يمكن أن تذهب إليها مدافعه فى المواجهة إن خاضت قوى الطغيان العالمى المعركة جنبا إلى جنب مع إسرائيل، فكانت إرادته للانتصار هى ما دفعته لقبول وقف إطلاق النار، والبحث عن عناصر تفوق أخرى أكثر تنوعا ليكمل طريقه نحو الانتصار الشامل، فأدرك أن النصر حتى وإن كان قويا وحاسما لن يكون كافيا إن لم يترجم فى سلام عادل تلملم به البلاد أشلاءها، وتعيد بناء اقتصادها وتحقق رفاهية شعب أرهقته الحروب الطويلة، لقد امتلك السادات القوة فى أن يعلن أن طريق الدم ليس قدرا أبديا، وأن السيادة والانتصار يمكن أن يتحققا بمفردات أخرى للقوة، ولا عجب فى أن الصحف الأمريكية وصفته بأنه الرجل الأقوى فى الشرق الأوسط، وكان السادات قادرا بخطاب قصير أن يغير المزاج لدى الرأى العام الإسرائيلى لينقلب على حكومته، وأن يصل صوته مباشرة إلى بيوت دافعى الضرائب فى الولايات المتحدة فيغيرون قرارت ينزع إليها أعداء مصر فى الكونجرس أو فى البيت الأبيض.
السادات أعاد تعريف النصر ليس فى صياغته كهيمنة عسكرية فحسب، بل فى القدرة على التحكم فى مصير الأمة، ولو قدر لمشروعه أن يكتمل حتى نهايته ربما كانت مصر فى مكانة أخرى على الخريطة العالمية، وليس مصادفة أيضا أن من قضوا على انتصار السادات، هم رموز الهزيمة الحالية، والهزائم المتكررة فى تاريخ المقاومة العربية والإسلامية.
الأمثلة متعددة لانتصارات لم تتحقق بخوض حروب غير متكافئة، وبتجاهل مذهل للحسابات العسكرية المعقدة فى مواجهة أعدائك، ولو شئنا أن تكون لدينا إرادة الانتصار فإن هذه الأمة لا تنقصها عقول أو أموال أو بشر، نحن قادرون على صنع الفارق، وعلى صياغة انتصار بمعانى أكثر عمقا بلا مزيد من الدماء.
Trending Plus