محمد دياب يكتب: الضربة لم تستهدف طهران وحدها

في لحظة خاطفة، اهتزّت موازين المنطقة بصاروخ، وتغيّر شكل المعادلة بغارة. الولايات المتحدة بدأت بالتحذير، ثم كشفت عن وجهها الحقيقي وضربت العمق الإيراني بضربة جوية مركزة ، استهدفت ما هو أكثر من منشآت... استهدفت هيبة مشروع، ورمزاً سياسياً، وأملاً استراتيجيا عمره أربعون عاماً
فوردو، نطنز، أصفهان… أسماء كانت تُمثّل بالنسبة للإيرانيين "القدس النووي"، فجأة تحوّلت إلى دخان، وبات السؤال الذي يتردّد في المنطقة كلها: هل كُسرت إيران؟ أم أن الجرح لن يلتئم إلا بانفجار؟
أمريكا لا تُطلق صواريخها جزافاً، ولا تترك سلاحها يتكلم قبل حسابات دقيقة فالضربة الأخيرة لم تكن تأديباً، بل كانت رسالة استراتيجية مشفّرة، وُجِّهت في أربعة اتجاهات :
إلى إيران: أن الحلم النووي أصبح تحت الرقابة بالنار... لا بالمفاوضات
إلى إسرائيل: أن الأمن القومي الإسرائيلي لا يزال على رأس أولويات البنتاجون
إلى روسيا والصين: أن واشنطن ما زالت تملك مفاتيح القوة، وقادرة على كسر المعادلات متى شاءت
وإلى العرب: أن كل ما حولكم هشّ... وكل من حولكم متربّص
السيناريو الأول المحتمل لرد إيران على الضربات الأمريكية يتمثل في تنفيذ ضربات محدودة تستهدف بعض الأهداف في تل أبيب، أو مواقع أمريكية ثانوية غير مؤثرة، في محاولة لحفظ ماء الوجه، وتحقيق توازن رمزي يضمن للنظام الإيراني الاستمرار في إظهار تماسكه داخلياً
وقد سارعت طهران إلى الإعلان عن إخلاء مسبق للمفاعلات النووية التي استُهدفت بالغارات، في إشارة موجهة إلى الداخل الإيراني والمجتمع الدولي على حد سواء، مفادها أن تلك الضربات لم تُصِب جوهر البرنامج النووي، وليست ذات أهمية كبرى
في هذا السياق، قد تلجأ إيران إلى الرد غير المباشر عبر حلفائها في المنطقة. إذ يُتوقَّع أن تشهد القواعد الأمريكية في العراق هجمات صاروخية، بينما يزيد الحوثيون من ضرباتهم ضد السفن الأمريكية وحاملات الطائرات في البحر الأحمر. كما قد تُقدِم كتائب حزب الله على تنفيذ هجمات تستهدف أهدافاً إسرائيلية في محاولة لخلق ردع متبادل دون انزلاق إلى مواجهة مباشرة
في هذا السيناريو تتجنب طهران الدخول في صدام مفتوح مع واشنطن، لكنها في المقابل تُطلق حرب استنزاف بالوكالة، تديرها عبر شبكة حلفائها المنتشرين في الجغرافيا الملتهبة من العراق إلى لبنان، ومن اليمن إلى غزة
السيناريو الثانى تختار إيران التصعيد المفتوح، وتُقدِم على ضربات مباشرة تستهدف القواعد العسكرية الأمريكية في العراق والخليج، باستخدام صواريخ باليستية وصواريخ فرط صوتية، سعياً لإحداث صدمة استراتيجية، وكسر الهيبة العسكرية الأمريكية في المنطقة
ولا يتوقف الرد الإيراني المحتمل عند هذا الحد، بل قد يمتد إلى استهداف منشآت نفطية كبرى في دول الجوار، لخلق أزمة طاقة عالمية، وربما نشر ألغام بحرية في مضيق هرمز، مما يعطّل الملاحة الدولية ويهدد بشلّ الاقتصاد العالمي. كما أن طهران قد تُنفذ تهديدها القديم باستهداف مفاعل "ديمونا" الإسرائيلي، باعتباره نقطة تفجير سياسية وعسكرية لا تحتملها تل أبيب
في المقابل، سيكون الرد الأمريكي عنيفاً ومباشراً، يشمل ضربات جوية واسعة على البنية التحتية العسكرية الإيرانية، بما فيها منصات الصواريخ ومخازن الأسلحة ومراكز القيادة، مع احتمالية تنفيذ اغتيالات لقيادات بارزة في الحرس الثوري
في الوقت نفسه، ستتحرك إسرائيل بشكل متوازٍ، وتشن هجمات استباقية ضد حزب الله في لبنان، وجماعة الحوثي في اليمن، بهدف تحييد أذرع إيران قبل أن تتحرك بالكامل
لكن أخطر ما في هذا السيناريو، هو محاولة إيران إغلاق مضيق هرمز، ما سيُعدّ إعلاناً غير مباشر لحرب اقتصادية شاملة. هذا التطور سيدفع واشنطن إلى إطلاق عملية عسكرية كبيرة لإعادة فتح الممر المائي وضمان استمرار تدفق النفط العالمي، ما يعني أن الإقليم سيدخل حالة اشتعال قد لا يمكن احتواؤها بسهولة
اما السيناريو الأكثر منطقية في هذا المشهد المحتدم يقول إن إيران لن تدخل في مفاوضات نووية تحت وقع القصف، خاصة بعد أن تم استهداف أعمدة بنيتها النووية بشكل مباشر ومهين أمام شعبها والعالم
ترامب لم يُفوّت الفرصة، فعرض على طهران "فرصة للسلام"، لكنها فرصة تأتي على فوهة مدفع، وبعد ضربة عسكرية ساحقة. قبول هذا العرض كما هو، يُعدّ في العُرف الإيراني استسلاماً مذلاً، لا يليق بنظام قام على التحدي والصمود
ولهذا، قد تُفضّل إيران خيار التصعيد المؤقت، ولو من باب استعادة جزء من هيبتها العسكرية والسياسية، حتى لو كان الثمن باهظاً
لكن السيناريو الأخطر، الذي يتوجس منه الجميع، هو انزلاق المنطقة إلى حرب مفتوحة، تشترك فيها إسرائيل، وحلفاء طهران من حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وربما فصائل أخرى من العراق وسوريا، ما يستدعي تدخلاً أمريكياً أوسع، كما توعّدت واشنطن في بياناتها الأخيرة
في خضم هذا المشهد المشتعل، حيث تتشابك الخطوط الحمراء، وتتقاطع الحسابات الدولية والإقليمية، تبرز حقيقة صارخة لا جدال فيها
الشرق الأوسط دخل طوراً جديداً من التوتر... مرحلة ما بعد الضربة
ان ما جرى حدث عسكري بحجم التحوّلات التاريخية... يُغيّر موازين القوى، ويُعيد رسم الخرائط، ويُحدّد مصير الإقليم لعقود مقبلة
المنطقة الآن لا تقف على شفا أزمة... بل على حافة الهاوية وما ينتظر الجميع، هو الفصل التالي من هذه المواجهة الكبرى، التي قد يكتب فيها التاريخ من جديد، بلغة الصواريخ والنفوذ والنار
الرابح الآن هو من يتحكم بإدارة النار لا بإشعالها، ومن يمتلك القرار لا رد الفعل، ومن يملك الاستراتيجيات لا الشعارات
أما الخاسر... فهو كل من اعتقد أن صمته سيحميه، أو أن وقوفه على الحياد سينجيه، أو أن حائط داره بعيد عن ألسنة اللهب
ما بعد ضرب إيران، ليس كما قبله والمعادلة الآن تقول: إما منطقة تعيد حساباتها، أو نار لا تبقي ولا تذر لقد قرعت واشنطن الطبول، وفتحت صفحة جديدة من الصراع، والسؤال لم يعد: هل ترد طهران؟
بل: متى، وكيف، وعلى من؟
Trending Plus