الرقص على حافة الروح.. معايشة بين دوامات فرقة التنورة التراثية.. على إيقاع الدف والمزمار تُقدَّم العروض منذ 37 عامًا.. مدير الفرقة: الجمهور الأجنبى الأكثر شغفا.. ورقصنا على مسرح المولوية فأبهرنا الأتراك

فى قلب القاهرة الفاطمية وبين جدران قصر الغورى العتيق، يولد مساء كل أربعاء وسبت مشهد من السحر الشرقى الصافى، هناك، لا تضاء الأنوار بالكهرباء فقط، بل بدوران تنورة تلمع بألوانها، وتدوى أصوات الدفوف والمزمار، ويغوص الجمهور أجنبيًا كان أو مصريًا فى تجربة من الروح والجسد، يقدمها فن مصرى خالص اسمه فرقة التنورة التراثية.
منذ عام 1988، وهذه الفرقة التي تأسست على يد مجموعة من الأشقاء والأقارب، لا تزال تدور دون توقف، تقدم عروضها فى الداخل والخارج، وتمنح التصوف جسدًا راقصًا، و"التراث" حياة لا تنتهى عند حدود الماضى.
"اليوم السابع" عايش تجربة فرقة التنورة التراثية منذ لحظة البروفة حتى لحظة الإبهار أمام الجمهور، فكانت الرحلة مزيجًا من الحركات المدروسة، والخشوع الإيقاعى، والابتسامة الصادقة.
لا توجد فرقة مثلنا.. فن مصرى 100%
مدير الفرقة، محمد صلاح، رجل تبدو على ملامحه علامات العشق للفن، والذى قال: بدأت فكرة التنورة من فكرة "الدوران" من تركيا من خلال "المولوية" وهى فكرة فلسفية ترمز للكون الذى يبدأ من نقطة ما وينتهى عند نفس النقطة، وبدأت الفرقة من 10 أشخاص ووصلت الآن إلى 60 عضوا، من بينهم 10 راقصين تنورة و20 راقصا و5 إيقاع و3 مزمار وغيرهم.
وأضاف محمد صلاح، استعنا بفكرة اللف أو الدوران وقمنا بإنشاء فن التنورة، والتي تعد فكرة مصرية 100%، وقد أنشئت فرقة التنورة التراثية في فبراير عام 1988 بمقر قصر الغوري، وتكونت آنذاك من 10 أشخاص كلهم أخوة وأولاد عم، منهم من توفاه الله ومنهم من خرج على المعاش في السن القانونية، وعندما نشأت الفرقة قامت الأسرة بعمل بعض العروض التي تشبه التنورة ولكنها لم تكن مكتملة بنفس الصورة الموجودة حاليًا، حيث كانوا يستخدمون الدفوف والطبل، بالإضافة إلى الراقص الذي كان يرتدي "جيب" ويقوم بأداء حركة "اللف" وبعدها توارث الفكرة حتى أرادوا إنشاء فرقة رسمية تكون تابعة لوزارة الثقافة.

محمد صلاح مدير فرقة التنورة التراثية
واستكمل محمد صلاح حديثه، أن فن التنورة هو هواية ومستوحى من حالة الروح، كما أنه موهبة، وبنسبة 70% تقريبًا من أعضاء الفرقة غير دارسين للموسيقى ولكنهم توارثوا المهنة عن غيرهم، فتجد الابن والأب أو الأستاذ وتلميذه، وهناك نوعان من رقصة التنورة، أولهما هو التنورة الصوفية والثاني هو التنورة الاستعراضية، التنورة الصوفية تم تجميعها بألوانها حسب الطرق الصوفية، فهناك اختلاف بين ألوان الطرق الشاذلية المحمدية والجعفرية، فقمنا بأخذ فكرة التصوف وجمعها في رقصة التنورة بألوانها، كما أن فن التنورة الصوفي فن يتجلى ويتحلى حتى يصل إلى حالة من الشغف حيث الشعور بالحرية والطيران الحر في السماء.
وأضاف محمد صلاح أن رقصة التنورة الصوفية تعتمد على الإيقاع والسلامية والربابة والإنشاد الديني، وفكرة الدوران نفسها في التنورة الصوفية ترجع إلى وجود راقص أساسي "اللفيف" وحوله 7 أشخاص "حناتيه" يمسكون حانات في أيديهم ويرتدون الزي الأبيض، وذلك يرمز إلى قرص الشمس ومن حوله الكواكب، وخلال الرقصة يحاول الراقصون جميهم التعبير عن الإنشاد بالأداء الحركي، وفي بداية العرض يكون اللفيف مرتديا تنورتين والعنتريه "الجاكيت" وعندما يبدأ المنشد في الإنشاد يقوم الراقص بخلع العنتريه، وذلك في تعبير عن الطيران الحر والتخلي من الذنوب، وهنا يقوم الراقص بخلع التنورة الأولى ورفعها عاليًا وكأنه صعد معها إلى السماء، تاركًا ذنوبة خلفه.

فرقة التنورة تؤدي عروضها
وأوضح محمد صلاح مدير الفرقة أن رحلة التنورة مرت بثلاثة أجيال حتى الآن حيث الجيل الأول وهم منشئوا فرقة التنورة والجيل الثاني ثم الجيل الثالث وهو الجيل الحالي من الراقصين، وفي بداية إنشاء الفرقة كان هناك إقبال كبير على العروض، خاصة من الجمهور الأجنبي أكثر من الجمهور العربي، ومع زيادة العروض الخاصة بالفرقة وبداية انتشارها خارج الجمهورية زاد عدد أعضاء الفرقة إلى 20 عضوا، مضيفًا أنه لا يوجد فرقة تنورة في العالم إلا فرقة التنورة التراثية الموجودة في مصر وكذلك لا يوجد فرقة أخرى في الجمهورة تمثل مصر سوى تلك الفرقة، والتابعة لوزارة الثقافة المصرية.
وأضاف محمد صلاح: قد لحقت بالفرقة بعد مجموعة من الاختبارات، وبسبب أنها موهبة في البداية فكان لدي بعض المعلومات والعِلم عن طريقة الدوران بالتنورة، وبعدها التحقت بالفرقة، وفي تجربة الجيل الثاني من فرقة التنورة والذي أنتمى له أثناء السفر خارج مصر دائمًا ما تجد ردود الفعل المختلفة خاصة في الدول الأجنبية الذين لا يفهمون ما يُقال من أناشيد دينية خلال العرض، ولكنهم يشعورن به، خاصة أن التنورة تعتمد على الإحساس، وذلك ليس خارج مصر فقط، فهنا في قبة الغوري تجد أن أغلب جمهور العرض من دول أجنبية، ورغم عدم فهمهم لعرض التنورة إلا أنهم بعد مشاهدته تجد انبهارا واضحا في نظاراتهم حيث التساؤل حول كيفية أداء تلك العروض بتلك الطريقة.

جانب من عرض فرقة التنورة التراثية
وتابع محمد صلاح أن السفر خارج مصر كان هدفه التبادل الثقافي مع الدول الأخرى، حيث تقوم الدول بتقديم فنونهم المتنوعة داخل مصر، كما تقدم مصر أيضًا فنونها التراثية في الدول الأخرى، خاصة أن فرقة التنورة التراثية هي فرقة تابعة لوزارة الثقافة المصرية، وفي البداية لم تكن تلك الدول تدرك معنى كلمة تنورة أو حتى شكل الفن الذي تقدمه الفرقة، ومع بداية العروض ظهر انبهار واضح من الجمهور سواء بالموسيقى أو بالألحان أو بالحركات الخاصة بالعرض، لدرجة أن الكثير بدأ في التساؤل عن كيفية تعلم ذلك الفن.
وفى فن التنورة نحن نقدم ما يسمى بالسهل الممتنع، فبرغم سهولة ذلك الفن إلا أنه من الصعب أن يقوم أحد الأشخاص غير الدارسين أن يقوموا بالتنفيذ، وقد سافرت فرقة التنورة التراثية جميع دول العالم تقريبًا حيث سافرنا إلى "كندا - الولايات المتحدة الأمريكية - فنزويلا - النمسا- التشيك - المجر - رومانيا - بلغاريا - تركيا - سويسرا - فرنسا - بلجيكا - هولاندا - اسبانيا -البرتغال - المملكة المتحدة - إيطاليا - اليونان - مالطا - السويد - النرويج - الدانمارك - فلندا - ألمانيا - استراليا - اليابان - الصين - كوريا الشمالية - كوريا الجنوبية - سنغافورة - الهند - أذربيجان – أوزبكستان - هونج كونج - أندونيسيا - كينيا - المغرب - الجزائر - تونس - الاردن - سوريا - لبنان - المملكة العربية السعودية - اليمن - الامارات - قطر – ليبيا".
فى قلب المولوية.. عندما رقصت التنورة المصرية في تركيا
من أبرز المحطات التي يرويها محمد صلاح، زيارة الفرقة لتركيا، ويقول: من المواقف الخالدة في ذاكرتنا عندما سافرنا إلى تركيا وطلب منا المسئولون هناك إقامة عرض التنورة على مسرح المولوية "مسرح جلال الدين الرومي" وهو ما كان تحديا كبيرا بالنسبة لنا، حيث إن الأتراك يعتقدون أن المولوية هي "الكون" ولكننا استطعنا -بفضل الله- أن نقدم العرض بالفلكلور والطابع المصري الأصيل، كان هناك فرق واضح وتبدلت فكرة الرفض لديهم بعدم وجود أي نوع من الفن له علاقة بالدوران سوا المولوية، بالقبول والثناء على العرض، وذلك رغم وجود صعوبات في البداية بسبب رفضهم تقديم العرض في ذلك المسرح تحديدًا، كما شهد العرض تأمين شديد من الأمن والحراسة ووجود للسفارة المصرية التي حرصت على تقديم الدعم اللازم لنا، وبعدها سافرنا إلى تركيا مرات أخرى.
مقطوعة "التحميلة".. السهل الممتنع
قبل أي عرض، تعزف مقطوعة موسيقية تراثية تعرف بـ"التحميلة"، يستخدم فيها العازفون الدفوف، والطبول، والصاجات، والمزمار البلدي، هذه المقطوعة تبرز مهارة كل عازف وتعد اختبارًا حيًا للإبداع الشعبي، يقول "صلاح" إنها "سهلة على السمع، صعبة في الأداء"، وتُحاكي الروح المصرية في بساطتها وتعقيدها في آن واحد.
.jpg)
جانب من عرض فرقة التنورة التراثية
ألوان السماء السبع فى التنورة الاستعراضية
وتحدث محمد صلاح عن النوع الآخر من رقص التنورة وهو التنورة الاستعراضي، والذي يضم المزمار والطبل والصاجات والتي ترمز إلى ألوان السماء السبع بسبب تنوع الألوان الموجودة في زي رقصة التنورة الاستعراضية والتي تختلف بشكل واضح عن التنورة الصوفية، وتعتمد رقصة التنورة الاستعراضية على لياقة الراقص والموهبة والإحساس بالعرض والنظر بين أعضاء الفريق، ويتضمن العرض أيضًا مجموعة من الحركات الاستعراضية كعمل فانوس رمضان بالتنورة أو عمل أشكال مختلفة أخرى.

عرض التنورة
وحول موعد تقديم العروض أوضح محمد صلاح أنه يتم تقديم العروض يومي السبت والأربعاء من كل أسبوع وهناك بروفات عديدة تسبق العروض، حيث البروفة الأساسية تكون يوم الاثنين من كل أسبوع بالإضافة إلى تحضيرات وحركات إحماء تستمر لمدة ساعة أو ساعة وربع تقريبًا وتسبق انطلاق العرض الأساسي، ويتضمن العرض المتكامل لمدة ساعة ونصف، من فقرة التحميلة وبعدها فقرة التنورة الصوفية وبعدها التنورة الاستعراضي.
المدرسة.. حيث يورث الفن كأنشودة
وتابع محمد صلاح: نمتلك مدرسة لتعليم التنورة وهي نفس المدرسة التي تخرجت منها، وتبدأ التدريب فيها من سن 8 سنوات وحتى 16 سنة، وهي فترة الدراسة الأساسية، وبعدها يتم التأهيل إلى الفرقة الأساسية من فوق 16 سنة وحتى السن القانوني، وهناك بعض الجمهور حينما يرى العرض يرغب في التعلم، وهذا الأمر يرجع إلى مجموعة من التدريبات والمجهود الكبير من المتعلم نفسه، بالإضافة إلى نسبة الاستيعاب التي تختلف من متعلم إلى آخر فمن الممكن أن يتعلم في شهر أو سنة ومن الممكن أيضًا عدم إمكانيته التعلم فالأمر يرجع إلى الاستمرارية والتدريبات الدائمة، وحتى يستطيع التعلم بصورة صحيحة فيجب وجود مدرب مخصص سواء كراقص تنورة أو عازف على إحدى آلات الفرقة، وهو ما تمتلكه المدرسة بالفعل.

فرقة التنورة التراثية على مسرح قبة الغوري
وأضاف محمد صلاح أننا نحاول الحفاظ على تراث التنورة من خلال التوريث، حيث يورث الأب ابنه ويورث الأستاذ تلميذه، وفي الفرقة هنا يوجد 5 أخوة مع بعضهم البعض، بالإضافة إلى أخين ووالدهم، ورغم ذلك فخلال فترة العرض لا تجد أبا وابنه فكلنا أعضاء وكلنا ننتمى لفرقة التنورة التراثية، حتى نتمكن من تقديم فن تراثي هادف ينال إعجاب الجميع، وفي نفس الوقت نمثل مصر أمام الجمهور الأجنبي الذي يتواجد بشكل دائم في العروض.
وتحرص وزارة الثقافة بشكل دائم على تقديم الدعم المطلوب، حيث توفير الإمكانيات، كما تضم الفرقة مدير عام ورئيس إدارة مركزية للشئون الفنية، ورئيس هيئة، بالإضافة إلى الدعم الذي يقدمه الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة المصرية بنفسه.
كما أكد محمد صلاح أنه لا يقتصر عمل الفرقة على العرض الأساسي بقبة الغوري فقط، حيث إننا نمتلك برنامجا فنيا متنوعا داخل مختلف أنحاء الجمهورية، فنحن نقدم عروضنا في بعض الجامعات، مثل جامعة عين شمس، بالإضافة إلى بعض الأماكن الحكومية والمستشفيات.
حين تترجم إيطاليا أناشيدي
في زاوية أخرى من قاعة البروفة، وقف سعيد الموجي، أحد أبرز منشدي الفرقة، الذى بدأ كطبال، ثم تحول إلى منشد منذ أكثر من 25 عامًا، وبصوت مهيب يقول: بدأت وأنا في عمر الـ20 سنة، وكانت بدايتي كطبال مع منشد، وبعدها قمت بتكوين فرقة إنشاد نقدم الإنشاد الديني في الموالد والليالي، وبعدها انضممت لفرقة التنورة التراثية، وذلك منذ حوالي 25 عاما.

انشاد فرقة التنورة التراثية
وأضاف سعيد الموجي، أن الخوف هو سمة من سمات البشرية، فإن اختفى ذلك الشعور لن يكون هناك توازن، فعندما أصعد إلى المسرح يكون هناك "شبه رهبة"، ومجرد بدأ العرض والموسيقى يزول ذلك الشعور، خاصة مع زيادة عدد الجمهور.
وعن تعامل الجمهور الأجنبي مع العروض خاصة مع اختلاف اللغة قال سعيد الموجي إنه في إحدى زيارات الفرقة إلى إيطاليا قام الأشخاص هناك بترجمة الإنشاد الديني الذي قدمه خلال الحفل.

المنشد سعيد الموجي
الرقص ضد الريح
عمر أشرف جمال، أحد راقصي الفرقة، ورث المهنة عن والده، وتحدث عن بداية رحلته مع التنورة قائلا: بدأت رحلتي مع التنورة منذ 12 عام، عندما أعطاني والدي "تنورة" وبدأت الرقص معهم في الموالد في صغري حتى تعلمت الرقص بصورة مبدأية، وبعدها زادت خبرتي بمجموعة من الكورسات والتدريبات إلى أن انضممت إلى الفرقة منذ ثلاث سنوات تقريبًا.
وتابع "عمر" أن للمسرح رهبة كبيرة فيكون لدينا جزء من الخوف أثناء الصعود على المسرح لتقديم العرض، ومن أصعب المواقف التي قد نتعرض لها كراقصين عندما تزداد الريح فجأة أثناء العرض، وهو ما قد يؤثر بصورة سلبية على توازني على المسرح، وفي حالة ضيقة التنفس التي قد تواجهني أثناء الرقص فيجب كتم الأنفاس حتى أستعيد حركة التنفس بصورة طبيعية، وبخلاف ذلك يمكنني الرقص على المسرح أو في العروض المختلفة لمدة نصف ساعة تقريبًا أو تزيد قليلًا.

الراقص عمر أشرف
من باريس إلى قبة الغوري.. الجمهور لا يرفع عينيه عن العرض
ومن بين الجمهور الذى حرص على حضور العرض، كانت تجلس "ياسمين"، التي تعيش في حالة انبهار مع العرض، وهي أحد الجمهور المتابع للعرض من دولة باريس.
وحرص اليوم السابع خلال معايشته مع فرقة التنورة أن يتحدث مع "ياسمين"، والتي قالت: أرى أن العرض كان حماسيا من البداية وحتى النهاية وكان يبدوا كأنه سريع جدًا، كما أنه كان علينا أن ننظر ونسمع في نفس الوقت بسبب سرعة وحماسة العرض والموسيقى أيضًا، ولا يمكنك التوقف عن النظر إلى العرض، حيث إن كل شخص من الفرقة يفعل شيئا مختلفا، وأكثر ما أعجبت به أن الجميع كانوا يبتسمون، فهناك حالة من السعادة والبهجة وهو شيء جيد جدًا.

ياسمين
الفن حين يكون وطنًا
فرقة التنورة ليست مجرد عرض فني، بل أرشيف حي للروح المصرية، هي تجسيد لفكرة الانتماء الحي، حيث يورث الفن، وتزرع البهجة، وتضاء مصر بعيون من لا يفهمون اللغة لكن يطربون بالروح، ووفي زمن السرعة الرقمية، تظل رقصة التنورة تنبهنا أن بعض الفنون لا يمكن أن تحكى بكلمات أو تختزل في مقطع فيديو، بل يجب أن تعاش.. على أرض مصر، في حضرة الضوء، وتحت قبة الغوري، وغيرها من الأماكن التي تقام عليها استعراضات التنورة ليعلو الفن في سماء التراث.

التنورة
Trending Plus