اتفاق الضربات المحدودة.. حين تتصافح المدافع تحت الطاولة

لم تكن حربًا، بل مشهدًا مدروسًا في مسرح كبير، أُضيئت أنواره بضرب قاعدة، وأُسدل الستار بعدها بهدوء. كل الأطراف خرجت كما دخلت، إلا من بعض الرماد على الملامح، وخوفٍ مصطنع في العيون.
ضُربت قاعدة “العديد” في الخليج، فارتفعت الأصوات في المنطقة، واهتزت الشاشات، وبدأت التكهنات. لكن شيئًا في الخلفية كان يُحاك. شيء يشبه الرضا العام. إيران لم تصرخ، وإسرائيل لم تستنفر، وواشنطن اكتفت بنظرة صامتة.. كأنها كانت تعلم.
كأن كلّها اتراضت.
فـالكيان الصهيوني لم يتحرك هذه المرة لمجرد الاستعراض، بل بدافع القلق. رأى في لحظة ضعف حزب الله وسقوط نظام الأسد فرصة ذهبية لتصفية الحساب مع الشبح النووي الإيراني. لكنه حين نزل إلى ساحة الاشتباك، اكتشف أن ظلّ إيران أطول من المتوقع، وأن القبة الحديدية تتنفس بصعوبة، والملاجئ تمتلئ وتختنق وترتجف من فرط صوت الانفجارات القريبة وكل من فيها يحلم بالفرار من هذه الأرض التي تحولت لطريق يودي للموت وصدى انفاس الخائفين يلعن في الشهيق والزفير نتنياهو الذي اوحلنا هنا
فلم يكن أمامه سوى أن يرفع سماعة الهاتف، ويستدعي الحامي القديم: الراعي الأمريكي.
جاء الدعم كما يجيء دائمًا: بطيئًا لكنه محسوبًا، على وقع الضربات المتبادلة، وبإخراج لا يسمح بالانفجار الكامل ولا التراجع المذل.
أما واشنطن، فكانت حاضرة بعينها وإن لم تُطلق رصاصة. راقبت المشهد من خلف الزجاج، وسجّلت هدفًا استراتيجيًا دون أن تنزل الملعب. اختُبر رد الفعل، وانطفأ اللهيب بسرعة مُريبة.
وإيران؟
بقيت. النظام لم يسقط، العاصمة لم تُقصف، الوليّ الفقيه لم يُخلع، بل ربما جلس مساء ذلك اليوم يتلو آيات النصر على شعبه، ويخبرهم أن بقاء الجمهورية في حد ذاته “إنجاز”.
وهكذا خرج الجميع منتصرًا… في روايته الخاصة.
لكن الحقيقة كانت في منتصف الطريق: الكل ربح قليلًا وخسر كثيرًا، والدم وحده الذي لم يُسأل عن رأيه.
**
هكذا تُدار الحروب في زمن ما بعد الحقيقة. لا منتصر ولا مهزوم. فقط اتفاق ضمني على سقف الخسارة وحدود الضربة.
تُصاغ المعارك كما تُصاغ العروض السياسية: توازن مطلوب، رعب محسوب، وانفجار مضبوط التوقيت.
والأهم؟
الإبقاء على فزاعة الملالي في المشهد. لا لإسقاطهم، بل لاستمرار وظيفتهم: إخافة الخليج، حلبُه، وابتزازه. لا يُراد لهذه الفزاعة أن تنهار، بل أن تظل واقفة على قدمٍ واحدة، تتمايل بما يكفي لإثارة الفزع، وتثبت بما يكفي لعدم الانهيار.
من هنا، نفهم لماذا الحرب بدأت وانتهت في خبرٍ عاجل. ولماذا لم يُفتح باب التصعيد، بل أُغلق خلفه بإحكام.
نفهم لماذا كانت كل المؤشرات تقول: “لا حرب”، رغم دخان الضربة. ولماذا خرج الجميع يقول: “انتصرنا”، رغم غياب المعركة.
لأنها ببساطة… ليست حربًا، بل مشهد.
والكل اتفق على السيناريو، والكل قبض ثمن الدور.
ولأن هذا زمن الوظائف لا المبادئ، والحروب لا تُخاض إلا لأغراض قابلة للمقايضة، فإن كل قصفٍ الآن يحمل في داخله فاتورة، وكل قاعدة تُضرب يُنظر إلى رمادها لا كدمار، بل كإيصال استلام.
هكذا تُكتب نهاية الحروب قبل أن تبدأ.
Trending Plus